
رحَل اليوم صديقنا وأخونا محمّد يحيى ولد محمّد سالم. كان عبقرية فذّة، ضاعَت للأسف من بين عبقريات أخرى إلاّ عند المقرّبين عندها والأليفين بها. تعرّفت على الراحِل في 2009 في "النادي الموريتاني للمتخرّجين في الجامِعات السورية" حيث، بعد يباب فكري، اكتشفنا صفوة كانت متشتّتة في الآفاق. كانوا جيلاً وطبقةً مغايِرة، ولكنّ تلاقحنا الفكري معهم أضحى جزءًا من تاريخ المجالِس في البلد. و Le prince كان في جوهر ذلك التخاصُب.
كان محمّد يحيى، الذي اشتهَر بالبرنس في يفاعته، محاوِري، وغالباً مخاصِمي، في السياسة. أمّا في الفكر والأدَب فكانت الخلافات من وتيرة أخرى. وغنيٌ عن القول إنّني أحبّ المخالِف العاقل على الموافِق المستسلِم. فتمغنطَست علاقتي معه. ثمّ هاجرت. وفي 2015 جمعتنا قناة "دافا" في سلسلة حوارات إبّان عودة لي من أميركا. أردنا في تلك الحوارات استئناف نقاشاتنا في النادي السوري، وإن كانت غلبة السياسة تأتي دون صفاء القهوة. بعكس جمهرة الأعيان هذه الأيام لم يكن يحيى "يلفّ القدم" أو يمدّ اللسان أو يفجر في المخاصَمة. بل كان، كجمهور الحُذّاق، ينظُر في أوجُه الإشكال والكلام. كان الأمير قرّاءً نهماً، يحمٍل معه صناديق كُتبه إلى منافيه البعيدة ويعكف عليها في البراري والقيعان. كان جاحظاً. وكانت تلك الرهبنة في غمار الكثبان هي حلمي الذي منعتني منه طبيعة الأِشياء. كنتُ أريد علمنة ذو النون المصري.
"وسمّيتُه يحيى ليحيى فلم يَكُن# لردّ قضاء الله فيه سبيل". وكانت لديه همّة وطنية وبحثية هامّة. كان كفاءة فرّطت فيها الدولة. وكان، وهو من علّمني كونديرا، يعرِف مأساة الكفاءة في الأنظِمة المغلقة. كان واقِعياً ولكنّه لم يفقد الجرأة على التفكير والخروج من الصندوق. وظلّ حتّى آخر لحظاته مثابِراً على المعرِفة والكفاح. وما هو أهمّ، لم يفقد الجوهَر الأخلاقي الذي تزرعُه المعرِفة في الأنفُس. لم يفقد المحبّة؛ ولم تنرفزه التغيّرات فتجعله وحشاً، كما فعلت للكثيرين. عرِف كيف يحمي نفسَه من الطبيعة والضوضاء والسوق. محمّد يحيى كان شهماً وقِدّيساً. وقد تركَ رحيله غصّة في أنفسنا.
تعزيتي فيه لذويه؛ وتعزيتي فيه للنادي السوري؛ وتعزيتي فيه لنفسي. تغمّده الله برحماته التي وسِعت كلّ شيء.
وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
عباس ابرهام