ثمة علاقة ارتباط وجودي لا انفكاك لها بيننا وبين مجتمعات البيظان الموزعة في أنحاء منطقة الساحل والصحراء، مثل مالي والنيجر وبوركينافاسو والتشاد والجزائر، إلى جانب الصحراء الغربية التي تضم أكبر كتلة بيظانية خارج حدود السيادة الموريتانية. وتنظر هذه المجتمعات إلى موريتانيا بكثير من الاحترام والتقدير والإعجاب، وتعتبرها القاعدة أو المركز الميتروبولي الثقافي بالنسبة لها. فمن نواكشوط تستورد هذه المجتمعات أشرطة الهول، كما تستورد الوركة واماعين أتاي وموضة الدراريع والنعايل والسراويل، أما مطالعات المثقفين من أبنائها في نتاجات الشعراء والكتاب والفقهاء الموريتانيين، فظاهرة ملحوظة للمتابع.
ورغم هذه العلاقة القوية الممتدة عبر النسيج الاجتماعي المتداخل والأنماط الثقافية المشتركة، والتي زادها متانةً عصرُ ثورة الاتصالات الرقمية، فإن إخواننا الصحراويين لا ينظرون إلينا بنفس النظرة التي يرانا من خلالها بقية بيظان دول المنطقة، بل حتى لا ينظرون إلينا كما ننظر إليهم. ورغم أن نظرتهم متأثرة بحرب السبعينيات التي دامت بين موريتانيا وجبهة البوليزاريو عامين ونصف العام، وخلفت جروحاً وذكريات مؤلمة على الجانبين، فإنه حتى بدون هذه الحرب وآثارها النفسية (في جيلها على الأقل)، كان الأرجح أن تبقى علاقتنا بالصحراويين علاقة إشكالية على الدوام. فهناك تعاطف موريتاني شعبي ملموس مع طروحات البوليزاريو التي كانت تجد لها أصداءً في أوساط الشباب على الخصوص، وأتذكر شخصياً حين كنت مراهقاً في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات أنني وعدد من أترابي كنا مولعين بأغاني «ثورة الشعب الصحراوي»، وكنا نتطلع إلى الالتحاق بها وإلى التوجه نحو مخيمات الصحراويين في تيندوف من أجل مشاطرتهم ما يقاسونه من معاناة هناك. وكل ذلك باعتبار أن الموريتانيين والصحراويين شعب واحد قسّمه الاستعمار الأوروبي، ثم جاء قادة تابعون للمستعمر السابق وحافظوا على تركته متمثلةً في الحدود التي أقامها على الأرض فارضاً تجزئة المجتمع الواحد!
وكذلك الصحراويون ممثلين في جبهة البوليزاريو، فهم أيضاً كثيراً ما تحدثوا عن مجتمع بيظاني واحد في موريتانيا والصحراء، لكنهم يرفضون أي حديث عن دولة واحدة، بل إن حديثاً كهذا هو ما جعلهم يحملون السلاح ضد موريتانيا التي ساندت تحرر الصحراء الغربية من الاستعمار الإسباني، وخاضت مفاوضات مع إسبانيا والمغرب بعلم وتأييد من أعيان المجتمع الصحراوي الذين ظلوا إلى وقت قريب يعتبرون أنفسهم موريتانيين وكانوا ومازالوا يحملون الجنسية الموريتانية ويشغلون المناصب في الدولة الموريتانية.
بيد أنك اليوم تثير غضب أي صحراوي تصفه بالموريتاني، أو تحدثه عن دولة واحدة (موريتانية صحراوية).. فهم يرون موريتانيا دولةً أقل شأناً من «الصحراء»، كما يعتقدون في قرارة أنفسهم أن الصحراويين مختلفين تمام الاختلاف عن الموريتانيين (اختلاف يستحق تأكيدُه شنَّ حرب بدعم من الجزائر).. لكنهم في الوقت ذاته لا يريدون أن يكون لـ«الشقيقة موريطانيا» أي خيار آخر غير الخيار الذي تريده لها البوليزاريو تحديداً، وما عدا ذلك هو خيانة للنسيج الاجتماعي الثقافي البيظاني الواحد!
أو بعبارة لسان الحال الصحراوي؛ فنحن مجتمع واحد عندما نحتاج دعمكم السياسي واللوجستي وعمقكم البشري، ونحن كيانان مختلفان منفصلان تماماً الاختلاف والانفصال بمجرد أن تتحدثوا أنتم عن وحدة الدم والمصير والدولة الواحدة! وأياً يكن فهذا موقف واقعي بامتياز، مقابل موقف عاطفي على الناحية الأخرى غير ملم بنوعية تفكير الطرف الصحراوي ونظرته الحقيقية لذاته ولموريتانيا. وباختصار فهي علاقة حب وعطف من جانب واحد، وبالطبع من الجانب الموريتاني الذي يجدر به دائماً أن يتسامى على نزق الشقيق الصغير المدلل، وأن يغفر له طيشه وإساءاته المتكررة وسلوكه المتعجرف غالباً! ومن هنا تكتسب علاقتنا بالصحراويين حساسيتها وطابعها الإشكالي المربك.