يقصد بالجريمة الدولية كل فعل أو سلوك يحظره القانون الدولي الجنائي و يقرر لمرتكبه جزاء جنائيا ، فالقانون الدولي الجنائي هو ذلك الفرع من فروع القانون الدولي العام الذي ينقطع لإصباغ الحماية الجنائية على المصالح الأساسية أو الجوهرية للمجتمع الدولي ، فكل فعل ينطوي على ضرر لأحد هذه المصالح أو تعريضها للخطر يعتبر جريمة يعاقب عليها هذا القانون ( القهوجي : القانون الدولي الجنائي، منشورات الحلبي الخقوقية ، ط 1 , ص 7 ) .
و لما كان القانون الدولي الجنائي قانونا حديثا ، فإن مبادئه و أحكامه لم تستقر بعد ، أو بالأحرى لاتوجد له مبادئ و أحكام خاصة يستقل بها عن القانون الدولي العام من ناحية و عن القانون الجنائي الوطني الداخلي من ناحية أخرى .
وقد درج الباحثون على تقسيم الجرائم الدولية على أساس المصلحة المعتدي عليها و هو التقسيم الغالب الذي تقسم عليه الجرائم في القوانين الداخلية (العقوبات و الجنح ضد المصلحة العمومية المادة 67 - 270 ، الجنايات و الجنح ضد الأفراد 271 -437 من القانون الجنائي الموريتاني ) و هو أيضا التقسيم المجمع عليه في المواثيق الدولية ( لائحتي محكمتي نورمبرج و طوكيو ، المادة الخامسة من نظام روما الأساسي بشأن المحكمة الجنائية الدولية ) .
و مما لاشك فيه أن القانون الدولي أصبح يجرم الفساد بوصفه جريمة دولية ، و يعتبر الأستاذ محمود شريف بسيوني فى مقدمته حول القانون الجنائي الدولي أن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد كرست الصفة الدولية لجريمة إفساد موظف رسمي ( المادة 15 ) من حيث الأعتراف الصريح للفعل المجرم بوصفه جريمة دولية ، الأعتراف الضمني بالطبيعة الجنائية للفعل من خلال التأسيس لالتزام المنع ، الوقاية و المتابعة الجنائية ، تجريم الفعل ، الألتزام أو الحق في التسليم ، الألتزام أو الحق في التعاون أثناء المتابعة أو المعاقبة ، وضع رابط إسناد الأختصاص القضائي .
و حسب تقرير صدر مؤخرا عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة و التنمية ( les flux financières illicites et le développement durable en Afrique , nations unies 2020 ) ، فإن القارة الافريقية خسرت مابين 2013 و 2015 ما يقارب 89 مليار دولار نتيجة الأموال المهربة نحو الخارج أي ما يعادل 3.7٪ من الناتج المحلي الإجمالي الإفريقي، الشيء الذي يسرق إمكانيات إفريقيا وشعبها و يقوّض الشفافية والمحاسبة ويقلص الثقة في المؤسسات الإفريقية حسب واضعي التقرير .
و عموما يمكن مقاربة الفساد كجريمة دولية عبر الآليات الثلاث المعروفة :
أولا : محاكم وطنية بولاية قضائية عالمية :
تعتبر الولاية القضائية لمحاكم الدولة على المسائل الجنائية صورة من صور ممارسة السيادة ، فالأصل هو اختصاص المحاكم الوطنية بما يرتكب على إقليم الدولة من جرائم طبقا لمبدأ إقليمية القانون الجنائي، و بما يرتكب من طرف مواطنيها من جرائم و لو وقعت في الخارج طبقا لمبدأ الأختصاص الشخصي للنظر في الجريمة .
فمبدأ الأختصاص العالمي هو صلاحية تقررت للقضاء الوطني في ملاحقة و محاكمة و معاقبة مرتكب أنواع معينة من الجرائم يحددها التشريع الوطني ، دون النظر لمكان ارتكابها و دون اشتراط توافر رابطة معينة تجمع بين الدولة و بين مرتكب الجريمة أو الضحية .
وقد ظلت مملكة بلجيكا مخبرا للعديد من الأمثلة التطبيقية لمبدأ الأختصاص الجنائي العالمي ، حيث اعتمدت هذا المبدأ بموجب القانون المتعلق ب ( قمع الأنتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف الصادرة بتاريخ 12 أغشت 1949 , و البروتوكول الاضافيين الأول و الثاني الملحقين بها و الصادرين بتاريخ 8 يونيو 1977 ) , ففي البداية منح القانون الاختصاص للنظر في جرائم الحرب فقط ، و بعدها تم تعديله ليشمل الجرائم ضد الإنسانية و جرائم الإبادة .
وقد طبق القضاء البلجيكي هذا المبدأ مرات عديدة ، منها إصدار مذكرة توقيف ضد وزير خارجية الكونغو ، التى دفعت بحصانة وزيرها ورفعت قضية أمام محكمة العدل الدولية التي قضت بأن وزير الخارجية يتمتع بحصانة تحميه من كل متابعة قضائية في الخارج ، ولكن يمكن متابعته أمام قضائه الوطني بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية .
لكن قضاء بعض الدول كان له رأي آخر ، فقد قرر مجلس اللوردات البريطاني متابعة الرئيس التشيلي السابق أوغوستو بينوشيه رغم دفعه بالحصانة ، إلا أن مجلس اللوردات رفض هذه الحجة مرتين حيث قرر في المرة الأولى أنه وعلى الرغم من أن رئيس أي دولة سابق يتمتع بالحصانة ضد أية أفعال ارتكبت في إطار مهامه كرئيس دولة إلا أن التعذيب والجرائم ضد الإنسانية لم تكن من مهام أي رئيس دولة ، و في المرة الثانية اعتبر أن تشيلي وبريطانيا صادقتا على معاهدة الأمم المتحدة لعام 1984 لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، لذا فليس باستطاعة بينوشيه أن يدعي بأنه يتمتع بالحصانة ضد اتهامات بارتكابه لأعمال التعذيب.
وفي سنة 2001 تم رفع شكوى أمام القضاء البلجيكي ضد الرئيس التشادي الأسبق حسين حبري بعدما رفض القضاء السنغالي اختصاصه للنظر في الموضوع ، و نتيجة لذلك طالبت بلجيكا بتسليمه لقضائها الوطني من اجل محاكمته ، لكن السنغال رفضت تسليم مواطن إفريقي لدولة استعمارية بحسب الرئيس السابق عبد الله واد .
محكمة العدل الدولية قضت في حكمها الصادر بتاريخ 20 يوليو 2012 بأنها مختصة بالنظر في تفسير المادة 6 و 7 من اتفاقية مناهضة التعذيب ، و بأن السنغال قد انتهكت التزاماتها الدولية لعدم إجرائها تحقيقا أوليا بهدف محاكمة المدعو حسين حبري، لذا علي السنغال عرضه علي سلطاتها المختصة بغية محاكمته في حالة عدم تسليمه .
ثانيا - المحاكم الإقليمية :
لعبت المحاكم الاقليمية المكلفة بتطبيق اتفاقيات حقوق الإنسان الاقليمية دورا هاما و جوهريا في الرفع من حقوق الانسان ، خصوصا مع الانتقادات الشديدة التي واجهتها محكمة الجنايات الدولية ، وتوجد حاليا محاكم إقليمية راسخة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان مثل : المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان التى تأسست في سنة 1959 بموجب الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان , و محكمة الدول الأمريكية لحقوق الإنسان التى تأسست 1979 , و المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان و الشعوب التي تأسست سنة 1998 , و أخيرا المحكمة العربية لحقوق الإنسان 2014 . كما توجد اتفاقيات إقليمية عديدة لمكافحة الفساد كاتفاقية الدول الأمريكية لمكافحة الفساد 1996 ، و اتفاقية مناهضة الرشوة لمنظمة التعاون الأقتصادي و التنمية سنة 1997 ، و اتفاقية الأتحاد الافريقي لمنع الفساد و مكافحته 2003 , و الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد 2010 .
و من مميزات المحاكم الإقليمية قدرتها على مسائلة الدول الأعضاء وفق اتفاقيات لمكافحة الفساد ، و قد نجحت منظمات المجتمع المدني النيجري في عرض قضية فساد كبيرة على محكمة المجموعة الاقتصادية لدول أفريقيا الغربية، و كانت حجة المجتمع المدني أن حق النيجيريين في التعليم تم التعدي عليه بسبب فساد في الموازنة العامة للتعليم ، و استند المجتمع المدني في ذلك بالميثاق الافريقي لحقوق الإنسان و الشعوب باعتباره قانون نافذا ، و في سابقة قضائية اعتبرت محكمة إقليمية الفساد انتهاكا واضحا لحقوق الإنسان ، و ننتج عن هذه القضية استرداد 3.4 مليار نيرة نيجرية كانت قد سرقت من ميزانية التعليم ( مشروع "الحقوق الاجتماعية-الاقتصادية والمساءلة" في مواجهة جمهورية نيجيريا الاتحادية ومفوضية التعليم الأساسي العالمية ) .
ثالثا - المحكمة الجنائية الدولية:
تمثل المحكمة الجنائية الدولية منذو ظهورها صيف العام 1998 الركيزة الأساسية لأغلبية أعضاء المجتمع الدولي الراغبين في إرساء قواعد متينة للعدالة الجنائية الدولية ، فقد كان العالم يأمل في أن تكون الحرب العالمية الأولي الحرب التى ستنهي جميع الحروب ، إلا أنه بمرور فترة قصيرة وجد العالم نفسه متورطا في نزاع أكبر بالرغم من خطورته و أبعاده ، تبعه ما يقارب 250 نزاعا مسلحا على المستويات المحلية و الإقليمية و الدولية ( محمود شريف بسيوني : المحكمة الجنائية الدولية ، القاهرة 2002 , ص 6 ) .
و يشمل اختصاص المحكمة حسب المادة 5 من نظامها الأساسي ثلاث جرائم دولية محددة بشكل دقيق هي جريمة الإبادة الجماعية و جرائم الحرب و الجرائم ضد الإنسانية و جريمة العدوان التى تم الأتفاق على تأجيل ممارسة الأختصاص بشأنها حتى صدور اجتهاد قضائي يعرفها و هو ما تم بالفعل في مؤتمر كمبالا سنة 2010 .
ويرى جانب من الفقه أن المحكمة الجنائية الدولية تشكل إطارا مناسبا لتجريم الفساد لاعتبارات تتعلق بالجانب الموضوعي للعقوبات و توافر إمكانات التعاون الدولي التى يحدد النظام الاساسي أشكالها بدقة ، فهو يوفر إطارا مناسبا حيث يمكن للدول الأطراف تعديله إما باعتبار الفساد جريمة عدوان اقتصادي ، أو باعتباره جريمة ضد الإنسانية .