في مقابلة تلفزيونية طويلة، وفي لحظة توتر حاد، صدرت مني عبارة لا تتجاوز بضع ثوان، فاجتزئت من سياقها، وفصلت عن مضمون الحوار الكامل، ثم قدمت للرأي العام بصورة مشوهة.
أقولها بصدق: أعتذر لا دفاعا ولا تبريرا، بل أداء لواجب أخلاقي أمام أسرة الشهيد، وأمام كل من تألم من العبارة، وإن اجتزئت.
لكني أتساءل في الوقت نفسه: كيف يتجاهل أولئك الذين استغلوا عبارة مجتزأة، أنني قلت، وفي نفس القناة، وفي مقابلة من أكثر المقابلات انتشارا وتقطيعا، ما لم يقله غيري من إنصاف وثناء في حق الشهيد محمد الامين ولد انجيان؟
كيف أغفلوا أنني وصفته بالشجاع النزيه، وأنني قلت إنه واجه وحده حين فر غيره؟
لم يكن كلامي تسريبا، ولا همسا في مجلس، بل شهادة علنية، مدوية، في وضح الشاشة، أمام الناس جميعا، لا خارجها.
لكنهم مروا على ذلك كله، ووقفوا عند جملة منزوعة من سياقها، وقدموها كأنها كل ما قيل.
وأكرر مرة أخرى أنه، وفي ضوضاء معركة فاصلة بين سقوط النظام أو نجاته، فر من سرقوا ودمروا، ولم ينطقوا حتى بشطر كلمة، وحده الشهيد محمد الامين ولد انجيان، النزيه غير المتزلف، تصدى للمعركة بشجاعة وصمت. لم يدافع عن مصالحه، بل دافع عما آمن به، ومضى كجدار أخير صلب حين تهاوت الجدران.
قدم روحه الطاهرة ذودا عن النظام.
لكن المفارقة الجارحة أن اسمه وضع، بعد الرحيل، في خانة الذين لم يخلصوا، وكأن الموت في سبيل المبادئ لم يكن كافيا لإثبات البراءة.
وفي هذا المقام، أتوجه إلى أحد آباء أحفاد الشهيد، الذي عبّر عن غضب مشروع، فأقول له: أنصف مشاعرك، وأتفهم ألمك، لكن بلغ عني لأحفاد ذلك الرجل العظيم أن جدهم كان بطلا نادرا، نزيها، شجاعا. ومن الوفاء له أن يكونوا مثله، لا يتزلفون، ولا يساومون، بل يكونوا شرفاء كما كان، أوفياء كما عاش، صادقين كما استشهد.
أما أولئك الذين اقتطعوا كلامي، فأذكرهم بقول الله تعالى: ولا تقربوا الصلاة…، ومن وقف عند هذا الموضع وترك الباقي، فقد شوّه المعنى، كما شوّهت المقابلة.
في زمن القطع والتقطيع، صار من السهل أن يتحول الكلام إلى طعن في الظهر بدل المواجهة الصادقة. لكنني أؤمن أن الله عدل، وعدله لا يقارن بعدل البشر. وقد قال في كتابه: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.
في ميزان مناقض فاضربوا العبارة المجتزأة في عشرة، ثم ضعوها في كفة، وضعوا في الكفة الأخرى ما قلته من إنصاف بحق الرجل، ثم زنوا بينهما، تروا من الظالم.
أما في ميزان الله، فحتى السيئة تغفر، والتوبة تبدل حسنات، كما قال تعالى: إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات.
فكيف بمن لم يتعمد الإساءة، وكان قصده البيان لا الجرح؟ أليس قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في “صحيح مسلم” أن رجلا ضل راحلته في صحراء، فلما وجدها قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح؟
فإذا كان الخطأ اللفظي المغلوب عليه مغفورا، فكيف بخطاب مطول اجتزئ منه ما يشوّه المعنى، ويقلب المقصود إلى ضده؟
لذلك، فليكن هذا الاعتذار بابا لاعتذار جماعي، من كل من جمع ثروته من الحرام، أو سرق موقعا لا يستحقه، أو كسر ظهر مشروع وطني، أو همّش مستحقا.
وأقول بصدق: إذا كانت هذه الحملة، وهذا الضجيج، سيعيدان الاعتبار لدور الشهيد، وإنصافه بعد أن غيّبت بطولته، فإنني في أكثر نشوات الفرح.
وأؤكد أن قناة صحراء 24 التي بثت المقابلة، والتي عرفني الرأي من خلال قناتها، لم تطلب مني قط أن أتبنى سردية معينة، ولم توجهني، ولا كانت شريكا في التقطيع، وأشهد بذلك أمام الجميع.
ثم أقول لمن طعنني من الخلف دفاعا عن ذلك النظام الذي أسقطناه، إنه كان بمقدوري أن أنهي هذا الضجيج بخمس جمل في قتل خارج القانون وخارج ساحة المعركة، أعرف تفاصيله بدقة، لكن شعاري:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة، وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام.
والسلام عليكم ورحمة الله
ولا نامت أعين الجبناء العاجزين عن الصدع بالحق
والطامعين من خلال التزلف والنفاق
أحمدو ولد أمبارك