
أسافر في متاهات الخيال .. أعاتب الأيام البيض على شحها والليالي السود على تقريعها وطغيانها .. أنفذ إلى الذاكرة دون استئذان .. أحط رحال التجلد والتجدد في قلوب المغيبين الصادقين المتصالحين مع الفطرة .. هناك أرفع راياتي العذراء بلون الأمل مستجديا بقرات سمان مرت من هنا أيام قوافل الملح .. فقد ضاعت نوق "ديلول" في معمعة التشكل والتشظي .. وصارت الحكمة حكاية بسيطة من حكايات الغابرين والعابرين .. وكسرَت جحافل المطبلين حرث "محمود" قبل أن تنضج السنابل.
أنثر شعرا ليس مقفى ونثرا غير مسجوع في بلدي المكتظ بالتناقضات، والمزدحم بالفقراء والمساكين والغارمين والرقاب .. وبالظلمة والفاسدين والسياسيين وباعة الوهم.
* في بلدي لا أكاد أميز بين الشعراء والمجانين .. بين البلهاء والبلغاء لفرط ما تلوكه الألسن من لغو وحشو وفحش ...
* في بلدي: تزخر الطبيعة بالموارد ويرزح الشعب تحت خط الفقر بسبب الإهمال والتفريط .. لايزال قادة الرأي فيه منشغلين باجترار النصوص وتشجيع النكوص وتدوير اللصوص والانقلاب على المبادئ والأخلاق إلا من رحم ربي.
* في بلدي:
-صياد عاد لتوّه من البحر حاملا الخيبة، بعد أن عاثت الحيتان البشرية الرسمية بكل الصيد؛ فأسلم نفسه للسباحة في الفراغ.
-وجزار يبيع على قارعة الطريق بقايا عظام جردتها أيادي الزمان من كل لحم يصلح للشواء؛ وأذاب الحرمان كل شحم كان يستطيع أن يباهي به أمام الجيران.
-وحداد انطفأ موقد كيره مثلما انطفأ قلبه تماما؛ فاتّكأ على سندان الماضي يرقب أفول الحرفة في الأفق القريب.
-ونجار ضاع مِجرده بين أكوام النشار والغبار في بحث أبدي عن الدرهم والدينار .. عن لقمة عيش يوفرها لأهل الحظوة في الدار.
-وسائق تاكسي يظل يومه في حرب مصيرية من أجل إثبات الوجود .. يشاكس ولا يماكس .. يمر بواقع مر .. في مركب متهالك يأخذ منه أكثر مما يعطي.
-وحمّال سِلعٍ خارت قواه، ووهن عظمه واشتعل منه الرأس شيبا .. لا يملك تأمينا صحيا ولا أمنا غذائيا، ولا مأوى يقيه شر الحر والقر أو يمتص بعض تأوهاته.
-وإسكافي يسير حافي القدمين نحو مستقبل متمنّع .. يتخذ من الغراء مسكرا للأحزان .. ومخدرا للأحلام.
-وفاكهاني يغمض عينيه كلما أراد أن يبتاع أو يبيع .. لم يشرب عصيرا طبيعيا في حياته؛ فالسلعة لا تحتمل..!
*في بلدي:
-تاجر أتخمته الصفقات وأغرته البيوع بالضلوع في الغش والتدليس والتطفيف.
-وموظف سام يتباهى كل صباح بربطة عنق انكليزية وبذلة إيطالية .. يبتسم في وجه المقاول ويتجهم في وجه المعاود من أصحاب الحق والحقيقة.
* في بلدي حكومات ظلت منذ عقود تغتسل كل أسبوع بدموع التماسيح؛ فتفوح منها روائح الزبونية والمحسوبية في جل المقررات والمراسيم والاتفاقيات.
حكومات آن لها أن ترتدي ثوب الاستقامة والوطنية وتتعطر بالقيم والأخلاق .. فتحقق العدالة الاجتماعية وتصنع تنمية اقتصادية تنهض ببلدي المنهك حد الهزال والمثخن بجراح الفساد حتى الأخمص.
الحسن ولد محمد الشيخ ولد خيمت النص