عودة إلى مسرحية نهر الجنون لتوفيق الحكيم

الملك : ويحك .... أتقول جدا ؟

الوزير : إنك قد قلتها الساعة يا مولاي : إن المجنون لا يشعر أنه مجنون .

الملك (صائحا) : ولكني عاقل وهؤلاء الناس مجانين

الوزير : هم أيضا يزعمون هذا الزعم

الملك : وأنت ؟ ..ألا تعتقد في صحة عقلي ؟

الوزير: عقيدتي فيك وحدها ما نفعها ؟ إنها شهادة مجنون لمجنون 

الملك : ولكنك تعرف أني لم أشرب قط  من ماء النهر وأني قد سلمت من الجنون لأني لم أشرب

الوزير : هم يقولون يا مولاي  بأنهم سلموا من الجنون لأنهم شربوا من النهر وأن الملك إنما جن لأنه لم يشرب

 

 

هذا مقطع معبر جميل من مسرحية نهر الجنون التي كتبها توفيق الحكيم سنة 1935 وهي مسرحية  من فصل واحد تتحدث عن مملكة اصيب أهلها جميعا بالجنون ما عدى الملك ووزيره؛ حيث تروي الأساطير كما قال الحكيم أن هاتفا من الغيب أنذر ملك  قرية ذات ليلة بأن النهر الذي يجري داخل مملكته  قد حلت به لعنة وأن كل من  يشرب منه من الآن سيصاب بالجنون وأن على اهل مملكته  ان يتركوا مياه النهر ويشربو فقط إما من العصير او النبيذ.. 

 في اليوم الموالي انتشرت أخبار  حالة جنون غير طبيعية في المملكة،  فاجتمع الملك بوزيره وقررا  ان يصدرا أمرا  إلى الشعب  بالتوقف عن الشرب من ماء النهر..ثم  أرسل الملك إلى  زوجته أن لا  تشرب من النهر وأن لا تدع أحدا يشرب منه، ولكن الرسول وجد الملكة ومن معها يتصرفون بطريقة غريبة فقد  شربت بالفعل من ماء النهر؛  فعز على الملك جنون  زوجته وكان مغرما بها وطلب من وزيره ان يحضر له  كبير الكهنة في الحال  لعلاجها، فذهب الوزير لإحضار كبير الكهنة ولكنه وجده هو الآخر قد شرب من النهر، فطلب الملك إحضار كبير الاطباء فوجدوه قد أصيب هو الآخر بالجنون لأنه شرب من مياه النهر ..

وفي النهاية اتضح أن كل من في  المدينة قد شرب من النهر ماعدى الملك والوزير..

في  مشهد موال  يظهر  الملك مع زوجته وهو ينظر إليها متحسرا و الألم والحزن ظاهرين في عينه، بينما تبدو هي متوسلة تراوده ان يشرب من ماء النهر لكي يشفى مما به.

 

هنا تظهر الخبطة الدرامية وتظهر معها براعة الحكيم في تظليل الحقيقة ببعض الشك  فيضمحل الخط الفاصل بين الوضوح والابهام، و يتسلل الارتياب إلى الذهن حول ما اذا كان الملك هو المجنون فعلا.

 

وهكذا تسوقنا الاحداث الى شبه مواجهة بين الملك ووزيره من جانب؛  والملكة والكاهن وبقية الشعب من جانب آخر،   حيث يرى الملك أن لعنة أصابت الشعب  بسبب شربهم من النهر  بينما ترى الملكة ومن معها أن زوجها  الملك قد أصيب بالجنون وان شفاءه سيتم فقط اذا شرب من ماء النهر ..

ومع الوقت يبدأ  الملك ووزيره يشعران  بالعزلة والوحشة؛ ونظرة الاخرين اليهما  كشخصين مختلين  يحتاجان  الى الشفاء..

 

جمال مسرحية نهر الجنون  تتجلى في نقل القاريء الى بؤرة المعركة الأبدية  بين الاقلية  المعزولة بسبب تمسكها بما ترى أنه هو الصواب وبين الاغلبية الشاردة عن الحق والقيم التي يصعب اقناعها أو  الوقوف في جهها..

كما يتجلى جمالها كذلك في تصوير ألم الإنشطار النفسي للفرد مهما كانت مكانته في مواجهة الصراع بين القناعة بالحقيقة والرغبة في المحافظة على الأواصر الاجتماعية حيث يفشل الملك ووزيره في النهاية في الصمود أمام ضغط العاطفة الأسرية ورغبة المحافظة على المكانة الاجتماعية، فيضحيان بعقليهما في سبيل ذلك، ويقررا أن يشربا من مياه النهر ؛ حيث يلجأ الوزير إلى المبدأ الذي تتم تحته دوما صفقات الاستسلام  فيقول  : الحق؛ العقل؛ الفضيلة..كلها أصبحت ملكا لهؤلاء الناس؛ هم وحدهم الذين يملكونها الآن

سبت, 25/01/2025 - 17:49