في منشور سابق تطرقت للفساد بوصفه جريمة دولية أو بالأصح جريمة ضد الإنسانية ، و بالتالي فإن المحكمة الجنائية الدولية تشكل إطارا مناسبا لتجريمه لاعتبارات تتعلق بالجانب الموضوعي للعقوبات وتوافر إمكانات التعاون الدولي التي يحدد النظام الأساسي أشكالها بدقة و للمجهود الفقهي اللافت الذي يرى أن جرائم الفساد لا تعدو أن تكون جرائم عدوان اقتصادي أو جرائم ضد الإنسانية .
نرى أنه من المفيد إلقاء نظرة على تجارب دول نامية أخرى في هذا المجال، لنستشف العقبات والعوامل المسيِّرة لعملية مكافحة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة لعلها تفيد في رسم ملامح الإطار القانوني الذي يجب استحداثه .
بحسب تقرير صادر عن المبادرة الدولية لاسترداد الأموال المنهوبة استطاعت دولة نيجيريا أن تسترد منذ العام 2005 حوالي 1.2 مليار دولار من الأصول المنهوبة من قبل نظام الجنرال ساني أباتشا، الدكتاتور العسكري الذي حكم البلاد ما بين عامي 1993-1998 واستعيدت هذه الأموال من مخابئها في عدة بلدان من ضمنها سويسرا وبلجيكا والمملكة المتحدة ولوكسمبورغ بعد سلسلة دعاوى قضائية تعقبت أصولا استطاعت السلطات المعنية إثبات عدم شرعية مصادرها.
وأهم هذه الدعاوى جرت في المحاكم السويسرية، حيث أصدرت المحكمة الفدرالية العليا قراراً في العام 2005 بإعادة مبلغ 700 مليون دولار من حسابات عائلة أباتشا وشركائه كان قد صدر سابقاً قرار بتجميدها رداً على طلب رسمي للمساعدة القانونية المتبادلة .
و اللافت في هذه التجربة أمرين : هو أن هذه الأصول تم استرجاعها قبل الحصول على قرار قضائي بالمصادرة ، إذ استطاع مكتب محاماة سويسري الحصول على حكم تاريخى بعدم الحاجة إلى حكم المصادرة النهائى لوجود ما يكفى من أدلة ، من الخصائص الملفتة للنظر في هذه التجربة أنها كانت محكومة باتفاقية مشتركة بين نيجيريا وسويسرا والبنك الدولي، فقد خضعت عملية استرداد الأموال لشرط رقابة البنك الدولي بهدف تفادي احتمال أن تعود الأموال المعنية إلى مؤسسات وأيدي ملوثة بالفساد .
من التجارب الأخرى الناجحة تجربة البيرو بعد خروجها من النظام الشمولي في عهد ألبرتو فوجيموري ( 1990 - 2000 ) ، فقد ظهرت سلسلة فضائح متعلقة بالرشاوي وتجارة المخدرات وتبييض الأموال ، حيث تم إدعاء نهب 2 مليار دولار من البلاد لذلك قامت الحكومة المؤقتة بزعامة الرئيس فالنتين بانياغوا بإعادة صياغة الإطار المؤسسى والقانونى لمكافحة الفساد .
في العام 2001 أنشأت الحكومة البيروفية صندوقا وطنيا لإدارة الأموال المنهوبة المستعادة بهدف ضمان إنفاقها بشفافية تامة وتفادياً لاحتمال أن تقع الأموال في أيدي ملوثة بالفساد مجدداً ، وفقا لهذا للإطار التشريعي تم تحويل أموال الصندوق إلى الميزانيات العامة العادية ولكن تحت إشراف الصندوق المؤلف من ممثلي خمس مؤسسات وطنية متخصصة بمكافحة الفساد ، بخلاف تجربة نيجيريا عملية الاسترداد هذه لم تكن محكومة باتفاقية مشتركة بين الدولة المعنية و سويسرا و البنك الدولي بهدف الرقابة المشتركة .
حالات أخرى ناجحة منها التجربة التونسية التى وضعت الإطار المؤسسي مباشرة بعد الهروب العظيم للرئيس السابق فتم استرجاع أموال و منقولات متعلقة بأسرة بن علي ، و أنغولا التى استردت أكثر من 5 مليار دولار مابين 2017 و 2019 ، و تبقى طلبات الأسترداد من أكثر الشعارات تداولا داخل ساحات الاعتصام في لبنان الجريح .