كلما اقترب موعد الاحتفال باستقلال موريتانيا، الذي تحلّ ذكراه بعد أيامٍ، في الـ28 من تشرين الثاني/ نوفمبر، يتجدد النقاش حول قصة موريتانيا، وتشكّلها، ومسارات تطوّرها، وأنظمة الحكم فيها، بين من تسكن تحليلاته حالة من الحنين إلى الحكم المدني الأول، ويعدّه أزهى الحقب وأفضلها، وأن موريتانيا شهدت نُكوصاً بسقوطه، وبين من يعدّه أساس البلاء، وأن ما تعيشه الدولة حالياً من أزمات سياسية وثقافية واجتماعية، بسبب أخطائه، ومشكلات التأسيس. لهذا، تصبح المذكرات المكتوبة من طرف السياسيين البارزين في التاريخ المعاصر لموريتانيا، وكذلك المسؤولين منهم، مهمةً لمن يبحثون عن تشكيل رؤية متكاملة عما حدث. فكلما كتب شخص مذكراته، اتسعت دائرة المتاح من المعلومات والتحليلات، ووجد الباحث والمواطن ضالّته، وهو ما يجعل المذكرات والشهادات المقدّمة من طرف من أسهموا في الحياة العملية والسياسية في موريتانيا، مثيرةً للجدل والاهتمام. ومن المذكرات التي صدرت مؤخراً، وحظيت بالاهتمام، مذكرات الوزير والأكاديمي محمد عالي شريف، وهي المذكرات التي جاءت في 398 صفحةً، وكانت بعنوان "سيرة من ذاكرة القرن العشرين"، وصدرت نسختها العربية عن دار الساقي.
شاهد على الجيل الأول
شغل محمد عالي شريف منصب الأمين العام للرئاسة في الجمهورية الإسلامية من 1969 إلى 1978، وكان من أقرب المقرّبين إلى الرئيس الموريتاني الأول، المختار ولد داداه.
وهو الطفل الذي هاجر والده من بلده الأصلي الذي أصبح يسمى موريتانيا، ليولد في غينيا كوناكري، ويتربى فيها، ويعيش طفولته هناك. وفي حديث إلى رصيف22، قال: "وُلدت في غينيا كوناكري. والدي هاجر من موريتانيا إلى هناك، وأحمد الله على أنه ربّاني، ودعى إلى الله ألّا نحب المُلك، وأن يسكننا التواضع، وأعتقد أن دعوته استجاب لها الله في كثيرين منا".
في طفولته، كان يعدّ قريته ساكالي، مركز الكون، إذ يقول في مذكراته: "في مقتبل العمر، بدءاً من سنوات 1949-1952، بدأت ملامح ذكرياتي السياسية الأولى تتشكل تدريجياً، وكذلك الحال لإخوتي وأبناء إخوتي وأقاربي الذين هم أقراني. عندما بدأنا نلج أبواب المدرسة التقليدية، حينذاك لم أكن أتصوّر أن قريتنا، ساكالي، ليست مركز الكون، وأن ما وراء الجبال التي تكتنفها، ليس إلا الفراغ المفتوح الذي تسبح فيه الأرض، وبلا مدلول واضح، كنا نسمع "فرنسا"، و"بريطانيا العظمى"، وكان يقال حينذاك أن رؤساءهما، أو ملوكهما، أو ملكاتهما، أقوى من حكام الدوائر الإدارية الذين كنا نخشى قوتهم، وسلطتهم، وبطشهم"، إلاّ أن دخوله إلى المدرسة الرسمية الفرنسية غيّر مداركه.
أنهى محمد عالي مرحلة الدراسة الابتدائية متفوقاً سنة 1952، ثم انتقل إلى ثانوية العاصمة كوناكري، ولاحقاً إلى ثانوية "فان فولنهوفن"، في داكار، وكان من حظه وجود علاقات اقتصادية وسياسية وطيدة بين نظام سيكو توري وواشنطن، ما سهّل له ولطلاب آخرين من غينيا كوناكري، الحصول على منحة دراسية في الولايات المتحدة.
وفي سنة 1961، غادر نحو أمريكا حاملاً معه ما حصّله في المدارس الفرنسية التي كانت مناهجها غنيةً بالآداب، وتاريخ الأفكار، وتركّز على غرس "الأدوار الحضارية الكبرى التي أدّتها فرنسا، خدمةً للبشرية".
في الولايات المتحدة، درس أولاً اللغة الإنكليزية في قرية وينوسكي، قبل التحاقه بجامعة بوسطن العريقة، وحصل خلال تلك الفترة على بكالوريوس الآداب من جامعة بوسطن.
وفي آب/ أغسطس 1964، وصل إلى فرنسا قادماً من أمريكا، ليواصل مساره الأكاديمي في جامعة السوربون العريقة، بأطروحةٍ عن الرقّ ومخلّفاته في المجتمعات المسلمة في غرب إفريقيا، تحت إشراف عالم الأنثروبولوجيا، جورج بالانديه، وقد لمس محمد عالي وقتها الفرق في التقدّم، بين العالمين الأمريكي والأوروبي، فقال: "كانت خيبتي كبيرةً عندما نزلت في ميناء لو هافر في الصباح، وركبت القطار إلى باريس، وجبت شمال فرنسا الذي قرأنا عنه في دروسنا الثانوية أنه أكبر منطقة صناعية في فرنسا. إن رؤية باريس بعد سنوات من الإقامة في بوسطن، وإقامات متعددة في نيويورك وواشنطن، هو عين التباين؛ المباني جميلة، وعلى نمط معماري يعطي أحسن ما بناه الإنسان الأوروبي منذ قرون، لكنها بصراحة بنايات قصيرة كمساكن الأقزام، وشوارعها تشبه طُرقاً ضيّقة في أمريكا.
وكان لتلك الأسفار والتجارب كلها، الأثر الكبير على شخص محمد عالي شريف، الذي تحدث في مذكراته عن لقاء له بمالكوم أكس، وغيره من الشخصيات البارزة.
إرهاصات الدولة
يتحدث الوزير في مذكراته عن إرهاصات نشأة الدولة الموريتانية وبواكيرها، ويقدّم سرداً شيّقاً لذكرياته مع أول رئيس لموريتانيا، المختار ولد داداه، إذ كان معاوناً مقرباً إليه، ومبعوثه الخاص إلى رؤساء الدول، وملوك العالم، ويقدّم صورةً بانوراميةً حول تسيير بعض الملفات الإشكالية، مثل التعريب، والرقّ، والتيارات الإسلامية، وحرب الصحراء وهو الملف الذي كان مكلّفاً به، وكان أيضاً مبعوثاً خاصاً إلى الملك الراحل الحسن الثاني، وأيضاً انقلاب العاشر من تموز/ يوليو 1978، والنظام العسكري، ومواضيع أخرى، هذا بالإضافة إلى محاولة تحليل إشكاليات الامبراطوريات الاستعمارية، من انحطاطها، والصعود المذهل للقوّتين العظميين، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية، وديناميات المواجهة بينهما، وكذلك ظاهرة حركات التحرر الوطني التي أدّت إلى ظهور فضاء جغرافي سياسي يُسمّى العالم الثالث. وعبر دفق من الذكريات والتعليقات، حاول عبر مذكراته استحضار عدد من الوقائع والأحداث التي ميّزت نصف الكرة الجنوبي، المعروف بالعالم الثالث، في نهاية القرن العشرين، ويتعلق الأمر أساساً بمسارات إنهاء الاستعمار، وميلاد الكيانات الوطنية الجديدة، في السياق الجيو-سياسي للمواجهة بين الشرق والغرب، المسماة آنذاك الحرب الباردة، ويرتبط داخلياً بالتطورات المتسارعة والباهرة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية، التي كانت نتاجاً للحيوية العلمية والتقنية والسياسية، وهو ما أحدث ثورةً في الحياة اليومية، وفي الآفاق، وفي إطارات الفكر والعمل، على الصعد الفردية والجماعية.
قد يخرج البعض من المذكرات بفكرة أن الرجل فضّل أن يكتب سيرةً للأفكار، ونقدها، وللتقلبات السياسية التي حدثت في حيّزه الإفريقي، وفي العالم بشكل عام، أكثر من كتابة سيرة ذاتية لموظف سامٍ في موريتانيا. وفي حديث إلى رصيف22، قال: "منذ صغري كنت مهتماً بالعالم، وتاريخ الأمم، وما يدور فيه، وأتابع أخباره، خاصةً العالم العربي، من تقلّبات وثورات، مثل الثورة المصرية، ومحمد نجيب، وعبد الناصر، وحتى ما قبل الثورة المصرية، مثل التحركات في العراق، والشام، وفلسطين، والسعودية، وكذلك التحولات العالمية التي حدثت في الإمبراطوريات الكبرى، مثل البريطانية والفرنسية، فكانت لدي الفرصة لمتابعة الأخبار عبر وسائل الإعلام آنذاك، أكثر من أقراني الذين تربّوا هنا في موريتانيا، لأن أغلبهم تربّوا في البوادي، لذلك اخترت أن أتحدث عن هذا المناخ". ويرى أن فعل كتابة المذكرات مفيد جداً لتشكيل صورة عامة لدى الناس.
مع أول الرؤساء
يتحدث محمد عالي عن الرئيس الأول لموريتانيا، المختار ولد داداه، بكثيرٍ من الإعجاب، ويقول في مذكراته عن بداية علاقته به: "سنة 1967، كان أول لقاء لي مع الرئيس، عندما استقبلني في مكتبه، على إثر تدخلٍ قام به أقرباء مقيمون في نواكشوط، حرصوا على تسوية وضعي الإداري بسرعة تمكنني من دخول دواليب الدولة". وأضاف: "قال لي إن عودة المواطنين من الخارج واجب، لأن تجربتهم يجب أن توضع في خدمة الدولة الفتية". وكان محمد عالي شريف قد رجع إلى موريتانيا، ثلاث سنوات قبلها.
وفي 1969، يقول محمد عالي عن تطور علاقته بالمختار: "بعث إليّ رسولاً يطلبني. فتح الباب، وعند دخولي، قام إليّ وصافحني، ثم دعاني للجلوس. لم يأخذ كثيراً من الوقت ليعبّر عن تقديره لكل ما يعرفه عن مستواي الفكري، ونضجي السياسي، والتزامي بخدمة البلاد، وقال لي بالحرف الواحد: "أتمنى أن تقبلوا منصباً صعباً قليل الامتيازات، هو منصب الأمين العام للرئاسة، فتصحبون أقرب المعاونين إليّ، ولا أخفي عنكم أنني فكرت كثيراً قبل أن أقدّم هذا الاقتراح. فالمرسوم المتعلق بصلاحيات الأمين العام للرئاسة ينصّ على أن يساعد الرئيس في تنسيق العمل الحكومي. فاعتبروني أخاكم الأكبر، ولا تترددوا ساعةً في إعطائي تقييمكم الشخصي، ورأيكم حول مشكلات البلاد كافة".
ويقول محمد عالي، في حديثه إلى رصيف22: "كان المختار صارماً، ويسعى إلى تطبيق القانون، وكان يستمع إلى الناس، وليس متسرّعاً، ولا عجولاً، ويتبنّى نهج 'لا تزر وازرةً وزر أخرى'، وليس خبيثاً".
وتحدث محمد عالي، في مذكراته، عن بدايات صعود نجم المختار ولد داداه قبل استقلال موريتانيا، وقال: "قبل أن تظهر شخصية المختار ولد داداه، بصورةٍ أوضح، خلال الأوضاع والتحديات التي جابهها، فإنه جذب الأنظار إليه، بتأهيله، وتهذيبه، وأخلاقه الرفيعة، والعلاقات الطيبة الواسعة لسَلفه، وإعجاب الشخصيات المؤثرة في تلك الحقبة به، وتقديرها له، وثقة كثيرين من معاصريه، على جميع مستويات الطيف الاجتماع والسياسي. وهكذا، على الرغم من بعض المنافسين الذين يُعتقد أنهم أسمى منه في سجل التسلسلات الهرمية الاجتماعية، فإنه اختير بإجماعٍ صريح ليكون نائباً لرئاسة الحكومة التي كان عليها إدارة وترسيخ الحكم الذاتي الداخلي للمستعمرة التي كانت في طور التحول".
ويرى محمد عالي، أن المختار ولد داداه كان صارماً من أجل تطبيق القانون، ولم يرضخ للقوى التقليدية، القبيلة والمشيخات وبنيات ما قبل الدولة، على الرغم من أنه حظي بتزكيتها، وقال لرصيف22: "لم يكن المختار قبلياً، وذلك ساعده، فكان يملك حريةً في التصرف، فكان محظوظاً في الحكم، وقد قدّمه الشيخ عبد الله ولد الشيخ سيدي، وهو محل ثقة الفرنسيين، ومسموع الكلمة، وتأثيره كبير، وكذلك أمير تكانت، عبد الرحمن رحمه الله، وضع ثقته في المختار، وأمير الترارزة أيضاً، وأمير مشظوف كذلك، لكنه حين حكم، لم يخضع لأي شخص، ولم يكن تحت السيطرة، ولا يسمح لأي شخص بالتدخل لخرق القانون".
وحتى مع زوجته كان صارماً، ويرفض أن تتصرف خارج القانون، على الرغم من أنها قوية، وكانت تضغط عليه دوماً، ولا تتركه يجد راحته، وأكد على أن النفاق السياسي ليس جديداً في موريتانيا، ولا على البشرية بشكل عام، وازداد في موريتانيا مع تزايد السكان، وتعدد الوسائط، وتنوّع الناس.
مسألة الثقافة
يعود محمد عالي في مذكراته، إلى مسألة الإشكال اللغوي في موريتانيا، والآراء المتنوعة فيها، وهو إشكال لا يغيب حتى اليوم عن النقاش، وقال لرصيف22: "أعتقد أن أي شخص عقلاني، وله فكر راجح، لا يمكن أن يقول إن اللغة العربية ليست لغةً موريتانية، وهي لغة البلد الرسمية، ويجب أن تكون كذلك، وهذا مقبول على جميع المستويات، وأصحاب القوميات الأخرى عندهم الحق في التعبير عن مطالبهم بتطوير ذلك، ودعمه رسمياً، واعتماد لغاتهم، والاعتراف بأن هناك شعوباً غير عربية. هذا ما يجب علينا كمسلمين فعله، والحضارة اليوم تقول ذلك، وأنا مع برنامج لمدة عشر سنوات لتطوير اللغات المحلية، وتعليمها لبقية القوميات، لكن ليس لجعلها لغات رسمية، وفي المقام نفسه مع العربية".
ورأى في حديثه لرصيف22، أن قراءة القوميين العرب بأن المختار كان يدعم الفرنسية في موريتانيا، لأن ثقافته فرنسية، وحكم فرنسيٌّ تحت الاحتلال، هي قراءة غير موضوعية، ولهم الحق فيها، ولا يمكن أن أقول إنها خبيثة، لكنها ليست موضوعيةً، لكن لهم الحق فيها، فالمختار كان مثقفاً بالعربية أيضاً، ويحب العربية، وتهمه موريتانيا".
وخلص إلى أنه هو شخصياً، لا يقبل، ولا يفهم أن يخرج شخص ويدافع عن الفرنسية كلغة رسمية لموريتانيا، ولا يمكن إلاّ أن يكون قوله تجارةً، أو بسبب مركّب نقص لا يمكن أن ننزعه.
ويقول الصحافي والباحث، باب ولد حرمة، في مقالٍ كتبه عن كتاب محمد عالي شريف: "لم يخلُ الكتاب من نبرة اعتذار عما قد يكون قد طبع فترة المختار ولد داداه من إخفاقات، أو أخطاء، فحسبُ نظام الرجل أنه صمد في وجه العواصف والأمواج التي كانت تهدد هذا الكيان الوليد، وسعى إلى ترسيخ سيادة الدولة في بلدٍ كان أحد شيوخ قبائله منتصف السبعينيات من القرن الماضي، كما ينقل الكاتب، لا يدرك أن موريتانيا قد استقلّت، وأضحت لها عاصمة تُسمى نواكشوط منذ خمس عشرة سنة".
ويقول محمد عالي شريف، في مذكراته: "ككل عملٍ بشري، لم يكن المجهود المبذول من المختار ولد داداه، في بناء الدولة الموريتانية، خالياً من النواقص والإخفاقات، أو الأخطاء"، وحاول تقديم بعض ملامح ذلك، منبهاً إلى أن الأعمال الجليلة قد تعترضها أمور بسيطة في الظاهر، ومع ذلك لا يكون التنبؤ بها، ولا الحياد عنها، ولا القضاء عليها ممكناً، مهما بلغنا من الذكاء، وقوة الإرادة، والصرامة.
وأكد على أن "التسيير المختاري يتضمن نقاطاً فيها مجال للبحث، وتالياً فيها تساؤلات لا يمكن إغفالها، ولا إطفاؤها، لكن موضوعاً أساسياً كان حكم التاريخ فيه صارماً، ولا مجال للطعن فيه، هو علاقة الرجل بالمال، ولا أعني رجل الدولة، وإنما أعني الرجل فحسب. فقد تواترت وقائع كبيرة تقدّم شهادات ملموسة على نزاهة الرئيس المختار، واستقامته".
زمن الانقلابات
أتى الانقلاب الأول الذي حدث عام 1978، ومحمد عالي شريف في منصب الأمين العام للرئاسة، وقال عن ذلك لرصيف22: "يوم الانقلاب، لم أكن أملك سيارةً في المنزل، ولم يكن لدي من يساعدني، والحقيقة أن راتب الأمين العام للرئاسة والوزراء، كان وقتها لا يتجاوز ثلاثين ألف أوقية، ولا يكفي للعيش، وحين حدث الانقلاب، وُضعت مع الوزراء في منزل المختار تحت الإقامة الجبرية مدة ثمانية أيام، باستثناء الوزير حمدي ولد مكناس الذي كان خارج البلد في السودان، والوزير عبد الله ولد بية كان في منزله لأنه ضعيف، وكان من الصدف أن الرائد جدو ولد السالك، وهو الرجل القوي الحقيقي في الانقلاب، وهو من صنعه، وهو من قدِم بالجنود من أوسرد، كان صديقي، وأيضاً أخوه هو من أوقف الرئيس، واسمه المختار ولد السالك، ولذلك شدد عليهم، أي على اللجنة العسكرية، أن يطلقوا سراحي فوراً، لأنه قال إنني صديقه، ويعرف أنني نزيه".
وواصل قائلاً: "أعلمني بإطلاق سراحي، وقال لي إنه يريد أن نلتقي في وزارة الداخلية، إذ كان جدو ولد السالك وزيراً للداخلية، وحين وصلت إلى وزارة الداخلية، قال لي: ليس لدينا عليك أي مأخذ، ونعرف أنك مستقيم ونزيه، حتى المختار أيضاً، لكن المختار قام بهذه الحرب، أي حرب الصحراء، ونحن لا نملك الإمكانات، وأيضاً هناك فساد واضح، وهناك حكم الحزب الواحد، واستبداد، وذلك غير مقبول".
وأضاف: "لذلك قمنا بالانقلاب، ونتحمل المسؤولية الكاملة، ونحن حالياً على اتصال مع الجزائر، وبوليساريو، وفي مفاوضات من أجل إيقاف الحرب. أطلب منك أن تستريح أسبوعاً، أو أسبوعين، وترجع إلى مكانك في الرئاسة، أو أي وزارة خارجية أو داخلية، فأنا أضمنها لك، فأنا صاحب القرار. فقلت له جزاك الله خيراً، لكن أولاً أنا لا أريد تحريري وحدي، وأريد الرجوع إلى أصحابي. فإذا كانت هناك جريمة ارتكبتها الحكومة، فأنا عضو فيها، ولدي مسؤولية أمام الآخرين، ولا أقبل بهذا، فرد عليّ: 'لا أبداً أبداً'". رجعت إلى منزل المختار (الرئيس)، وقلت لهم ما حدث، فقال لي الوزراء نفضّل بأن تخرج حتى لا يضايقوننا بإجراءات استبدادية، أو يسجنوننا، فالعسكر بلا عقل"، يقول محمد عالي، ويضيف: "قبلت الخروج، لكن رفضت العمل مع العسكر، إذ قلت لهم بكل صراحة إنه لا يمكن أن أكون مستشاراً لكم، أفضل مما كنت كمستشار للرئيس المختار. فلا يمكن أن أقدّم لكم نصائح أحسن من التي قدّمتها إلى المختار، وأنتم قلتم إن الفساد موجود، والاستبداد كذلك، وأنا لدي شراكة تامة في هذه المسؤولية. وبقيت أنا وجدّو أصدقاء حتى توفي في حادث سيارة في ظروف غامضة جداً".
مخاوف وتطلعات
لا ينظر محمد عالي إلى الوراء فحسب، بل لديه مخاوف كبيرة على مستقبل موريتانيا، خاصةً في ظل الاضطرابات في الشمال، ومشكلة الصحراء الغربية، وكذلك الإشكال الحدودي في الجنوب الذي يتمنى الانتباه إليه، ويقول إن ما ينقص موريتانيا هو الاستقرار، وحكم رشيد مضبوط بالقانون والصرامة في تطبيقه على الجميع من دون استثناء، ومن دون النظر في الأصل القبلي أو العرقي، فالمطلوب هو دولة القانون. ومع أن ذلك صعب، لكن المحاولة الجادة هي المطلوبة حتى ينجز قدر الإمكان، وضرب أمريكا وكندا كنموذج للدولة المتعددة العرقيات، والمطبَّق فيها القانون.
يختم محمد عالي شريف حديثه إلى رصيف22، قائلاً إنه يرغب في أن تصبح المصلحة الوطنية والمواطنة هي الأهم، مستشهداً بذكرياته: "حين كنت مسؤولاً في عهد المختار ولد داداه، كتب بعض نخب القوميات الإفريقية في موريتانيا، أن موريتانيا يديرها رجل من غينيا كوناكري، فبحثت عن بعضهم، وقلت لهم: وما هي المشكلة إن كان تسييره مقبولاً؟ هل قصرت في عملي؟ طبعاً لم أقل إن عملي جيد ومقبول، لكن سألت إذا كانت لديهم مآخذ على عملي، وليس على أصلي، وهناك كثر من أصول غير موريتانية يعملون في موريتانيا. أما أنا فموريتاني حتى النخاع، ووالدي موريتاني، وأسلافي كذلك، ومعروفون، ورجعت إلى موريتانيا لأنها وطني، ولو لم أكن موريتانياً لما رجعت إليها، ولبقيت في غينيا كوناكري، أو لذهبت إلى مكان آخر، فلست محتاجاً". ويؤكد على أن هذه النظرة الضيقة لا تروق لي أصلاً، فأنا أنشد دولة القانون بعيداً عن العصبيات القبلية والعرقية، فذلك ما تحتاج إليه موريتانيا.
*نشر هذا الموضوع في موقع رصيف22 بتاريخ 24 نوفمبر 2021.