مع حلول الذكرى الستين لعيد الاستقلال الوطني، تتهيأ المناسبة لاستحضار جوانب من تاريخ المقاومة في بلادنا. ويتأكد الأمر أكثر إذا تعلق بنفض الغبار عن جوانب منسية أو مجهولة من المقاومة الوطنية. لكن قبل البدء في تقليب صفحات المقاومة المشرقة الوضاءة واستعراض تجلياتها المختلفة وخاصة منها تلك التي لم تنل حقها من الدراسة والتعريف والتمجيد، لا بأس أن نستعرض جانبا من التراث الثقافي الاستعماري الذي أصل وبرر وأعد المسوغات المختلفة لاحتلال أراضينا. وسنرى من خلال نموذج واحد من ذاك التيار الفكري الاستعماري كيف كانت نظرة المحتل لمجتمعنا وما هي الهواجس والتوقعات التي كانت سائدة عند المنظرين للاحتلال.
يبدو أن تاريخ المقاومة مازال يخبأ لنا الكثير من الحقائق التاريخية عن التضحيات الجسام التي بذلها أسلافنا لحماية الحوزة الترابية والدفاع عن حرمة المجتمع واستقلال الوطن الذي ننعم بأمنه واستقراره اليوم. وستكشف البحوث والدراسات، في المستقبل إن شاء الله، عن معطيات جديدة ومتنوعة عن حقبة المقاومة في بلادنا وتجلياتها المختلفة وامتداداتها تأثرا وتأثيرا في محيطها الجغرافي الإفريقي والمغاربي والمشرقي. ذلك ما تدل عليه المعلومات التي اطلعنا عليها عن بعض مظاهر تلك المقاومة وأبعادها المختلفة. ولنأخذ مثالا باستعراض بعض ما ورد في كتاب الإسلام في غرب إفريقيا (L'islam en Afrique de l'ouest) الصادر عام 1899على لسان مؤلفه ألفريد لوشاتلييه (ت. 1929) Alfred Le Chatelier الذي عَمل ضابطا في الجيش الفرنسي وأجرى عدة أبحاث حول التاريخ الديني والسياسي للمجتمعات الاسلامية ويعتبر في عرف الدراسات الفرنسية وعند الإدارة الاستعمارية الفرنسية مصدرا مهما لمعرفة المجتمعات الإسلامية. ففي معرض حديثه عن قادة الطرق الصوفية في منطقة الساحل والصحراء يقدم لوشاتلييه معلومات يستشف منها أن العالم الغربي ذي التقاليد المسيحية القديمة كان يخشى من انتشار الإسلام في إفريقيا بل أكثر من ذلك يفهم من كلام لوشاتلييه أن التوسع الاستعماري الأوربي كان بدافع نشر المسيحية بدليل قوله إن تيارا إصلاحيا رجعيا، كما يسميه، قد نشأ في العالم الإسلامي كردة فعل على التوسع المسيحي في الفترة المعاصرة. يرى لوشاتيلييه أن تيارا إصلاحيا قد واكب انتشار القبائل العربية وظهر في أطراف منطقة السودان الغربي وأنه انتقل إلى أعماق المنطقة وانتشر بين سكانها وخاصة منهم شعب الفُلاّنْ، وأن حركة الحاج عمر تال الفوتي رحمه الله (ت. 1864) على سبيل المثال كانت حاملة لواء تيار إصلاحي عصري يهدف إلى توحيد منطقة السودان الغربي وردها إلى سابق عهدها في عصر إمبراطورية السونغاي. وأن الاحتلال الفرنسي للمنطقة أدىإلى انبعاث ذلك التيار وتنامي نشاطه المعادي للاحتلال.
كما يرى لوشاتلييه أن القبائل المسلمة المنتشرة في الصحراء تؤثر بشكل مباشر في مجريات الاحداث في المستعمرات الفرنسية وأنه يمكن اعتبار أن تلك القبائل كلها معارضة تماما لأي سيطرة مسيحية.
ويبدو جليا من كلام لوشاتلييه أن العلاقة كانت قائمة بين مختلف تنظيمات المقاومة وهو أمر غير مستبعد البتة بل هو احتمال وارد جدا بحكم العلاقات الدينية والروحية التي تربط تلك الجماعات وبحكم الصلات التاريخية التي كانت قائمة قبل الاستعمار وبحكم وحدة الهدف والعدو. لذلك فإننا لا نشك بوجود علاقة بين مختلف أجنحة المقاومة في شمال أفريقيا وغربها بل وفي وجود خيط ناظم للمقاومة في الغرب الإسلامي والمشرق العربي.
ورغم أن الادارة الاستعمارية الفرنسية استطاعت في نهاية المطاف أن تحتل الأراضي الموريتانية الحالية ويستقر بها الحال بها إلا أنها ظلت تتوجس من موقف المجتمع منها ولا ترى إطلاقا إمكانية قبول تلك القبائل للإحتلال الفرنسي، يقول لوشاتلييه: " إن غالبية محاولات التوغل (الاستكشافي)في أراضيهم (موريتانيا الحالية) قد بائت بالفشل أو كانت، على الاقل، تمثل مخاطرة كبيرة لأصحابها. وقد تمكنت فيما بعد مهمات استكشافية من الوصول بسهولة إلى آدرار. بل استطاع كبولاني أن يصل إلى تنبكت وأروان.(...) لكن يجب ألا نبالغ في هذه النتائج وفي مفعولها على المدى الطويل. فقد سهلتها الظروف وهي عبارة عن جهود فردية. والواقع أنه سواء تعلق الامر بشمال أو جنوب الصحراء فإن القبائل الرحل تنزع كلها إلى معاداتنا. "
ويبدو أن لوشاتلييه كان أكثر عقلانية من كزافيي كبولاني (1866-1905) Xavier Coppolani الذي بدا واثقا من نفسه عند ما كتب تقريره Rapport su ma mission au Soudan, chez les Maures بعد مهمته التي قادته إلى تنبكتو وأروان 1899 حيث يقول: " ...لم تعد بعدُ تلك البعثة التي أرسلتُ إلى آدرار و إلى الشيخ ماء العينين، مستشار ملك المغرب، وأنا على يقين من أنهم سيعودون من تلك الجهات حاملين الرد بالقبول وأن مشروع الفتح الحضاري والسيطرة السلمية على هذه المناطق الشاسعة هي الآن أمور مقبولة أخلاقيا." ومعلوم أن الشيخ ماء العينين رحمه الله تعالى رفض الاحتلال الفرنسي وقاومه بالسلاح. فدل ذلك على أن كبولاني كان مفرطا في تفاؤله، واهما في توقعاته.
كل ذلك يقودني إلى أن استخلص أن ما يذكر عن دهاء كبولاني وحنكته السياسية كان مبالغا فيه إلى حد بعيد. فلو كان الأمر كذلك لما أفرط كبولاني في توقعاته وتفاؤله الذي أدى إلى مصرعه على يد القائد المجاهد سيدي بن مولاي الزين رحمه الله. ولا أدل على تهور كبولاني وأنانيته من أن القادة العسكريين الفرنسيين كانوا يعارضون النهج الذي يتبعه ويرون أنه يتسم بكثير من عدم الجدية ومن رغبة شخصية عند كبولاني في اقتطاع مستعمرة خاصة به في هذه الأرض وأنه كان مفْرطا في اعتقاده إمكانية الاعتماد على شخصيات من وسط معين من المجتمع كان يعول عليها في تسويق مشروع التوسع السلمي. وقد ورد ذلك على لسان الرائد فريرجاه (ت. 1917) Le commandant Frèrejean أحد أكثر العسكريين الفرنسيين نشاطا في العمليات العسكرية الفرنسية في موريتانيا الذي كان يرى أن تلك الشخصيات "...قد فعلت كل ما في وسعها لاستغلال جهل الفرنسيين لواقع الحال فقدموا أنفسهم لنا على أنهم ضحايا ظلم (...) بينما هم في الغالب يريدون منا أن نساعدهم في التخلص من المغارم المشروعة التي كانوا يدفعونها لأمرائهم في مقابل الحماية التي يوفرونها لهم منذ قرون مضت" ...
في مقال سأنشره لا حقا، أستعرض جوانب من حياة شخصيات قاومت الاحتلال لكنها لم تنل حقها من الدراسة في إطار تاريخ المقاومة الوطنية.