برحيل المصطفي ولد بدر الدين المناضل الجسور، القائد الفذ، رجل القناعات القوية ، الانسان الخلوق، المتواضع، النزيه والمستقيم تطوىصفحة من اكثر صفحات تاريخنا إشراقا وتألقا. وبرحيله يمكن القول أنه لم ولن يرحل حين رحل، بل سيبقي رمزا يلهم ومثالا يقتدى ما بقيت ذكراه حية في وجدان الموريتانيين، يروونها بفخر جيلا بعد جيل.
يستحيل في هذا الحيز الضيق ان نفي الانسان والمناضل والقائد حقه، لكنني سأحاول ان أبرز في رؤوس اقلام اهم اسهامات الرجل في سجل النضال من اجل الديموقراطية ، والعدل الاجتماعي، والحرية والوحدة الوطنية. وهي اهداف وقيم كرس حياته من اجلها. لقد ألهم الفقيد بأخلاقه العالية، بنزاهته الشخصية وحسه النضالي الكبير أجيالا متعاقبة من الشباب الموريتاني انار لهم الطريق ورأوا في رصيده مثالا يحتذي وتبنواطرحه واثرت فيهم شجاعته الاخلاقية في وقت شحت فيه القيم ودخل فيه بعض مناضلي الامس في سباق محموم للفوز بجوائز التملق والمحاباة.
لقد عبر ولد بدر الدين العقود والحقب دون أن يفقد إلتصاقه يقيم العصر وإهتمامات الموريتانيين والشباب منهم بالذات. وينطبق ذلك على أبناء جيلي الذين اعتبروه أصدق تعبير عن رأيهم ورؤيتهم رغم أنهم في عمر أبنائه أو أحفاده. مازلت أتذكر متى وكيف وأين رأيته لأول مرة: كنا تلاميذاً في الثانوية الوطنية، في العام الدراسي 92-93 ٬ وذات يوم ونحن نمر في ساحة 5مارس مع مجموعة من الشباب قال احدنا : "شاهدوا٬ هذا هو المصطفي ولد بدر الدين". نظراً لاهتمامنا المبكر بالحياة العامة٬ كان بدر الدين إسماً أسطوريا في مخيلاتنا. كانت تشع منه الهبة والوقار وهو يمر بزيه المتواضع وحذائه التقليدي في فترة كان فيها بعض المناضلين السابقين، اقل منه درجة بعدة سلالم٬ يركبون أفخم السيارات ويسكنون أفخم القصور بعد أن أعياهم النضال وتسلل داء الترف وحب الراحة إليهم واختاروا لأنفسهم -بعد أن نسوا أو تناسوا سنوات الشموخ- مهنة التطبيل لسيد اللحظة. إنها بداية الفترة التي تحولت فيها موريتانيا إلى أكبر ورشة تحت سماء مفتوحة للتملق بدون حدود ودونما حياء.
وعودةً لانجازات واسهامات الفقيد، لا حاجة للتذكير انه لا يمكن الفصل بين الفقيد والحركة الوطنية الديموقراطية ولاحقا اتحاد قوى التقدم بعد حل التنظيم السري. بفضل الفقيد ورفاقه اضطر النظام، بعد ان اهتزت الارض من تحت اقدامه وترنحت اركانه ، لمراجعة اتفاقيات التعاون المجحفة مع المستعمر السابق وتأميم ميفرما وضرب العملة الوطنية، دون ان ننسي أن كل التحسينات التي ادخلت في قانون الشغل كانت، الي حد بعيد، بفضل نضال الحركة وبالخصوص جناحها النقابي.
يحسب للفقيد موقفه المبدئي والشجاع من قضية الصحراء وكذلك من التنكيل والاضطهاد اللذين تعرض لهما اخوتنا المنحدرون من الضفة. لقد كنت ضمن مجموعة من الاصدقاء وزملاء الدراسة فتحوا أعينهم على الحياة العامة في مطلع التسعينيات ليكتشفوا المجازر المرتكبة بحق الزنوج٬ والحيف الاجتماعي وكان ذلك٬ إلى حد بعيد من خلال مقالات ومقابلات محمد المصطفى ولد بدر الدين. ولا أبالغ إذا قلت أنه كان له الأثر الأكبر على تكوين وعينا السياسي. وبقينا قريبين جدا من الناحية الفكرية و العقدية من الحركة الوطنية وان لم نرتبط بها تنظيميا وقد كانت هذه المجموعة هي التي فجرت ثورة الخبز في شتاء ١٩٩٥ ثم اكتسحت الانتخابات الطلابية في كافة كليات الجامعة ودمجت جميع مكونات الشعب الموريتاني في هيئات طلابية موحدة -رغم رفض البعض لذلك- قبل أن تقود بشرف اضرابات ١٩٩٧ الطلابية :عمر ولد دده٬ سيد أحمد ولد الشرقي٬ سيد أحمد ولد باب٬ لمهابه ولد العبادي٬ عبد الرحمن ولد حمودي وغيرهم ممن لايتسع المجال لذكرهم. وقد تعرض قادتها للاعتقال والنفي وما لانهاية له من المضايقات وقد كانت هذه المجموعة وراء الانشطة النضالية في الاشهرالاخيرة من سنة ٢٠٠٠ بعد التصعيد القمعي لنظام ولد الطايع وحله لأحزاب المعارضة. وهو نشاط أرّق النظام وجعل أجهزته الامنية تعيش علي أعصابها ردحاً من الزمن دفعت ثمنه مجموعة من الشباب، تعرضوا لأبشع انواع التعذيب علي يد زبانية النظام.
كان من بين القواسم المشتركة لهذه المجموعة أنها اعتبرت نفسها الاستمرار التاريخي لنضال الكادحين وان أباها الروحي وملهمها في العمل السياسي هو ضمير الوطن المصطفي ولد بدر الدين. ولا يسعني إلا ان أضيف ان من بين هذه المجموعة شباب ينحدرون من نفس المنطقة التي ينحدر منها الفقيد تميزوا بكل صفات النبل والشجاعة والتضحية، ولاغرابةفي ذلك، فهي منطقة تعد المخزون والمصدر الذي لا ينضب للحركة التقدمية في موريتانيا منذ البوادر الاولى لظهور الوعي السياسي في البلد والىيومنا هذا.
تعازينا لأسرة الفقيد ورفاقه واصدقائه و للشعب الموريتاني وبالخصوص لشبابه الذي يفقد مع بدر الدين معلمه ونبراسه و آخر العمالقة .
رحم الله محمد المصطفى ولد بدر الدين واسكنه فسيح جناته.
أحمد ولد الغربي