نحن والصين..

بعد العديد من اللقاءات التي بدأت مع زيارتي الرسمية لغينيا في نوفمبر 1963، أقامت الجمهورية الإسلامية الموريتانية وجمهورية الصين الشعبية علاقات ديبلوماسية في 19 يوليو 1965. وتم على إثر ذلك قطع علاقاتنا الديبلوماسية مع تيوان (فورموزا) التي فتحت، في فبراير 1961، أول سفارة في نواكشوط ظلت على مدى أشهر عدة السفارة الوحيدة في عاصمتنا قيد البناء.
ومنذ ذلك التاريخ، تطورت بسرعة علاقات الصداقة الموريتانية الصينية. فقد وصلت إلى نواكشوط في مايو 1966 بعثة ثقافية صينية مكلفة من حكومتها بأن تدرس مع حكومتنا مشروعي بناء دارين للثقافة والشباب في نواكشوط. وفي أغسطس الموالي وصل أولى الخبراء الصينيون لدراسة إمكانات زراعة الأرز في سهل امبريه القريب من روصو. وقام وفد موريتاني بقيادة وزير الشؤون الخارجية بيران ممدو وَانْ بزيارة بكين في الفترة ما بين 11 و17 فبراير 1967 حيث استقبل بحفاوة. وهيأت تلك البعثة زيارتي الرسمية ووقعت أولى اتفاقيات التعاون. وقمت بزيارتي الرسمية الأولى للصين ما بين 20 و 23 أكتوبر الموالي في خضم الثورة الثقافية. وستشفع تلك الزيارة بزيارتين رسميتين في 1974 و1977.
لقد كانت أولى صلات الوفد الموريتاني بالصين في «كانتون» حيث نزلنا من طائرة تابعة للخطوط الجوية الباكستانية. واستقبلتنا اللجنة الثورية وسكان المدينة استقبالا حارًا ومتعدد الألوان، وأمضينا الليلة بتلك المدينة يحيطنا مضيفونا بعناية كبيرة. وتوجهنا صبيحة الغد إلى بكين على متن طائرة خاصة جاءت من العاصمة لتنقلنا إليها. وخلال الرحلة من كانتون إلى بكين وزع علينا أعضاء لجنة الاستقبال أعدادا كثيرة من «الكتيب الأحمر». وعلى مدى الرحلة، تمت باستمرار قراءة أفكار الرئيس ماوتسى تونغ والتعليق عليها.
واستقبلنا رئيس الوزراء شوان لاي بالمطار. وكان الاستقبال الشعبي مثيرًا للإعجاب من حيث حجمه وحرارته.
ووقف رئيس الوزراء إلى جانبي في سيارة مكشوفة من المطار إلى دار الضيافة وبدا جد مرتاح من حرارة الاستقبال، ذلك الاستقبال الذي علقت عليه إحدى الجرائد قائلة «إننى استقبلني من الأشخاص ما يفوق سكان الجمهورية الإسلامية الموريتانية…». هل كان الصحفي مبالغا؟ لا أعرف. وعلى أية حال فقد أدركت لأول مرة معنى «الوفرة العددية الكبيرة» و«الأمواج البشرية»، فأنا موجود فعلا في الصين! وقد أطلق المستقبلون عددا لا متناهيا من البالونات في سماء بكين. وغمرت الفضاء ضوضاء لا يمكن وصفها مصمة للآذان اختلطت فيها أصوات الآلات الموسيقية بصيحات الجماهير المحتشدة على جنبات الشوارع.
ومنذ الاتصالات الأولى حصل تجاوب بيني وبين السيد شوان لاي ومال كل منا إلى الآخر. وقد فوجئت بتواضعه واستعداده ولباقته. ومن باب النكتة أنه بذل كل تجربته البيداغوجية الطويلة ليعلمني طريقة الأكل بالعيدان. وكنت للأسف تلميذا غير نجيب مما جعله يقترح علي في النهاية أن أتناول الطعام بالمعدات المألوفة من شوكة وسكين وملعقة. وفضلا عن المأدبة الرسمية، جاء مرتين أو ثلاث مرات للعشاء أو الغداء معى. وبكل تواضع، ناولني بنفسه بعض المأكولات أثناء تلك الوجبات. ورغم مهامه الجسيمة، رافقني خلال زيارات لبعض المراكز الهامة في العاصمة وضواحيها. وأتذكر بوجه خاص الزيارة التي قمت بها رفقته لأحد مصانع الحديد الكبيرة في منطقة بكين.
واندهشت خلال محادثاتنا المتعددة من معرفته العميقة بالقضايا الإفريقية والعربية وبقضايا بلادي كذلك. وعلى هذا الصعيد، كان من بين القضايا التي طرحت على مضيفي مشروعي بنية تحتية أساسيين بالنسبة لتنمية بلادي وهما طريق الأمل الرابط بين نواكشوط والنعمة وميناء المياه العميقة بنواكشوط؛ وهما المشروعان اللذان يرفض أي مصدر تمويل غربي إنجازهما بحجة كلفتهما المرتفعة جدًا لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار مفهوم الغربيين المقدس للمردودية. وإذا كان محدثي لم يعط التزاما صريحا، فقد تعهد بدراسة هذين المشروعين بعناية وإعطائي جوابا في أقرب فرصة ممكنة. وبالمقابل، التزم بإنجاز عدة مشاريع في قطاعات مختلفة زراعية وصحية وفي مجال المياه والثقافة والشباب.
وخلال المحادثات نفسها، أبلغته رسالة الرئيس ناصر وسبق أن ذكرت رده الإيجابي عليها. وكلفني بدوره بمهمتي وساطة أقل ما يقال عنهما إنهما غير متوقعتان، وسأتحدث عنهما لاحقا.
أما الحدث البارز الآخر في مقامي الصيني الأول فهو لقائي المطول مع الرئيس ماوتسي تونغ. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ماوتسي تونغ عملاق من عمالقة التاريخ في عصرنا. ويشعر المرء بقوة جذب غريبة وتأثير ساحر عند أول لقاء معه. وقد خامرني قبله هذا الشعور مع ديغول وناصر وبدرجة أقل مع تيتو Tito وكندي Kenedy.
ودامت محادثاتنا أزيد من ساعتين. وكان حفيًا بشوشا يحيط به أساسا لين بياوLin Piao وشوان لاي، ويدخن بلا انقطاع. وقد أبدى استعدادًا كبيرًا، وطرح علي كثيرًا من الأسئلة عن إفريقيا والعالم العربي وموريتانيا. وحدثني عن الاستعمار والإمبريالية في العالم، وعن الثورة الثقافية في الصين. وفاجأني بمعرفته بالقضايا المثارة.
ويبدو أن محدثي الذائع الصيت سعى في وقت ما من محادثاتنا إلى إضفاء مزيد من الودية على جو لقائنا، فأثار – بتعبير لم أعد أذكره – حداثة سن سفيرنا الأول في بكين محمد عبد الله ولد الخرشي. فأجبت بأن حداثة سنِّ سفيرنا تعكس حداثة عهدنا بالاستقلال الذي لم يمض عليه أكثر من سبع سنوات!
وكان شوان لاي برفقتي أثناء مغادرتي مطار بكين متجها إلى بيونغ يانغ، وصرح لي في أعقاب عرض موجز عن العلاقات الصينية الكورية قائلا: «أطلب منكم أن تبلغوا تحياتي إلى الرفيق كيم إيل سونغ وتخبروه أن الحكومة الصينية، خلافا لما قد يتوهم، لا ضلع لها إطلاقا في النشاطات التي يقوم بها أولئك الذين يسعون إلى أن يخلقوا له مشاكل باسم الثورة الثقافية. فعليه أن يعرف أنني أعارض مسعاهم. وعليه أن يعرف كذلك – كما أوضحت له فيما سبق – أنني أحرص جدا على استمرار أفضل العلاقات بين بلدينا الجارين الصديقين. ولهذا السبب أقترح عليه أن نلتقي لتبديد أي سوء تفاهم يمكن أن يلحق الضرر بالعلاقات الحسنة التي يجب على الدوام أن تقوم بين بلدين».
وعندما وصلنا إلى بيونغ يانغ، كان اللقاء حارًا للغاية، كما كان الحال طيلة مقام الوفد الموريتاني. وكان «الزعيم العظيم المحترم والمحبوب من قبل الأربعين مليون كوري» - في الشمال والجنوب معا – خفيف الظل جدًا. لقد كان كيم إيل سونغ ببشاشته بل وشعوره الفياض، وسهولة معاشرته، يحرص على إعطاء بلده صبغة البلد المضياف. وفي عزلتهم الجغرافية والديبلوماسية، أصبح كيم إيل سونغ وذووه يحوِّلون إلى عيد وطني زيارة أي وفد أجنبي يستقبلونه حتى ولو كان الزوار ليسوا رؤساء دول. فقد كانت فرصتهم للظهور والتنفيس عن أنفسهم، وأن يبرهنوا من خلال الاستقبالات والمهرجانات الضخمة أنهم حققوا أشياء عظيمة! وقد حققوا بالفعل تفوقا في مجال تنظيم الجماهير وإنعاش الشباب، كما ضربوا كل الأرقام القياسية في مجال عبادة الشخصية حتى كاد شعار «الزعيم العظيم المحترم والمحبوب…» يأخذ طابعا قدسيا.
ورغم ما يميزني عن كيم إيل سونغ، فقد أقمنا وشائج صداقة. وقد رد بالإيجاب على رسالة السيد شوان لاي وإن كان قد قدم لى عرضا مطولا عن مآخذه على الثورة الثقافية الصينية. وتعاون بلدانا فيما بين 1967 و 1976، وساعدت كوريا الجمهورية الإسلامية الموريتانية على الرغم من محدودية وسائلها. فقد شيدت في نواكشوط ورشة لخياطة الملابس لصالح نساء حزب الشعب الموريتاني تحت إشراف خبراء كوريين. كما ساعدتنا حكومة كوريا الشمالية في مجال تنظيم الشباب وإنعاشه. وعلى الصعيد الديبلوماسي دافعنا من جانبنا، وبنجاح أحيانًا، عن القضية الكورية الشمالية في إفريقيا جنوب الصحراء التي كان حضور كوريا الجنوبية أقوى بها وسبق أن أقمنا معها علاقات ديبلوماسية ثم قطعناها.
وعند عودتي من بيونغ يانغ، وجدت السيد شوان لاي في انتظاري بمطار بكين الذي مررت به في طريقي إلى افنوم بان. وقد أطلعته على ردِّ كيم إيل سونغ الإيجابي على رسالته. وأعرب عن ارتياحه وشكرني بحرارة. ثم طلب منى نقل رسالة مماثلة إلى الأمير سيهانوك قائلا إنه «في كامبوديا كذلك ينشط أناس يدعون التحرك باسمنا تحت ذريعة مساندة الثورة الثقافية التي هي صينية محض ولا ينبغي تصديرها إلى البلدان الصديقة…». وأضاف قائـلا: «إن الأصدقاء القاصين هم أفضل من يقوم بهذا النوع من الوساطة. فهم بحكم كونهم غير معنيين بمشاكل المنطقة لا يمكن اتهامهم بالتحيز. وعليه، فإن الجميع يمنحهم ثقته مبدئيًا. وبالنسبة لكم فقد جئتم في الوقت المناسب للعب دور الوسيط بيننا في ظرفنا الجهوي الراهن…».
وعلى الرغم من المضاعفات اليومية الخطيرة للحرب في فيتنام على كامبوديا، فإن الأمير نورودوم سيهانوك وشعبه قد خصصوا، بدورهم، استقبالاً حارًا للغاية للوفد الموريتاني. وقد تعرفت على الأمير سيهانوك من خلال سمعته قبل أن ألتقي به. فهو وطني ثابت على مواقفه، ومناضل من مناضلي عدم الانحياز. وقد تفاهمنا منذ اتصالاتنا الأولى وقامت بيننا روابط مودة. فهو دمث الأخلاق جدًا، مضياف، وسهل المعاشرة، وقد أكثر من الأفعال المعبرة عن رغبته في استقبالنا بحفاوة بالغة. وقد شاركت ابنته في العرض الفني الرائع الذي قدمته الفرقة المسرحية على شرف الوفد الموريتاني. وحرص الأمير نفسه على أن يكون مرشدنا في زيارتنا لبعض المراكز الأساسية في العاصمة وبعض المدن الداخلية. وقد صاحبنا بوجه خاص في زيارة موقع آنغور Angkor الأثري الرائع المهيب جدًا والغني بآثار الخمير الثقافية. وقد سمحت لنا محادثاتنا المتكررة بملاحظة اتحاد وجهات نظرنا بشأن القضايا الراهنة مثل الحرب في فيتنام والاستعمار الإسباني والبرتغالي والتمييز العنصري في إفريقيا الجنوبية، واحتلال فلسطين واعتداءات إسرائيل على الدول العربية. وكان مضيفي جد مستاء من الصين التي يتهمها بتحريك لخمير الحمر في كامبوديا. بيد أنه تلقى بشكل إيجابي رسالة السيد شوان لاي. وبعد زيارتي بوقت وجيز، أعلن رسمياً عن وساطتي.
وبعد الانقلاب العسكري الذي أطاح به في 25 مارس 1970، أبقت الجمهورية الإسلامية الموريتانية على اعترافها الديبلوماسي بحكومة سيهانوك في المنفي. وفتحت هذه الأخيرة سفارة لها في نواكشوط، بينما ظل سفيرنا في بكين معتمدا لدى سيهانوك. وزار الأمير سيهانوك بلادنا مرتين خلال سنواته الأولى في المنفي. فكانت زيارته الأولى، التي جرت ما بين 8 إلى 14 يوليو 1972، زيارة رسمية دامت أكثر من ما كان مقررا لها بسبب إلغاء زيارة مماثلة للأمير إلى كناكري بصفة مفاجئة؛ بينما كانت الثانية زيارة صداقة وتمت في الفترة ما بين 1 إلى 3 يونيو 1973. وكان مرفوقاً في كلتيهما بزوجه الأميرة مونيك. وخلال زيارتي الثانية لبكين في 1974، استقبل الأمير والأميرة سيهانوك بحفاوة الوفد الموريتاني في حفل عشاء.
وكانت جولتي الآسيوية تتضمن أصلا زيارة رابعة إلى جمهورية فيتنام الديمقراطية. بيد أن الرئيس هوشي منه أرسل إلى سفيره في العاصمة الصينية أثناء مقامي في بكين ليطلب منى تأجيل زيارتي بسبب حملة القصف الواسعة النطاق والمكثفة التي شنها الطيران الأميركي على فيتنام الشمالية. وعليه فقد اكتفيت بالتوجه عبر أمواج الأثير إلى الشعب الفيتنامي البطل وزعيمه للتعبير لهم عن تضامن الشعب الموريتاني بمناسبة المهرجان الحاشد الذي نظمه الأمير سيهانوك لتمكيني من مخاطبة الشعب الكمبودي.
وظلت الجمهورية الإسلامية الموريتانية منذ حصولها على الاستقلال تساند باستمرار كفاح الفيتناميين البطولي سواء في الشمال أم في الجنوب. واعترفنا مبكرا بالحكومتين الفيتناميتين، حكومة هانوي والحكومة المؤقتة لجمهورية فيتنام الجنوبية منذ إعلانها في 1969 من قبل جبهة التحرير الوطنية. وظلت سفارتها تعمل في نواكشوط حتى نهاية الحرب. واستقبلنا خلال تلك الفترة العديد من البعثات الوزارية سواء من جمهورية فيتنام الديمقراطية في الشمال أو من الحكومة المؤقتة لجمهورية فيتنام الجنوبية، ولا سيما السيدة انغويين تيبن وزيرة خارجية الحكومة المؤقتة. وكان سفيرنا معتمدا لدى الحكومتين الفيتناميتين. وقدم مرة أوراق اعتماده إلى رئيس فيتنام الجنوبية في أعماق الغابات في ظروف أمنية بالغة الخطورة.
وأعود للحديث عن الصين لأقول إنني قمت لها بزيارتي الرسمية الثانية من 16 إلى 27 سبتمبر 1974 رفقة مريم وعدد من المسؤولين السامين بدعوة من الحكومة الصينية التي أرسلت لي بالمناسبة طائرة خاصة سافرت على متنها ذهابًا وإيابًا. وقد استقبل الوفد الموريتاني في بكين من قبل السيد ازياو بينغ رئيس الوزراء الصيني بالوكالة. وأخبرني ونحن في السيارة التي أقلتنا من المطار إلى دار الضيافة بأن السيد شوان لاي بالمستشفي، وقال: «بما أنه لا ينبغي لنا أن نخفي شيئًا عن أصدقائنا الحقيقيين، فإنى أحيطكم علما بأمر تحت طي الكتمان وهو أن السيد شوان لاي مصاب مع الأسف بالسرطان. وعلى الرغم من مرضه فهو مصر على مقابلتكم، وسوف أُبيِّن لكم لاحقا كيف سيتم ذلك. أما الرئيس ماو، فهو في داخل البلاد، ويحرص هو الآخر، على استقبالكم…». وعند وصولنا إلى دار الضيافة، استقبلتنا السيدة شوان لاي – وليس لي بها سابق معرفة – بحرارة باسم زوجها الذي نقلت لنا منه رسالة صداقة شخصية وترحيب. وكما هي الحال في 1967، كان الاستقبال الشعبي في المطار وفي المدينة حارًا جدا. بيد أن عدد الناس هذه المرة كان محدودًا بين المطار والمدينة. وسبق أن أُشعرت أن الاستقبالات الشعبية قد أعيد تنظيمها بحيث أصبحت تضم أعدادًا أقل منظمة بشكل أفضل.
وسبق أن لقيت السيد تينغ سياو بينغ في سنة 1971. وقد أعرب لي حين زارني في الفندق بنيويورك عن «شكر وامتنان قادة الصين وشعبها على الدعم الثمين الذي قدمته الجمهورية الإسلامية الموريتانية لبلدهم لتمكينه من نيل حقوقه الشرعية في منظمة الأمم المتحدة…». وأعرب لنا دنغ سياو بينغ عن مزيد من الصداقة والاستعداد طيلة هذا المقام الثانى الذي رافقنى فيه أينما حللت. فقد صرح لى منذ لقائنا الأول وجها لوجه في المطار بقوله: «… لقد كلفني رئيس الوزراء شوان لاي بأن أؤكد لكم كامل استعداد الحكومة والشعب الصينيين لتنمية التعاون الودي مع الشعب والحكومة الموريتانيين في شتى المجالات…». وتجدر الإشارة إلى أن أصدقاءنا الصينيين لم يلمحوا ولا مرة واحدة إلى حزبينا السياسيين في لقاءاتنا، وهو ما أثار دهشتي كثيرًا وإن كنت قد أحجمت باستمرار عن استفسارهم عن أي شيء بهذا الخصوص.
وأكدت الحكومة الصينية خلال هذه الزيارة التزامها النهائي بإنجاز ميناء نواكشوط. أما فيما يتعلق بطريق الأمل، فقد أخبرت دينغ بأننا لم نعد نطالبهم ببنائها. فقد حصلنا لتونا من البلدان العربية البترولية على الأموال الضرورية لإنجاز جزئها الرابط بين نواكشوط وكيفه وتعهدات صارمة بتمويل الجزء الآخر الرابط بين كيفه والنعمة مرورًا بالعيون خلال جولتي الأخيرة بالمشرق في شهر إبريل الماضي. وقد ارتاح أصدقاؤنا الصينيون لتصرفي هذا، إذ كان من الصعب عليهم تمويل هذين المشروعين المكلفين جدا. إلا أنهم بحكم صداقتهم لنا ولطافتهم يجدون حرجا في أن يصرحوا لنا بذلك.
وقمت أنا ومريم في اليوم الثاني من وصولنا إلى بكين بزيارة السيد شوان لاي بالمستشفي، فاستقبلنا بحرارة كبيرة مدة تزيد عن الساعة رغم تعليمات أطبائه الذين نصحوه بأن تكون زياراته محدودة وقصيرة المدة. وتناولنا بطلب منه، وكأن شيئًا لم يكن، علاقاتنا الثنائية، والوضع في إفريقيا وفي العالم العربي، والعالم الثالث، وفي العالم عموما. وحمل بشدة خلال ذلك الاستعراض على «الهيمنة السوفياتية» التي اتهمها بأنها مصدر كل الصراعات عبر العالم. ولإعطاء اللقاء طابعا خاصا ووديا أكثر، سألنا قبل نهاية اللقاء كيف تعارفنا أنا ومريم أول مرة؟ فأجبته قائلا: «… في كلية الحقوق بباريس». ولتلطيف الجو أضفت بأن زواجنا يرمز إلى ثأرى من الاستعمار الفرنسي: «ففرنسا استعمرت بلادى، فاستعمرت بدورى فرنسية».
وبعد ذلك بيومين استقبلنى الرئيس ماو في إحدى مدن الداخل نسيت اسمها. وكنت خلال هذا اللقاء مرفوقا بمريم وأهم أعضاء الوفد الموريتاني. ولاحظت أنه قد شاخ كثيرا بعدى وأصبح يتكلم بصعوبة، ويجد عناء في مخارج الحروف. وعلى الرغم من حالته الجسمية، فقد كان ثاقب الذهن قوي الإدراك. واستقبلنا مطولا وبحرارة كبيرة. وطرح علي العديد من الأسئلة حول أكثر القضايا تنوعا، وهي الأسئلة نفسها تقريبا التي كان السيد شوان لاي قد طرحها. ثم سألني كيف وجدت الصين في 1974 مقارنة بصين 1967. وشكل ذلك فرصة بالنسبة له لنقد تجاوزات الثورة الثقافية ومن حرفوها عن مسارها… وعند افتراقنا مازحـني باسـمًا بشأن «… استعمار مريم». ولم أعد أذكر عباراته، إلا أنني استخلص منها أن التنسيق كامل تماما على مستوى قمة السلطة الصينية! أما السيدة ماو، التي ليس لي بها سابق معرفة، فقد استقبلتنا في قصر الشعب ببكين حيث تمنت لنا مقاما سعيدا في الصين. وأجرينا معها محادثات ظرفية قصيرة، ويبدو أنها ديناميكية وتتمتع بذهن وقاد جدًا. ثم أخذنا صورة أسرية تذكارية.
وبينما لم أزر في 1967 سوى بكين وضواحيها، فقد زار الوفد الموريتاني في 1974 ثلاث مدن صينية كبرى هي شانغاي Shanghai في الجنوب، و نانكين Nankin في الوسط، وشنغ يانغ Shen-Yang في الشمال. وكان الاستقبال الرسمي والشعبي حارًا أينما حللنا. وفي شنغ يانغ أنعشت الأمسية الفولكلورية فرقة من «القومية السائدة» الكورية، وتلك طريقة مضيفينا في جعلنا نلمس تجربتهم في مضمار مشكل القوميات.
وبدعوة من الحكومة الصينية الجديدة، قمت بزيارتي الرسمية الثالثة والأخيرة للصين صحبة مريم والعديد من كبار المسؤولين الموريتانيين من 5 إلى10 إبريل 1977. وقد وضعت الحكومة في بكين هذه المرة تحت تصرفنا طائرة بويينغ 707 مثل ما فعلت في 1974. وقد استقبل الوفد الموريتاني في مطار العاصمة الصينية من قبل السيد هواكيوفينغ Hua Kuo-Feng محاطا بكبار المسئولين الصينيين في القيادة الجديدة التي حلت محل قيادة «ماو» و «شوان لاي». وإذا لم تخني الذاكرة، فقد كان مرافقنا ومخاطبنا الدائم هو نائب رئيس الوزراء السيد لـي Li. وكان الاستقبال الرسمي والشعبي وديًا وحارًا جدًا مثل سابقيه سواء في المطار أو في المدينة. وجرت مراسيم الاستقبال والمقام على النسق نفسه، شأنها في ذلك شأن طريقة العمل. فقد جرت محادثات مطولة مع السيد هوا Hua، وجلسات موسعة للوفدين بغض النظر عن الأحاديث الانفرادية خلال المأدبات الرسمية خاصة. وكان لمريم والعناصر النسوية من الوفد برنامجهن الخاص مثل ما كانت الحال في 1974.
وحبانا مضيفونا خلال هذا المقام بحظوة خاصة تعبيرًا عن صداقتهم الكبيرة لنا إذ نظموا لنا زيارة ل «مدينة بكين المبنية تحت الأرض». وبالفعل، جبنا على مدى نصف يوم جزءًا من هذه «المدينة غير المرئية» المعدة لإيواء سكان بكين في حالة الحرب. لكن أي نوع من الحرب يخشون؟ إنها الحرب التي يمكن أن يشنها الروس الذين يعتبرهم المسؤولون الصينيون «شياطين» قادرين على ارتكاب كل الجرائم الممكنة. وفيما يتعلق بهذه النظرة «للغول الروسي»، فإن القيادة الصينية الجديدة أشد انزعاجا من خطر الهيمنة الروسية من القيادة القديمة، وتندد بها بالحدة نفسها التي كانت تندد بها سابقتها.
وتعددت مظاهر تعبير مضيفينا عن صداقتهم لنا، إلا أننا تأثرنا بوجه خاص بزيارة أرملة السيد شوان لاي لنا التي بدت عليها كثيرًا ملامح الشيخوخة في ظرف ثلاثة أعوام. بيد أن أيًا من مضيفينا لم يلمح من قريب ولا من بعيد إلى دنغ سياو بينغ الذي احتفظت عنه بذكريات حسنة. ولم أشأ الاستفسار عن أخباره مخافة إحراجهم. وفضلا عن ذلك كنت على علم بأنه يقضى فترة تأديب عصيبة.
ولم نتقدم خلال زيارة 1977 هذه بأي طلب مساعدة إلى الحكومة الصينية الجديدة التي أكدت لنا، بمبادرة منها، التزامها بإنجاز كل المشاريع التي تعهدت بها سابقتها ولاسيما الميناء والمجمع الرياضي بنواكشوط، ومواصلة استصلاح سهل امبوريه، والمساعدة الصحية، إلخ.
وأقمنا بعد بكين في كانتون حيث زرنا عاصمة الجنوب الكبرى ومنطقتها. وأمضينا الليلة في محطة سياحية مشهورة لا أتذكر اسمها. كما استقبلتنا أسر من الفلاحين في منازلها. وكانت على ما يبدو مسرورة بالثناء على فضائل نظام بلادها وإظهار ما لديها من «ملامح عصرنة خارجية متواضعة» تتمثل في أجهزة إذاعية صغيرة وأجهزة تيلفزيون. وقد سعدنا بهذه «الرحلة الصغيرة» التي نظمت لنا للتعرف على الحياة الفلاحية الصينية مما يعكس ما يكنه لنا مضيفونا من صداقة وثقة خاصين كان لهما وقعهما الكبير في نفوسنا وأهميتهما بالنسبة لنا. وكان الاستقبال حارًا حيثما حللنا سواء في الأسواق أو المصانع أو حقول الأرز والقرى. وأشادت الحشود الجماهيرية التي التقيناها بصداقة الشعبين الموريتاني والصيني. وكانت زيارتنا لسور الصين العظيم في 1974.
وكررت في أكثر من مناسبة، ولاسيما في خطاباتى عن حالة الأمة في 28 نوفمبر، أننى لم أجد أي تعاون تمكن مقارنته بالتعاون الصيني. فهو تعاون مثالي من جميع الأوجه سواء في حجمه ونوعية الفنيين المكلفين بتنفيذه من أطباء وخبراء زراعيين ومهندسين وغيرهم من الفنيين. فطريقة الصينيين في البذل والعطاء لا مثيل لها. فهم المانحون الوحيدون الذين تركوا لدي انطباعا بأنهم يتلقون ما يمنحون. فلا تباهي ولا غطرسة بل التواضع الشديد واللباقة الكبيرة. وعندما تتوجه إليهم بالشكر على سخائهم الكبير، يقولون لك باستمرار إنه لا شكر على واجب وأنهم يأسفون على أنهم لا يستطيعون بذل المزيد وأن بلدهم مازال بلدًا ناميا… فليت كل المانحين عبر العالم حذوا حذو الصينيين!
فهل يعنى ذلك أن العون الصيني عون غير مغرض تماما؟ وأن المسؤولين الصينيين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟ كلا بكل تأكيد. لقد سبق أن قلت إنني لا أومن بإحسان الدول إلى البشر. غير أنه مهما كانت حسابات القادة الصينيين، فإننىيألاحظ أن طريقتهم في مساعدة بلدان العالم الثالث أقل إحراجا ومهانة من مساعدات البلدان الغربية. ولا أتكلم عن العون السوفياتي الذي لم أختبره…
وكان آخر اتصال لي مع الصينيين في مستشفي كيفه خلال شهري مايو ويونيو 1979. وبالفعل، فإنني خلال عودتي إلى هذا المستشفي الذي لم يبدأ بعد عمله حينها وفتح خصيصا لاستقبالي، وجدت الفرقة الصينية نفسها التي عالجتني في الشتاء الفارط. فالطبيب الرئيس ومترجمه كانا هذه المرة أكثر بشاشة وثرثرة منهما خلال مقامي السابق. فقد صرح لي الطبيب ذات يوم، وأنا على انفراد مع محدثي لإجراء فحص، قائلا: «هل تعرفون أن هذا المستشفي وما به من تجهيزات وأدوية ملك لكم؟» فسألته عن معنى هذا الكلام بالنسبة له. فأجابني قائلا: «لقد عينت وفرقتي للمجيء إلى موريتانيا قبل الإطاحة بكم. وقد حدثنا قومنا الذين هيئونا لهذه المهمة عنكم كثيرًا، وقالوا لنا إنكم صديق كبير للشعب الصيني وقادته، وأنكم ساعدتموه كثيرًا في نيل حقوقه المشروعة في الأمم المتحدة وفي تطوير علاقات صداقته وتضامنه مع الشعوب الإفريقية. والشعبان الموريتاني والصيني صديقان وحليفان ضد الهيمنة والإمبريالية. ولذا فإن الشعب الصيني مدين لكم كثيرًا ومن خلالكم للشعب الموريتاني. وخلال عشر سنوات زرت بلادنا ثلاث مرات بوصفكم صديقا كبيرًا للصين، وتعرفتم على قادتنا العظام القدماء منهم والجدد. وبفضل عملكم تعرف الشعب الصيني على الشعب الموريتاني الذي يحاول بكل تواضع مساعدته. فالشعب الصيني قد ساعد الشعب الموريتاني – مثلا – ببناء هذا المستشفي وتجهيزه وتزويده بالأدوية. كما أرسل فرقة صحية لتشغيله. وأكد لي سفيرنا في نواكشوط مؤخرًا أن الشعب الصيني يحتفظ لكم بكل صداقته وتقديره. وطلب مني أن أعالجكم كما نعالج صديقا كبيرًا وغاليا علينا. وقد علم سفيرنا أن العقيد بوسيف ينوى إطلاق سراحكم قريبًا، وسُرَّ بذلك النبأ كثيرًا، كما سررت بذلك شخصيًا وسرت به فرقتي والشعب الصيني بأسره…».
وبعد ذلك بأشهر معدودة، أخبرني في باريس صديقي مختار امبو أنه كان في بكين -إبان الانقلاب أو بعيده بقليل – وأن القادة الصينيين صرحوا له بأقوال مشابهة لأقوال رئيس الفرقة الطبية في كيفه.
وتحظى الصين بالأفضلية لدي من بين كل البلدان الأجنبية التي زرتها في مختلف بقاع العالم. وأشعر بتعاطف خاص مع ماو تسي تونغ، وشوان لاي، ولين بياو لا أعرف مصدره ولا كيف أعبر عنه حقيقة. ولعل إعجابي بهم يفسر جزئياً ذلك التعاطف.

المختار ولد داداه/ "موريتانيا على درب التحديات"

جمعة, 16/05/2025 - 10:35