الخلاص من فرنسا النيوكولونيالية

"أنت تعرف أنه لولا ساركوزي ولولاي أنا شخصيا لما أصبحت رئيسا للجمهورية '

ر وبرت بورغي موجها كلامه في برنامح تلفزيوني لرئيس  الغابون السابق علي بونغو

 

 

إن هذا التقريع هو بطبيعة الحال محصلة جفاء بعد ود،  حين  افترقت طرق المصالح  الشخصية ولكنه مع ذلك يبقى عنوانا صريحا للإهانة المتواصلة لشعوب غرب إفريقيا من قبل أجهزة الحكم في فرنسا، الظاهر منها والخفي، المباشر منها وغير المباشر، وهي حالة تجر طرفها على كافة الدول ومنها موريتانيا حتى لاأقول على رأسها،  فلولا ميتران والجنرال جينو لاكاز  مثلا  لما أصبح  معاوية ول سيد احمد الطايع رئيسا لموريتانيا ولولا اكلود غايون  وروبرت بورغي أيضا ونيكولا ساركوزي لما  استتب الحكم لمحمد ول عبد العزيز،  أما النظام الحالي فهو ألعوبة فرنسا وعجينتها المفضلة،  لأن فرنسا النيو كولونيالية تملك وحدها مفاتيح الشرعية التي يحتاجها كل حاكم موريتاني  او غرب إفريقي حتى ولو كان منتخبا ويريد أن يتقدم الى العالم باحثا لشعبه ووطنه عن فرصة للتطور والبروز على مسرح الحياة

 

إن امتلاك فرنسا لحق إقرار شرعية أو مشروعية  حكام غرب إفريقيا هي إحدى دعائم الاستعمار النيوكولونيالي  الذي تمارسه من أيام الجنرال ديغول مباشرة  بعيد موجات الاستقلال الصوري مطلع الستينات؛ والحقيقة أن هذه الدعامة  ليست إلا  الإطار 

الناظم لكل الدعامات الاخرى الاقتصادية والنقدية والأمنية،  إلى  جانب الوصاية  الدولية لدى المؤسسات المالية والحقوقية التي 

تلعب فرنسا من خلالها لعبة  التحكم الحقيقية ؛ ثم تحت هذه الدعامات يتم استخدام أدوات الهيمنة  الداخلية الكثيرة  مثل  الدعم الخفي للنخب الفاسدة ودعم استمرارها في مواقع النفوذ لأنها لا تكشف ولا تهتم بما تراه وتسمعه خلافا للنخب  النظيفة التي يتم إبعادها من بعض المواقع حيث شواهد  التحكم والاستغلال واضحة  سافرة لا يمكن السكوت عليها 

 

ومن أدواتها أيضا كذلك تقارير حقوق الانسان وانتهاك  الحريات التي تعلو نبرتها أو تخفت تبعا لدرجة  الانصياع والطاعة  من قبل النخب الحاكمة

 

يعود تاريخ النيوكولونيالية الفرنسية إلى فكرة ابتدعاها الجنرال ديغول في خمسينيات القرن الماضي مؤداها أن فرنسا المحطمة بسبب الحرب  والاحتلال الالماني يمكن أن تسد فجوات انهيارها وتستعيد وضعها وريادتها في اوربا من خلال التزود من موارد مستعمراتها وموادها الاولية،  مما سيدعم  عودتها الصناعية  بأسرع وقت ، الى جانب ما سيمنحه ذلك من حضور دولي في المحافل العالمية،  أي بكل بساطة ربط هذه الدول الخارجة من نير الاستعمار المباشر بمشروع امبريالي خفي  هو مشروع إعادة بناء  الاقتصاد الفرنسي من جديد، و هكذا تم تصميم مؤسسة  'افرانس آفريك' النافذة والغامضة لخدمة هذا المشروع،  وهذه هي في الحقيقة الخطة التي حول بها الجنرال ديغول وخلفاؤه من بعده غرب إفريقيا  إلى هذا الحطام الذي يراه كل أحد ويسمع به كل أحد تحت عناوين مختلفة ولكن بمدلول واحد : الفقر - التخلف-الهجرة -الانقلابات-الصراعات.

 

غير أنه، وكما يقال، لكل بداية نهايتها المحتومة..لقد ماتت 'افراتس آفريك' وما دلنا على موتها إلا دابة الأرض ( روبرت بورغي)  هذا الرجل  الظلي،  أمين سرها لعقود والذي نعاها مؤخرا في مذكراته التي اختار لها عنوان '' إنهم يعرفون أني أعرف كل شيء  -  حياتي في افرانس آفريك''  ؛ غير أن هذا لا يعني أبدا نهاية الهيمنة النيوكولونيالية الفرنسية، إلا أن المؤكد أيضا أن شروط وفرص الخلاص منها  هي الآن في حكم المتاح، خصوصا مع ما يلوح في الأفق من تحولات جيوبوليتيكية عالمية لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها

 

لقد قال نيكروما ذات يوم إن مواجهة النيوكولونيالية يتطلب تضافر أمرين : حركة تحرر جادة تحظى بتأييد قوة عظمى صاعدة من مصلحتها تشكيل بنية جديدة  مغايرة لأوضاع فقدت شروط استمرارها ، وهذا هو ماترتسم بوادره بالضبط الآن، وهناك تجربة تحررية تجري الآن في غرب إفريقيا تحمل صيغة نيكروما يخوضها تحالف دول الساحل بالتعاون مع روسيا الاتحادية، وهي حقا جديرة بالاهتمام والمتابعة 

 

وغني عن التنبيه أن أي مسار تحرري غير تقليدي يفترض تلقائيا إعادة النظر في كل التحالفات الحارسة لما هو قائم من أوضاع لا سيما حين يرتبط الأمر بشعوب محدودة القدرات محرومة من التطور التقني والاقتصادي، بل وحتى أحيانا تنقصها الروح الوطنية والتجانس الاثني والرضى الاجتماعي  ..إن هذا بالذات هو مايستدعي اللجوء إلى أحلاف صادقة تقوم على مبدإ الكل رابح وليس أحلاف تبعية تستغل كل ثغرة ضعف حتى لا يربح فيها الا  طرف واحد

 

إن أول شيء يجب الإقدام عليه في رأيي بالنسبة لأي راغب في تصحيح مسار هذا البلد هو مراجعة شروط ومسوغات كافة التحالفات التي تكرس الهيمنة النيوكولونيالية وتخدمها بمافي ذلك تلك التي تربطنا بالفضاء الاورو متوسطي لأننا لا ننتمي لا جغرافيا ولا تاريخيا ولا ثقافيا لمنطقة البحر الابيض المتوسط  تماما كعلاقتنا بمنطقة شمال الأطلسي 

 

إن تناقضنا قائم وحقيقي مع هذه المنطقة ومع روحها التي قامت عليها أصلا وأول  تجليات هذا التناقض أنها منطقة تخدم تلقائيا أعداء قيمنا ووجودنا وعلى رأسهم إسرائيل، بل حتى رؤيتها الليبرالية للتقاليد والقيم هي نقيض سافر لما تتبناه هذه الشعوب وترتاح له من قيم 

 

ثم إننا في هذه البلدان  شعوب برية طبيعية لا علاقة لنا بالبحار مرتمون في البر منذو الأزل،  لا مراكب لنا عبر التاريخ ولا بؤر سكنية على الشواطيء ، تشاركنا في هذا الميزة دول مثل الجزائر التي هي دولة مرتمية في أحضان البر استقبلت كل مآسيها من البحر ولا سيما مأساة الغزو الفرنسي، وتشاركنا ليبيا والسودان  كذلك في قيم البر,   ويشاركنا العراق في المشرق و غيره..هذه  الكتلة العربية هي كتلتنا الطبيعية التي نتطور حتما داخلها بيسر وسهولة؛  وفي إفريقيا تشاركنا  طبعا دول  وسطنا الطبيعي الرعوي الزراعي وهي دول الساحل المعروفة، أما الكتل القائمة الآن بما فيها اتحاد المغرب العربي والحوار المتوسطي وغيرها فهي كتل وظيفية لا تناسبنا  ولا تفيدنا في شيء، لا في الحاضر ولا في المستقبل

 

إن هذا يعيدنا إلى صلب الموضوع لأن النيوكولنياليةالفرنسية هي جزء من حلف بحري تاريخي عتيد هو الذي تستمد منه شروط هيمننتها واستمرارها، وبالتالي فان الكتلة البرية الافرو عربية التي قد نصبح بموقعنا وتركيبتنا السكانية واسطة عقدها وليس همزة وصلها، هذه الكتلة لا يمكن أن توجد إلا بقيادتنا وتنسيقنا تماما كما أنها لا يمكن أن تتطور وتسيطر على مصيرها إلا بالخروح من كافة الانساق التي تحولها الى كتل وظيفية تخدم هيمنة غيرها واستمرار العلاقة الخاسرة به

 

 انواكشوط 28/نوفمبر 2024

 

 

خميس, 28/11/2024 - 14:38