في بداية سفر تكوين الدولة الموريتانية، وفي صيف 1962 بالذات، عند ما عدت من تدريب في تونس، كانت توجد في "الحي" ثلاثة منابر متميزة هي:
- حكومة الرئيس المختار ولد داداه بسياستها الواقعية جدا وإعلامها.
- الزعيم بوياغي ولد عابدين الذي استقال للتو من الحكومة ويتلمس طريقا آخر، وهو أحد رموز الرعيل الأول من المعارضة.
- جماعة "الواقع" وتتكون من شباب عرب يدعون لإعادة الاعتبار للغة وثقافة الوطن، ويتخذون من نقابة المعلمين العرب بقيادة نقيبها الأستاذ عبدو ولد أحمد (رحمه الله) حصنا لهم، ومن نشرتها "الواقع" لسانا مبينا. ومن عناصر هذا المنبر شاب بركني مثقف حيوي ومرح يدعى محمد المصطفى ولد بدر الدين!
وكان المنبر الأخير أقرب إلي، رغم وظيفتي السامية نسبيا، فانتميت إليه. وسرعان ما توسع وأخذ شكلا جديدا ومضمونا أكبر من ترسيم اللغة العربية شمل مآرب أخرى سياسية واقتصادية واجتماعية تعطي الاستقلال الوطني الناقص مضمونه المفقود: أحمدو ولد عبد القادر، المصطفى ولد بدر الدين، محمد فاضل ولد الداه، المحجوب ولد بيا، محمدو الناجي ولد محمد أحمد، أحمد ولد الوافي وغيرهم.
... ذهبت أغلبية الشلة في بداية سنة 1964 إلى القاهرة للدراسة والتكوين، لكن بعد ما أصبح لدينا مخزون مشترك من الألفة والطموح، والثورة أيضا؛ خاصة لما التقينا بثورة الجزائر المجيدة، وطلع علينا صاحبنا محمد المصطفى في نفس السنة (1963) بنشيد ثوري جهوي يمجد تمرد ولايته (البراكنة) على الحزب الحاكم، مطلعه:
بني بركنا شعبنا المقتدر ** على الظلم والبغي والعسف ثُرْ
ومنه:
تنــــــبه ودو بـــــها صيحة ** تكـــــــاد السماء لها تنفطر
ولا تخف صوتك واصدع به ** فمن شا أسر ومن شا جهر
تعـــــــلم بأن الحــــياة نسيم ** يعم مداه جمــيع البـــــــــشر
وأن الفـــــضاء فســــيح وسيع ** وأن الضـــياء عطاء القدر
ويختمه ببيتي الشابي الشهيرين:
إذا الشعب يوما أراد الحياة ** فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينـــــــجلي ** ولا بد للقـــــــيد أن ينكسر.
وزاد من جمال وروعة هذا النشيد تلحينه وغناؤه من طرف المطرب الثائر الضرير ذي الصوت الشجي الجيش ولد سدوم، رحمه الله.
وقد عرفتْ نفس السنة التي سافرت فيها أغلبية الشلة إلى مصر تأسيس أول فرع لحركة القوميين العرب في موريتانيا، يضطلع بالنضال الوطني على أسس جديدة وبأفكار تقدمية وعصرية جديدة. كما عرفتْ صدور نشرة "موريتانيا الفتاة" الناطقة باسم القوميين العرب. وكان محمد المصطفى ولد بدر الدين أحدهؤلاء القوميين العرب.
وفي نهاية 1966 عاد محمد المصفى ولد بدر الدين وبعض زملائه من القاهرة التي كان يتابع منها عن كثب نضال وطنه وأحداث 66 المؤلمة المؤسفة التي قال فيها شعرا جميلا من روائعه:
أماه صلي على روح الأولى سقطوا ** ولتسكــــبن عليهم دمع تأبـــــــــين
صلي لشنقيط ما دام الرجال بـــــهـا ** مرضى يعانون ضعفا في المصارين.
وما يزال هذا المرض منتشرا للأسف الشديد!
وتزامنت عودتهم مع دخول النضال الوطني الوليد منعطفا تاريخيا تمثل في قيام التنسيق بين القوميين العرب والقوميين الزنوج في المجال النقابي من أجل خلق جبهة نقابية تدافع عن الحرية النقابية وترفض خضوع العمل النقابي للحزب الواحد. وجرت تلك الخطوة بمبادرة من الزعيم النقابي جابيرا جاگيلي رحمه الله، وشجعها ولد بدر الدين وصحبه. وما لبث ذلك التنسيق أن امتد إلى مجالات أخرى.. ووطئت الفتنة.
كان المصطفى ولد بدر الدين وأحمدو ولد عبد القادر ومحمدو الناجي ولد محمد أحمد هم واجهة حركتنا في العمل النقابي، وتم انتخابهم جميعا في مجلس قيادة نقابة المعلمين العرب صحبة كوكبة من المعلمين الوطنيين أمثال محمد الأمين ولد أربيه وأحمد ولد داداه وأحمد محمود ولد خيري وأحمد بيلا باه ومحمد المختار گاگيه، تغمد الله من توفوا منهم بنعيمه المقيم، وأطال بقاء الأحياء منهم.
وبعد هزيمة حزيران، وفي مؤتمر الحركة المنعقد بتاكوماجي، الذي حضره سيدي محمد ولد سميدع وأحمدو ولد عبد القادر والمصطفى ولد بدر الدين ومحمد عينينا ولد أحمد للهادي وبدن ولد عابدين والكاتب، اتخذ النضال في موريتانيا طابعا وطنيا ديمقراطيا في أهدافه ومكوناته وأساليبه. وقد تعزز هذا الطابع بجلاء بعد انتفاضة عمال ازويرات ومؤتمر الطلاب بدمشق.
وسرعانما اشتد عود الحركة وذاع صيتها واتسع مجال عملها فخاضت مواجهة كسر عظم لا هوادة فيها دامت سبعا شدادا مع نظام كان بعض أركانه يرضى أن يظل حارسا أمينا لمصالح الاستعمار والرجعية في موريتانيا.
كانت الجبهة النقابية في الطليعة بقيادة با محمود والمصطفى ولد بدر الدين. فكان إضراب 1971 الشهير والقمع الذي ووجه به، و"ليلة عند الدرك" ومظاهرات فاتح مايو، وإضراب القادة النقابيين في السجن المدني بانواكشوط عن الطعام.. ومحاكمة ونصر 18 يونيو1971.
ولم يهدأ النضال؛ بل ظل مستعرا. وكان محمد المصطفى في الواجهة مع رفاق النضال. عرف السجون والمنافي والقمع والفصل من العمل والتشريد، لكنه ظل صامدا لم يتزحزح ولم ينحن حتى تحقق النصر للوطن في صيف 1974 حين انعقد مهرجان الشباب الذي التأم فيه الحوار الوطني بين الفرقاء الوطنيين، وكان من ثماره تأميم "ميفرما" وغيرها، وإعلان العفو العام عن السجناء والمطلوبين، وقيام جبهة وطنية بين الحكومة والكادحين كان من تجلياتها الميثاق الوطني لحزب الشعب ومؤتمر الشباب.
واختلفنا بعد النصر ثم افترقنا. كان خلافنا نظريا وسياسيا. رأينا في الرئيس المختار رحمه الله رجلا وطنيا، وفي الإصلاحات التي جرت بفضل نضالنا عملا وطنيا يخدم الوطن والشعب، ويبرر ويستدعي قيام أوسع وحدة وطنية لحمايته وتجذيره، وأن طبقة المال الجديدة تستدعي المراقبة عن كثب وانتهاج سياسة مزدوجة اتجاهها، وكان لا يرى ذلك. ورأى في جبهة بوليزاريو ثورة، وأن في موريتانيا يومئذ تمييزا عرقيا وعنصرية، ورأينا غير ذلك. وساند انقلاب العاشر يوليو بمختلف طبعاته، وعارضناه بحزم وعزم في جميع طبعاته.
ومع ذلك، لم يفسد خلافنا وفراقنا للود بيننا قضية، وظلت صداقتنا قائمة، والعلاقات بين أسرتينا على ما يرام. وقد استعان بخدمات مكتبي في بعض نزاعات أنصاره مع خصومهم في الأرض، وزرته مرارا أثناء مرضه. وكانت آخر زياراتي له قبيل رحلته الأخيرة للعلاج في الجزائر؛ حيث وجدت عنده النائبة كادياتا مالك جلو.
ومن بين مآخذي عليه (رحمه الله) عدم الكتابة عن تجربته وتجربة جيله، وتركه الشعر، وهو شاعر مفلق. وكنت أتندر بأن الأدب سيخاصم فيه السياسة يوم الدين. ويرد هو بالعكس بأن السياسة ستخاصم فيَّ الأدبَ يوم الدين!
لقد كان رحيل الزعيم محمد المصطفى ولد بدر الدين خسارة فادحة ورزءا أعزي فيه الوطن وأصدقاء الفقيد وذويه وأسرته الطيبة. وإني لأسأل الله تعالى له الرحمة والغفران وجنة الرضوان، وأن يلهمنا جميعا فيه الصبر والسلوان، ويبارك في أبنائه وذويه الغر الميامين. إنه سميع مجيب.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.