
بعدما ان استأثرت الحرب الصهيوامريكية على قطاع غزة بصدارة الاهتمامات العالمية طيلة عام ونصف تقريباً, نجح دونالد ترامب منذتوليه مقاليد السلطة في الولايات المتحدة منذ اكثر من شهر في سرقة الاضواء من قادة هذه الحرب الصهاينة الذين كانوا ضيوفاً دائمين على الفضائيات ووسائل الاعلام الاخرى يتقدمهم نتنياهو وكبار اعضاء عصابته المتطرفين, وخصوصاً عندما فرقع (ترامب) قنبلته الصوتية التي لم يجد لها سوقاً وذلك بإعلانه خطته لشراء قطاع غزة او السيطرة عليه وتهجير اهله الى مصر والاردن وغيرهما من الدول, وازالة الانقاض والركام وتحويل القطاع الى ريفيرا كما كان يهذي, ومن ثم تراجعه عن ذلك على اثر رفض اهالي القطاع القاطع وصمودهم الاسطوري وتمسكهم بالبقاء على ارضهم وعلى انقاض بيوتهم وكذلك نتيجة لرفض كل دول العالم لهذا الطرح اللاعقلاني واللاخلاقي واللانساني وخصوصاًمصر والاردن.
بعد ذلك اخذت اخبار روسيا واوكرانيا تطفو على سطح الاحداث العالميةوتستأثر بالاهتمام الاعلامي على الساحة الدولية وخصوصاً بعد مكالمة هاتفية طويلة استغرقت حوالي ساعة ونصف بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين أتفق خلالها الطرفان على اللقاء في العاصمة السعودية الرياض وبحضور ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
زيلينسكي لم يعد لاعباً مهماً على الساحة الاوكرانية بعد إقتحام ترامب لهذه الساحة كما اشرنا, فهو (زيلينسكي) لم يكن موفقاً عندما رهن مصيره ومصير بلاده بسياسات الرئيس الامريكي السابق جو بايدن,ولسوء حظه ان سيد البيت الابيض الجديد لا يروق له بايدن ولا تروق له سياساته, بل يعمد الى مخالفتها تماماً في معظم الاحيان.
لا أظن زيلينسكي (الذي كان بايدن يعامله كطفل مدلل) يستطيع ان يتعايش مع الواقع الجديد بسهولة, فقد اعتاد ان يحصل على ما يطلبه كماً ونوعاً من المعدات العسكرية من ادارة بايدن وبلا مقابل مادي تقريباً(ربما بمقابل سياسي على شكل نفوذ وقوة ناعمة في اوروبا وزعامة حلف الناتو).
الان الوضع مختلف تماماً, ترامب لا يستلطف زيلينسكي, وصفه "بالدكتاتور والغير شرعي" وقال ان نسبة مؤيديه لا تكاد تصل الى 4% فقط وفقاً لاخر استطلاعات الرأي, والاخطر من ذلك انه حمله مسؤولية اندلاع الحرب بين اوكرانيا وروسيا ومسؤولية ما حل ببلاده من قتل ودمار وخراب بما في ذلك مقتل حوالي 700 الف من ابناء بلده وفقاً لمصادر استخبارية وعسكرية اشار اليها الرئيس ترامب, هذا, ولا يؤمن ترامب كثيراً بأهمية القوة الناعمة ولا بحلف الناتو واعضائه ووصفه انه يشكل عبئاً مالياً على الولايات المتحدة وذهب الى حد مطالبة الدول الاوروبية بالدفع للولايات المتحدة مقابل حمايتهم ...!!!
ترامب يكن بغضاً شديداً لجو بايدن ووصفه (محقاً) بالفاسد والنائم وأنه تسبب بالكثير من الضرر للولايات المتحدة وانه اسوأ رئيس امريكي في التاريخ, ولسوء طالع زيلينكسي ان ترامب لا يخفي بغضه لمن كان يستلطفهم بايدن.
زيلينسكي لا يعيش اسعد ايامه حالياً, بل العكس, فهو يعيش كابوساً, فقد كان يعمل بلا كلل أو ملل على اطالة امد صراع بلاده مع روسيا وتأجيجه بكل ما أوتي من قوة وكان الدعم الامريكي (العسكري والسياسي والاقتصادي) اكثر ادواته فاعلية, لان بقاء الصراع مشتعلاًهو الشئ الوحيد الذي يضمن احتفاظه بمنصبه كرئيس لاوكرانيا وفقاً لتقرير نشره موقع ذا هيل الامريكي يوم ١٦ فبراير الجاري, وخصوصاً في ضوء تدني شعبيته الى الحضيض وفقاً لاستطلاعات الرأي كما سبقت الاشارة بسبب ادائه الكارثي الذي اوصل بلاده الى ما وصلت اليهبما في ذلك إراقة دماء ملايين الضحايا من ابناء شعبه.
ترامب ليس سياسي تقليدي, فهو لم يدخل عالم السياسة من ابوابها المعتادة, لم يكن يوماً نائباً او سيناتوراً أو حاكماً لاي ولاية ولا رئيس بلدية ولا حتى شيخ حارة, الرجل يعمل في قطاع العقارات بالوراثة فقد ورث تجارة العقارات عن والده, وقضى كل عمره هذا المجال, اي انه تاجر قلباً وقالباً وقفز للرئاسة فجاة من عالم العقارات والفنادق وصالات القمار, لذامن الطبيعي ان من نشاً وترعرع في مثل هذه البيئة ان لا يعطي دون يأخذ أكثر.
ترامب أعلن بكل وضوح أن الأسلحة الامريكية لم تعد متاحة لاوكرانيابالمجان, وإذا أرادت الاخيرة الحصول على مزيد من هذه الأسلحة عليهااولاً سداد أثمان ما سبق ان اخذته من ادارة بايدن والتي قدرها ترامب بحولي 370 مليار دولار قبل احتساب الفوائد وبحوالي 500 مليار دولار بعد الفوائد وصرح اكثر من مرة ان اوكرانيا يمكنها سداد هذا المبلغ من ثرواتها المعدنية, هذا في حين ان زيلينسكي يقدر قيمة اجمالي المساعدات الامريكية العسكرية لبلاده بحوالي 67 مليار اضافة الى 31.5 مليار دولار لدعم الميزانية.
الشاهد, الولايات المتحدة بعد ان كانت تدعم زيلينسكي بلا حدود, فقد قلبت له رأس المجن, والموقف الامريكي تجاه اوكرانيا انقلب 180 درجةويمكن القول انه اصبح على النقيض, وبمراقبة التصريحات الصادرة عن مسؤولين امريكيين خلال الاسبوعين الماضين يمكن تلخيص اهم المتغيرات في الموقف الامريكي كما يلي:
• توقف تدفق السلاح الأمريكي لأوكرانيا، بل مطالبتها بتسديد قيمة الاسلحة والمعدات العسكرية التي حصلت عليها سابقاً في عهد بايدن.
• حدود اوكرانيا هي كما هي الان, وهذا يعني مباركة امريكية لاستيلاء روسيا على أراضي شرق اوكرانيا تقدر بحوالي ربع مساحة البلاد, وهذه الاراضي تحتوي على حوالي 50% من ثروات اوكرانيا الطبيعية واكثر اراضيها خصوبة.
• عدم واقعية مطالبة كييف للانضمام لحلف الناتو, كما اعلن مايك والتز مستشار الامن القومي الامريكي امام مؤتمر ميونخ للامن منتصف شهر فبراير الجاري, وهذا المطلب الروسي الرئيسي, بل كان اهم اسباب اندلاع الصراع.
• من الأفضل لزيلينسكي أن يتحرك بسرعة" للتفاوض على إنهاء الحرب، وإلا "فقد يخاطر بعدم وجود دولة يقودها" وفقاً لما قاله مايك والتز مستشار الامن القومي الامريكي على هامش اجتماعات مؤتمر ميونخ للامن المشار اليه.
• شروع الولايات المتحدة في التفاوض مع روسيا حول اوكرانيا على مستوى وزراء الخارجية بدون شروط مسبقة في الرياض والإعلان عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين موسكو وواشنطن, وجاري الترتيب حالياً لقمة روسية امريكية في الرياض قريباً جداً ستكون اوكرانيا البند الرئيسي على اجندتها.
• اعادة النظر في التمويل الامريكي لحلف الناتو والطلب من دوله حماية نفسها.
• التهجم على دول أوروبية وزعمائها في مشهد يصور تحول أمريكا من حليف يسند ظهر أوروبا ويشد من أزرها الى طرف يطالبها بمقابل مالي لتوفير الامن لها وان عليها ان تدفع مقابل حمايتها للولايات المتحدة, وهذا خطر كبير تخشاه أوروبا, وخصوصاً بعد التصعيد المتبادل بين بعض الدول الاوروبية وروسيا واستفزازهم للدب الروسي الى الحد الاقصى على اثر اندفاع بعض الدول الاوربية (ومنها دول وازنة) وبكل ثقلهم للاصطفاف الى الجانب الإوكراني الذي يبدو انه الخاسر الاكبر, وهذا ما يؤيده واقع الحال وتسارع الاحداث وصولاً الى نية روسيا "اعلان النصر على اوكرانيا" في التاسع من شهر مايو القادم خلال احتفالات يوم النصر السنوية التي تقيمها في الساحة الحمراء في قلب موسكو تخليداً للانتصار على النازية واستسلام المانيا للاتحاد السوفيتي في 9 مايو 1945.
اخر الكلام:
القائد الحكيم والشجاع هو من يعترف بالواقع ويتخذ القرار الذي يحقق ويصون مصالح شعبه وبلده مهما كان صعباً.
زيلينسكي لم يكن حكيماً ولا شجاعاً, بل كان وما زال رئيساً فاشلاً بكل المقاييس رغم انه راقصاً بارعاً, وقد برهن على فشله السياسي مبكراً عندما طرح شروطاً لا واقعية وغير قابلة للتحقيق للتفاوض مع روسيا، مثل انضمام أوكرانيا إلى الناتو وتقديم تنازلات إقليمية من قبل روسياوغيرها, وبذلك استمر الصراع رغم الخسائر الكارثية التي تكبدتها اوكرانيا التي اصبحت تعاني من نقص حاد في القوى العاملة نتيجة لمقتل مئات الالاف من ابنائها، ولهذا لجأ زيلينسكي إلى مطاردة وجرالأوكرانيين من الشوارع والمقاهي والنوادي الليلية وإلقائهم في شاحنات صغيرة مثل المجرمين والزج بهم في جبهات القتال, ووفقاً لواقع الحال انه كلما طال أمد الصراع، تتضح هزيمة اوكرانيا أكثر وأكثر، وهذا وما دفع الولايات المتحدة لتغيير موقفها منه فأصبح كالكتكوت الذي نبذته أمه.
بدلاً من انقاذ ما تبقى من اوكرانيا والاتفاق مع الروس والاكتفاء بخسارة عن ربع اراضيها ونصف ثرواتها, فقد اختار زيلينسكي التمسكبالسلطة وفي مقابل ذلك تنازل عن النصف الاخر من ثروات بلاده للولايات المتحدة, رغم أن أوكرانيا تخسر، والمؤلم انه متأكد من استمرار خسارتها، ويبدو انه سيتركها تنزف حتى اخر قطرة.
كان الله في عون اوكرانيا, فقد وضعها رئيسها بتهوره وسذاجته بين مطرقة موسكو وسندان واشنطن, الكبار تقاسموا اوكرانيا امام سمع وبصر العالم كله وخصوصاً اوروبا التي بدت لا حول لها ولا قوة.
د. سمير الددا