يقال من باب المزاح والتنكيت إن من أسباب فشل المحاولة الانقلابية التي كان من بين قادتها صالح ولد حننا ومحمد ولد شيخنا وعبد الرحمن ولد ميني ورفاقهم ضد الرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع في يونيو سنة 2003 اختلافَ الضباط الذين قاموا بالمحاولة الانقلابية في مصطلحات الجهات ومعانيها. فقد كان الطيار سعد بوه، وهو من منطقة الترارزة، أثناء تحليقه في طائرته العسكرية يوجه رفقاءه وهم يحاصرون الرئاسة وأغلبهم من منطقتي الحوض وتگانت قائلا: هناك من يحاول مهاجمتكم من “تل” أي من الشمال حسب سعد بوه فيوجه زملاؤه نيراهم شرقا لأن “تل” لا تعني عندهم الشمال بل تعني الشرق. وهكذا فُقد التنسيق بين قائد الاستطلاع الجوي وبين المهاجمين في الميدان لاختلافهم في دلالة اصطلاحات الجهات، ولم تنفع توجيهات سعد بوه بل أعطيت معنى آخر غير مقصود. وكان ذلك سببا من أسباب إخفاق تلك المحاولة الانقلابية الجريئة. هكذا يقال وفي اعتقادي أنها نكتة، لكن مع ذلك تبقى مسألة تحديد الجهات في موريتانيا مشكلا.
يتفق متكلمو اللهجة الحسانية عموما في الألفاظ الدالة على الجهات الأربع لكنهم يختلفون في مدلولاتها؛ حيث يطلق سكان مناطق موريتانية عديدة بل ومناطق مجاورة لموريتانيا بدءا بأجزاء من تيرس وما ولاها كالحمادة وإگيدي الشمالي وظهر آدرار وتگانت وأجزاء من منطقة البراكنة، وكذلك منطقة العصابة وگيديماغا والحوض بجزئيه الغربي والشرقي حتى نصل منطقة أزواد لفظ “شرگ” على الجنوب و”ساحل” على الشمال و”تل” على الشرق و”گبله” على الغرب.
أما سكان الجزء الغربي من البلاد وما يحاذيه من مناطق نفوذ اللهجة الحسانية عموما بدءا بالساقية الحمراء فالجهات الغربية من تيرس فباطن آدرار إلى إينشيري إلى منطقة الترارزة إلى جنوب البراكنة فگورگول، فهؤلاء يطلقون “شرگ” على الشرق ويطلقون على الغرب كلمة “ساحل” ويطلقون على الجنوب كلمة “گبله” ويطلقون على الشمال كلمة “تلْ“.
فالاختلاف في الجهات إذن ليس خاصا بولاية موريتانية عن أخرى؛ إنما هو خط ينزل من منطقة الگعدة في الساقية الحمراء مارا بتيرس فباطن آدرار فإينشيري فآوكار بالترارزة والبراكنة نزولا حتى غورغول. فللمناطق الواقعة غرب الخط جهات تخلتف ب°90 عن المناطق الواقعة شرق الخط الموضح بشكل تقريبي في الخريطة المرفقة.
أساس تحديد الجهات عند الموريتانيين
كل موريتاني يظن أن تحديده للجهات هو الدقيق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه هو عين اليقين الثابت قطعا وعرفا، وحين تسأله عن الأساس الذي اعتمد عليه في ذلك التحديد لا تجد إجابة واضحة ولا ردا مقنعا، فقد ورث عن آبائه طريقتهم في تصور المكان وفي تحديد جهاته، والموروث الموريتاني لا يناقش ولا يعلل. ومن الواضح أن تحديد الجهات عند الموريتانيين لا ينبني على أساس فلكي أحرى أن يكون على أساس مغناطيسي، بل هو مُنْبَنٍ على أسس أخرى مناخية واجتماعية واقتصادية. واللهجة الحسانية لا تتفق في ألفاظ الجهات مع العربية الفصحى إلا في لفظ شرگ وهو تصحيف لكلمة شرق. والجهات الثلاث الأخرى، وهي “ساحل” و”گبله” و”تلْ”، ليست لها علاقة اشتقاقية ولا دلالية بمقابلها الفصيح أي الغرب والجنوب والشمال.
وقد تناول بعض الباحثين الأجانب ممن لهم اهتمام بالثقافة الموريتانية بالدراسة والفحص ظاهرةَ الجهات الموريتانية وحاولوا فهمَ الاختلافِ الحاصلِ في تحديدها بين هذه المناطق. ولقد رأيت ما كتبه الجزائري المتفرنس مراد تفاحي في ترجمته لبعض مقاطع كتاب الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، وقد نشرت تلك الترجمة الفرنسية سنة 1953 حين نشرها المعهد الفرنسي لغرب أفريقيا (IFAN). وقد ذهب تفاحي إلى أن هجرات القبائل الموريتانية وهبوب الرياح عاملان كانا وراء اختلاف الموريتانيين في تحديد الجهات.
كما قرأت ما ذهب إليه الضابط الفرنسي الذي كان إداريا عسكريا في عدد من المناطق الموريتانية دييغو بروسيه أيام كام ملازما قبل أن يلقى حتفه جنرالا سنة 1944 في الحرب العالمية الثانية. ويرى بروسيه أن تحديد الجهات عند البيضان لا يعود إلى مفهوم السمت أو إلى حركة الكواكب والنجوم بل يعود إلى سبب جغرافي واقتصادي. ويعطي بروسيه بعض الافتراضات والأمثلة مركزا على تحديد الجهات عند قبيلة الرگيبات وعند سكان منطقة الگبلة وارتباط ذلك التحديد بمعطيات اقتصادية، ثم عمم ذلك على سائر المناطق الموريتانية.
وقد تناولت الباحثة في اللسانيات كاترين تين-الشيخ الجهات الموريتانية بالدراسة متتبعة الجوانب اللغوية للظاهرة ومقارنة بين الألفاظ الحسانية ومرادفاتها في الفصحى. وذهبت في نهاية بحثها المستقصي إلى أن في طريقة بناء الخيمة الموريتانية المتأثر بالطقس والرياح دورا في تحديد الجهات.
وهذه الأفكار التي تناولها تفاحي وبروسيه وكاترين أفكار مفيدة وافتراضات لا تخلو من وجاهة ومنطق. وفي ظني أن الرياح وأهميتها في حياة الناس ومواسم المطر وعلاقتها بمعاش الناس وحيوانهم وحركتهم في المجال كانا سببا رئيسيا في الاختلاف في الجهات وتحديدها.
غياب التقاليد البحرية عن الثقافة الموريتانية
لم يعرف أجدادنا البحر وركوبه ولا التجارة البحرية رغم أن لنا شاطئا أطلسيا طويلا جدا وغنيا جدا، لذلك غابت عن ثقافتنا التأسيسية وعن ذاكرتنا اللغوية تحديد الجهات على أساس مغناطيسي دقيق وعلى معيار فلكي واضح. لو كان أجدادنا بحارةً لكانت لهم ثقافة مِلاحية وأعراف مرتبطة بالماء وركوب الأمواج وربما كانت جهاتنا أقرب إلى الانسجام والاتساق، لكن ارتباط هؤلاء الأجداد بمساقط الغيث وحركة المزن وهبوب الرياح أبعدهم عن تصور فلكي دقيق وأساس مغناطيسي منطقي لتحديد الجهات.
عندما حَلَّ الرحالة الفرنسي بول سولييه (توفي في سبتمبر 1886) بمحصر الترارزة في ربيع 1881 والتقى بالأمير اعلي ولد محمد الحبيب (توفي في أكتوبر 1886) شاهد الأمير اعلي بحوزة هذا الرحالة بوصلة، طلب الأمير رؤيتها سائلا سولييه عن هذا الجهاز الغريب الذي ما إن يستقر وضعه حتى يتجه مؤشره الممغنط بشكل آلي نحو الشمال. خاف بول سولييه إن شرح للأمير طبيعة بوصلته الوحيدة أن يصادرها منه ويتركه عرضة للضياع في الصحراء الموريتانية المترامية الأطراف وهو الذي ينوي زيارة إينشيري وآدرار، خصوصا أن الأمير اعلي يعيش في محيط صحراوي كثيرا ما لبدته العواصف الرملية وصار ليله كنهاره فهو الآخر بحاجة إلى وسيلة تعين على تحديد الجهات. ما كان من الرحالة بول سولييه إلا أن قال للأمير بشكل سريع: هذه الآلة فيها حكمة غريبة فهي تشير دائما إلى جهة الشمال حيث أمي، ولشدة تعلقي بأمي وبروري بها لا بد أن تظل هذه الآلة معي، إذ كلما تذكرت أمي أخرجتها فيذكرني مؤشرها بجهة الوالدة. ترك الأمير اعلي البوصلة للرحالة ربما اقتناعا منه بهذه الحجة العاطفية المؤثرة. قد تكون هذه القصة التي جاءت في ثنايا رحلة سولييه من السنغال إلى آدرار تؤرخ لأول احتكاك موريتاني بالبوصلة وهو احتكاك لم تتولد عنه نتيجة تذكر.
إن البحر والتعامل معه يفرض على الإنسان الدقة في تحديد الجهات والتحري في معرفة المسافات والتعامل الحسابي مع المجال وهو أمر ظل غائبا عن الثقافة الحسانية بعيدا من اهتمام الناس اللهم إلا مجموعة إمراگن المحصورة في المكان والمحدودة في العدد وهي تلك المجموعة الموريتانية التي تحترف مهنة الصيد التقليدي منذ غابر العصور ويسكن عناصرها قرب شواطئ المحيط الأطلسي.
ثقافة فلكية في خدمة القوافل التجارية
كان للقوافل التجارية التي ما فتئت تنفض صحراءنا طولا وعرضا دورٌ هام في الاعتناء بالجهات. كانت القوافل التجارية وحتى المسافرين العاديين عندما يقطعون المسافات ليلا يعتمدون على النجوم للاهتداء ولتحديد وجهة المسير. يقول الأدلاء المتمرسون وخفراء القوافل عليكم أن تجعلوا النجم الفلاني عن يمينكم طيلة الرحلة أو عن يساركم أو مسامتا للرأس.
ومن أبرز النجوم التي كان الموريتانيون يهتمون بها “نُيَجْمَات بِالْهَادِي” وعددها خمس، وهي المعروفة فلكيا بكوكبة الدب الأصغر، والأخير منها يسمى نجم الشمال، وكثيرا ما اعتمده الموريتانيون في تحديد الاتجاه. ونجم الشمال يعلو القطب الشمالي للكرة الأرضية ويقع قريبا جدا من محور دوران الأرض حول نفسها لذلك فهو دائم الظهور، ويقع في الشمال دائما. لذلك فقد كان هاما جدا لمعرفة الاتجاهات. ولعل تسميته المريتانية بالهادي (أبو الهادي) عائدة إلى أنه يهدي القوافل في سيرها ويجعل الضال عن طريقه في مأمن. ويقول الموريتانيون في أمثالهم للشيء البعيد جدا: “أگرب منُّو بالهادي”، أي أن نجم القطب الشمال أقرب منه، وهذا مبالغة في البعد. قال محمد عبد الله ولد الحسن الديماني رحمه الله:
أهل أم الهادي گال حد ۞ أگرب منهم بالهادي
وأهل أم الهادي جاو بعد ۞ يا أمةَ الهادي
وكانوا يهتدون بالثريا وهي عنقود نجمي معروف يقع في كوكبة الثور، ويطلق الموريتانيون اسم “المشبوح” على نجوم الجوزاء أي الهقعة والهنعة، إلى غير ذلك من النجوم الشهيرة والتي ارتبطت بالثقافة الحسانية وصارت جزءا من تحديد الجهات ومعيارا للاهتداء خصوصا أثناء السفر في الليل.
هل بناء الخيمة ومسارب الرياح سبب الاختلاف في تسمية الجهات؟
نعود إلى موضوعنا وهو الاختلاف في الجهات عند سكان موريتانيا لنفترض مع غيرنا أن تحديد الجهات في هذه الصحراء ظل خاضعا لبعض المؤثرات التي من أهمها نظام الرياح ومواسمها وما تقتضيه تلك العوامل الطبيعة من وضع الخيمة البدوية وتوجيه مدخلها ومعرفة الجهة المعاكسة وهي “مگفَى الخيمة” أو “سهوة الخيمة“.
لم يكن بناء الخيمة عند الموريتانيين وتحديد وضعها اعتباطيا بل إن عوامل طبيعية من أهمها الجهة التي تأتي منها الرياح كانت تؤخذ في الحسبان عند بناء الخيمة. ففي تگانت مثلا تعتبر “التلية” وهي رياح تأتي من الشرق غير صحية، وأقل منها صحة “الساحلية” وهي رياح تأتي لمنطقة تگانت من الشمال. بينما تعتبر “الگبلية” رياح الغرب في تگانت أو “اشريگية” وهي رياح الجنوب بنفس المنطقة رياحيْن معتدلتين بل ومبشرتان بهطول الأمطار.
وفي العيون بالحوض الغربي لا بد من الاحتماء من الرياح التي تأتي من “تل ساحل” أي شمال شرق، أما الرياح التي يتعرض لها والمعتدلة فتسمى “الگبلية” وهي التي تأتي من جهة الجنوب الشرقي.
وفي تيرس وكذلك في منطقة الترارزة مثلا نجد نفس الظاهرة فالرياح التي تأتي من الغرب أو “الساحلية” أو تلك التي تأتي من الشمال-الغربي وتسمى في منطقة الترارزة باسم “اجريحه” فكلتاهما ضارة بالأبدان، وكذلك إيريفي الذي يأتي من الشرق والشمال الشرقي فهو غير محبب لما فيه من جفاف وحرارة. أما الرياح المرغوب فيها والمعتدلة في منطقة الترارزة مثلا فهي: “الهكري” أو “رياح “الگبله” وتهبان من الجنوب الغربي، وكذلك “ريح الفُلاَّني” التي تهب من الجنوب الشرقي. كل هذه الأنواع من الرياح كانت بناء الخيمة يضعها في الاعتبار.
وحتى لا أتعب القارئ بهذه التفاصيل فما أريد أن أصل إليه هو نفس الخلاصة التي توصلت إليها الباحثة كاترين وهو أنه بالنسبة لجميع مناطق موريتانيا فإن الرياح التي تأتي من جهة “التل” رياح ضارة، سواء أكانت “التل” الشمال أو الشرق. بينما تعتبر الرياح التي تهب من “الگبله” رياحا معتدلة ومحببة سواء اعتبرنا “الگبله” تعني الغرب أو الجنوب. وعلى هذا الأساس كان وضع الخيمة الموريتانية متجها نحو الرياح المفضلة ومجانبا للرياح الضارة. فالرياح المعتدلة الباردة التي يتعرض لها تأتي من الجهة “الگبلية” أما تلك الضارة فتأتي من الجهة “التلية”. وتبقى جهة “الگبلة” تعني الغرب عند البعض والجنوب عند الآخرين، وكذلك “التل” يعني الشرق عند قوم والشمال عند آخرين، فتخلتف مصطلحات الجهة وتتحد الرياح سواء تلك المعتدلة أو تلك الضارة. ومن هنا يمكن أن نفترض أن تأثير الرياح ومفعولها هو الذي يحدد المصطلح وليس الجهة الجغرافية. ولذلك جاء اتجاه الخيمة الموريتانية مكرسا هذا الارتباط بالرياح ويكون وضع الخيمة متجها ومنفتحا في جهة الرياح المعتدلة ومغلقا في اتجاه الرياح الضارة.
البعد الاجتماعي للجهات في موريتانيا
تكرس نصوص الحوليات التاريخية الموريتاني هذا الاختلاف في تحديد الجهة: فإذا ما عدنا إلى حوليات ولاتة تجد أن “أهل الگبلة” في عرف أهل أزواد تعني أولاد علوش فهم في جهة “الگبلة” أي الغرب بالنسبة لهم. وتطلق نفس النصوص الأزوادية مصطلح “البرابيش الگبليين” على أولاد إعيش وأولاد عمران والمحافيظ والنهارات لأنهم يحاذون أولاد علوش ويقابلهم البرابيش التلية وهم أولاد أولاد سليمان وأولاد غيلان وأولاد بوخصيب.
وتسميات البرابيش المرتبطة بالجهات حدثت عندما انفصلت كونفيدرالية البرابيش نهاية القرن الثاني عشر الهجري إلى مجموعتين غربت إحداهما وتضم أولاد إعيش والمحافيظ وأولاد عمران والنهارات وصارت تعرف “بالبرابيش الگبلية” وشرقت طائفة ثانية وتضم أولاد سليمان وأولاد أحمد والمعاتيگ وأولاد غيلان وأولاد بوخصيب وصارت تعرف “بالبرابيش التلية“.
انفصلت قبيلة ترمز الموجودة في أزواد إلى فصيلين: شرقيين وهم ترمز التلية وغربيين ويسمون ترمز الساحلية وقد نزلوا منطقة الحوض وحالفوا أولاد علوش.
والمحصر الشرگي (أي الجنوبي) عند قبيلة مشظوف في القديم تطلق على أبناء اعلي محمود بن أحمد محمود أي المختار الشيخ وأحمدُّ وكانوا جنوب طائفة أندادهم وزعيمها أمير مشظوف محمد محمود بن أحمد محمود ومعه حلفاؤه التقليديون أهل سيدي محمود. ويسمى هذا التحالف المحصر الساحلي أي الشمالي.
وفي الترارزة يطلق لفظ “الگبلة” على الجنوب وأهل الگبلة في نصوص التررازة تطلق على الترارزة الكحل وهي القبائل التروزية التي تسكن شمامة دون سواها كأولاد بنيوگ واولاد بوعلي وأولاد آگشار…
باختصار فإن كل منطقة موريتانية عندها “گبلتها” أو جهتا الجنوبية التي يطلق عليها الگبلة في تلك المنطقة أو تلك.
ولا يتخلف الأمر بالنسبة للجهة التي يطلقون عليها في موريتانيا لفظ الساحل. فأهل الساحل في بعض النصوص الحوضية يقصد بها تجكانت الساحل الساكنين في مدينة تيندوف. وفي حوليات تيشيت تقسيم جهوي لمدينة تيشيت فإذا ذكر في هذا النص “الزر الساحلي” فالمقصود الجانب الشمالي من مدينة تيشيت ويطلق عرفا على سكان الجانب الشمالي من القرية وهم الشرفاء أهل عبد المؤمن والطلبة أهل محمد مسلم، بينما يطلق “الزر الگبلي” على الجانب الذي تسكنه قبيلة ماسنة.
وتنقسم قبيلة الرگيبات وهي من قبائل الشمال الموريتاني والصحراء ويرجع نسبهم إلى سيدي أحمد الرگيبي إلى ارگيب الساحل وهم إما ذرية اعلي بن سيدي أحمد الرگيبي وهم أولاد موسى (ومنهم أهل بلاو وأولاد اليگوتية والسواعد)، أو ذرية أعمر بن أحمد (أولاد الشيخ)، والتهالات وأولاد الطالب وأولاد بورحيم. والقسم الثاني: ارگيب الشرگ وهم القواسم (أهل إبراهيم بن داود ولبيهات والفقره).
ويكثر في نصوص الحوليات التي عندي ذكر مشظوف الساحل وتطلق على فخذين من مشظوف هما المبعجة والعمارنة انفصلا عن بقية مشظوف الموجودين بالحوض وصاروا من ساكنة آدرار فعرفوا بمشظوف الساحل. وأهل الساحل في تواريخ البرابيش تعني الرعيان والجعافرة.
ويعني سدوم بن انجرتو في بعض اشعاره بأهل الساحل إمارة آدرار دون سواها، يقول سدوم:
ياللي بالطيب اتجر الجارْ ۞ وابكُبْرْ المعط والترياسْ
بينْ أهل الساحل واعْربْ زارْ ۞ ءُ هجمتْ ناصر واعرب گرْگاسْ
ويعني بأهل الساحل هنا أولاد يحيى بن عثمان دون سواهم ويعني بعرب زار البراكنة والترارزة ويعني بعرب گرْگاسْ أولاد امبارك.
وأهل الساحل في نصوص آدرار وفي أغلب الحوليات تطلق على أولاد دليم وتكنه والرگيبات وأولاد أبي السباع وغيرهم من ساكنة تيرس والساقية الحمراء.
من هذه الشواهد المستقاة من بعض النصوص التاريخية والحوليات المورتيانية نفهم أن الجهة عنصر أساسي من عناصر التعريف بالقبلية الموريتانية أو تحديد بعض أجزائها. غير أن اختلاف الموريتانيين في مدولول كل جهة يجعل التنبه إلى ذكر أي جهة في هذه النصوص أمر مفيد، وضروروة التعامل مع دلالة كل جهة بحسب المعنى الذي تعطيه له هذه المنطقة أو تلك.
الحسانية وأدبها الشعبي والتوسع في مفهوم الجهات
تتوسع اللهجة الحسانية في الألفاظ التي تطلق على الجهات فيقولون للشمال “تل” لكن الصفة منه هي “امگافي” وهي ذات أصل فصيح وهو القفا، فالخيمة الموريتانية وجهها في الجنوب وبالتالى فإن قفاها في الشمال. ويطلق على الشمال أيضا في اللهجة الحسانية “السهوة” والصفة منه “امسهوي”، ومن الشعر الشعبي الشهير:
هَاذ الدهر اتفو بيه ۞ مارتْ عنو غدّار
مارت ما تورَ فيه ۞ حلاوَ ما تِمْرارْ
خظتْ اعلَ دار اليوم ۞ أهل أيَّ يالقيوم
شفت آگوم التيدوم ۞ لِمْسَهْوِي كان الدار
محروگْ وُعاد احموم ۞ سبحانك يالقهار
معود حراگ آگوم ۞ ماهُو فاهم لخبار
ويقولون في الحسانية للبرق الذي يومض من جهة الشرق “ابرگ صلواني” أي برق يأتي من جهة الصلاة.
ويقال للشخص إذا أجاب على لغز إجابة خاطئة “ذاك جَ ساحلكْ” وهي كناية عن مجانبة الصواب. ويقولون أيضا “جَ تل ساحل ذاك” وهي أيضا عن عدم إصابة الهدف والبعد من تحقيق النتيجة المطلوبة. يقول الطيب ولد ديدي رحمه الله في نهاية طلعة مشهورة:
واتْهَمْتْ انْهُمْ نَجْحُ الاثنيْنْ ۞ عَگْبْ ادُّو منْ فعلْ القديرْ
جَ بالكل وَذ ما يخْتلْ ۞ تلْ أثرُو ساحلْ سِنْيَاتِيرْ
المديرْ وُجَ لوخرْ تلْ ۞ ساحلْ سنياتيرْ المديرْ
كما يقولون للذي أخطأ وجهته “جَ من تلْ الزيرَه” أي جاء عن شمال الريعة، يقول الشيخ ولد مكي رحمه الله:
من شرگ الزيرَه عدتْ انجيـــلْ ۞ منت أبنُو مالك يا الجليل
ومن گبل زاد ابذيك الحيلْ ۞ انجيه كارد لمريره
من ساحلها واعگاب اجِّيلْ ۞ إجيهَ من “تل الزيرَه”
ومن كناياتهم عندما يعبرون عن الشيء الذي يعرفه الجميع قولهم: هذا “يعرفو الذويب اللي تل ولاته” والذويب المذكور مرتفع يقع إلى الشرق من مدينة ولاتة التاريخية العريقة.
ومن الأدب الجميل الذي تذكر فيه الجهات قول بابه بن هدار في الشيخ محمد الحي ولد سيدي أحمد ولد الصبار المجلسي:
بارك شِي فيك الكل حد ۞ وانت لك ماهُ بارك
ؤُلا خالگ حاسد ما احسد ۞ وانت منُّو متارك
غير إيل حسد كاملين ۞ فامروَّ ولل زاد دين
منصابلهم ذُ حِجتين ۞ مانك فيهم مُشارك
مارگ لمدارك الاولين ۞ اللي هومَ لمدارك
هاذ لِبَّيْرْ الْ هون بار ۞ فامنين الحگت بارك
زَمْنَيْتُ ماهُ بادفار ۞ وامع ظيفُ متبارك
فالتليات امن أيروار ۞ والگبلِي من تِتارك
ويقول امحمد ولد هدار في نهاية طلعة من غرر الشعر الحساني في مدح محمد ولد عبد العزيز ولد الشيخ محمد المامي:
ما يگطع حد امعاك مصران ۞ بارد ذاك امن اللي ما إيولي
وانت الگبلِي والساحلي كان ۞ وانتا الشرگي وانتا التلي
ولعابدين ولد هار في قبيلة تاشدبيت:
گفيت أسوحلت أشرگت ۞ واستگبلت إلين استخبرت
فالناس أفالناس اسدرت ۞ والش كامل متعدل ريت
واهنيت امنين اهنيت الحگت ۞ الناس اشبه تاشدبيت
وأغلب السباخ الموريتانية الكبيرة توجد في الشمال والغرب سواء تعلق الأمر بسبخة الجل بتيرس أو بسبخة انتررت في غرب الترارزة أو غيرها. ويقال في المثل “رأس العديلة ما إسوحلْ” أي أن قافلة الملح لا تتجه غربا لأن أغلب معادن الملح في غرب موريتانيا ولا معنى لإرسالها إلى هنالك. ويضرب للسذاجة التجارية.
هذه ملاحظات ربما تدفع الباحثين من جغرافيين وغيرهم إلى تعميق البحث في هذا الموضوع وإعطائه من العناية ما يستحق، وحسبي أن أكون أثرت فضول القارئ وجذبت انتباهه إلى هذا الموضوع الذي يمس حياتنا وثقافتنا ولغتنا.
د سيدي أحمد ولد الأمير