لقد بات من المعلوم أن مدينة شنقيط كانت منطلقا للرحلة الشنقيطية إلى البلاد المقدسة، ولذلك أمها كثير من علماء البلد، لينتقل منها إلى الطريق المار عبر المغرب ثم إلى البلاد المشرفة، فمن هؤلاء محمدي بن سيدي عثمان الذي بدأ رحلته إلى الحج سنة 1307ه كما بين ذلك صاحب منح الرب الغفور، أما في الرحلة فقد قال: "اعلم أنا خرجنا من ولاتة في اليوم الثاني من شعبان من العام الثامن بعد ثلاث مئة وألف إلى شنجيط، فأتيناه يوم ستة وعشرين فيه". وعلى الرغم من ذكر وصوله لمدينة شنقيط قادما من ولاتة، فلم يبن عن نشاط ثقافي قام به أثناء مكوثه في المدينة، فيبدو أنه كان على عجلة من أمره للذهاب إلى الحج واختيار الطريق الأنسب لذلك، ويوضحه في الرحلة بحيث كان يرغب في الذهاب عن طريق المغرب مرورا بمدينة اصويرة، إلا أن الوقت تأخر مما حدا به أن يختار طريق اندر وركوب البحر من هناك.
ومن العلماء الذين مروا بالمدينة قاصدين البلاد المشرفة محمد يحيى بن محمد الأمين بن ابوه اليعقوبي الموسوي، المتوفى سنة 1349ه وقد كتب لأهل شنقيط رسالتين للتعرف على الوضع فيما نعتقد، ثم أشار إلى طريقة الوصول إلى المدينة عبر مدينة آطار حيث قال: "ولما كان منتهى جمادى الأخرى خرجنا من أطار بعدما صلينا العصر يوم الخميس أول يوم منه إلى شنقيط، فبتنا دونها ليلتين، وقدمناها ثالثها يوم السبت، فأتممنا الصلاة فيها أربعا. وأقمنا بها خير إقامة في أَمْن وأمان، ونعمة وحسن حال". ثم عرج على ذكر حضورهم للجماعة، وما تقوم به من أعمال ثقافية، فقال" وشهدنا الجمعة والجماعة بها، وقراءة الحديث في المسجد، وقراءة الحزب. ولقينا بها بعض الأفاضل ودعا لنا، وأفادنا واستفاد منا والحمد لله. وزرنا أهلها أي: المقبرة مرارا" ثم تابع حديثه ذاكرا لقاءه ببعض الرموز من شخصيات ثقافية وسياسية واجتماعية، فقال:" وكانت إقامتنا فيها بخير وإكرام من أهلها مثل القاضي(البشير بن البخاري بن أحمد محمود)، والإمام(محمد عبد الله بن الغلام (الملقب حالله) المتوفى سنة 1388ه)، وغيرهما مثل الحاج محمد بن لوداعه المتوفى سنة 1383ه، ومولاي أحمد بن أحمد شريف المتوفى سنة 1388ه، والحاج محمد الأمين بن الغلام المتوفى سنة 1394ه، ومحمد البشير بن محمد صالح المتوفى سنة 1384ه. وغيرهم". وقد خرج رحمه الله من مدينة شنقيط مع رفقة من تلامذة الشيخ حماه الله كانوا نعم الرفقة في السفر إلى أن وصلوا مدينة تيشيت. لقد كان محمد يحيي شديد التمسك بما كان يقوم به أهل شنقيط من أفعال ثقافية خاصة المتعلقة بالمسجد، وهي أعمال ينتفع بها كثير من أبناء المدينة، مثل الإنصات لقراءة الحزب، والحديث الشريف، وأمداح النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها.
أما أبناء المدينة فقد ذهب منهم جم غفير إلى البلاد المقدسة، عاد بعضهم بكنوز من المخطوطات النادرة مثل العلامة سيدي محمد بن حبت المتوفى سنة 1288ه رحمه الله تعالى، ومن حج من أبنائه، وعاد البعض الآخر بالذكريات الجميلة وحب الكعبة المشرفة ومسجد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، غير أن البعض الآخر لم يعد وانتقل إلى جوار ربه، مثل جمهرة حجاج شنقيط المعلومين رحمهم الله تعالى، وهم: المنير، والبخاري، وابنه أحمد، ومحمدو بن محمدي، وعبد الرحمن بن الإمام القلاوي،وقد رثاهم العلامة سيدي عبد الله بن محمد بن محمد الصغير بن انبوج رحمه الله تعالى، بقصيدة يقول في مطلعها.
إني لأعلم والدنيا إلى الـــــــــــــــــــــــــــــــعدَم ** أن الحياة خيالٌ رِيء في الحُــــــــــــــــــــــــــــــلمِ
لقد جمع في هذه القصيدة كل ما يعلمه عن تلك الجماعة النابهة، حيث العلم والفضل، والكرم والإباء، وحيث التبتل في محراب الربوبية، والقصد اليقين إلى تأدية الواجب فيما فرضه رب العزة على المسلم. غير أن المنية لا مهرب منها ولو كان الإنسان في بروج مشيدة.
ويستمر الشاعر في مزيد من ذكر تبدل الحياة بين العيش الرغيد، والنكبات التي لا محيد عنها، وكلما طال العمر أتتك بأحوال لا علم لك بها.