قراءة في مشروع قانون الجمعيات الجديد في موريتانيا

ملخص

من المؤسف أن يتجاهل مشروع القانون الجديد للجمعيات في موريتانيا، المكاسب التي تحققت لصالح القطاع قبل عشرين سنة، والتي كرسها القانون رقم 2001-02 الصادر بتاريخ 25 يناير 2001 و المتعلق بمصادقة الدولة الموريتانية على اتفاق كوتونو للشراكة، والمرسوم المطبق له رقم 037-2001 بتاريخ 03 فبراير 2001 . 

 

 ومن الغريب أن تأتي صياغة نص مشروع القانون الجديد دون سقف مقترحات الحكومة في وثيقة إصلاح 2007 وأقل بكثير من التطلعات التي كانت تراود المجتمع المدني في ذلك التاريخ.

أما المطلوب حاليا فهو تفعيل وتحيين "وثيقة إصلاح المجتمع المدني الشامل لسنة 2007"، التي أعدت على ضوء مكتسبات اتفاق كوتونو للشراكة، وعرضها للمناقشة لكي يتم إقرارها كمدونة متكاملة لإصلاح المجتمع المدني الموريتاني. 

 

وضمن هذا الإطار المناسب، سيجد الترخيص بواسطة آلية التصريح مكانه الطبيعي المفيد، وإلا، فلن يكون له معنى سوى التضحية بمستقبل المجتمع المدني كله في سبيل البحث عن حل لمشكلة سياسية قد تنحصر أساسا في مصير جمعية واحدة  غير مرخصة حتى الآن.

 

 

مدخل: المجتمع المدني ورهانات العولمة

في العالم النامي، وبخاصة في الفضاء الذي تشكله دول إفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادئ، يطرح نقاش القضايا المتعلقة بالجمعيات أو المنظمات الأهلية أو منظمات المجتمع المدني، أو كما يسميها إتفاق كوتونو للشراكة "الأطراف الفاعلة غير الدولتية" (acteurs non étatiques)،  من الأسئلة أكثر مما يعطي من الأجوبة. 

وبينما يفترض أن دور المجتمع المدني هو قبل شيء، أن يكون صمام أمان لكبح جماح الدولة و جموح السوق، كليهما عن الهيمنة على المصالح الحيوية للمجتمع، ضمن النموذج الثلاثي للتنمية الذي تتشكل أضلاعه من الدولة والسوق والمجتمع المدني، نجد هذه الجمعيات قد ظلت تشكل دوما الحلقة الأضعف في هذا النموذج.

 

وبينما يشير مفهوم المجتمع المدني إلى كيان مستقل عن الدولة وعن السوق، نجد في الحقيقةً أنّ العلاقات بين تلك الأطراف هي جد متداخلة ومشوشة في العالم النامي. كما نجد بأن المجتمع المدني في الوقت الذي يشكل منبرا فعالا لمجابهة و تحدي رؤى مختلفة ومشاريع كونية متصارعة، نجده هو نفسه، وفي الوقت ذاته، موضوعا للتحدي وساحة للصراع والمجابهة بين أطراف عديدة. 

 

قبل أكثر من عشرين سنة، افترضت مدرسة الشركاء الدوليين الفنيين والماليين PTF، صحة علاقة غير مبرهن عليها أصلا بين الديمقراطية و المجتمع المدني، بينما أُعير اهتمام أقل لتحليل طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والسوق. و اتجه الخطاب الإعلاني إلى إضاءة التوترات القائمة بين المجتمع المدني والدولة من جهة، وبين السوق والدولة من جهةٍ أخرى، بينما فُهِمَت ضمنياً العلاقة بين المجتمع المدني والسوق على أنها منسجمة بل ومتكاملة، إلى أن استيقظ العالم على وقع الحراك الدولي الجديد المناهض للعولمة ، (Alter mondialisme) والذي استطاع إفشال قمة التجارة العالمية في مدينة "سياتل" بالولايات المتحدة الأمريكية في ديسمبر سنة 1999 .. على إثر ذلك، قرر الإتحاد الأوروبي - الذي كان يحضر آنذاك للتفاوض على اتفاقيات للشراكة على النمط الرأسمالي المعولم، مع دول مجموعة الـ 77 (دول إفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادئ) - أن يستبق الأحداث في بادرة تحدث لأول مرة في تاريخ التعاون الدولي المتعدد الأطراف، حيث أعلن الإتحاد الأوروبي الاعتراف بالمجتمع المدني- الذي سماه بالفاعلين غير الحكوميين- كشريك فاعل في التنمية من خلال اتفاق "كوتونو" للشراكة(Cotonou Accord de partenariat de) ، الموقع سنة 2000 بين دول مجموعة الـ 77 (دول إفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادئ) والاتحاد الأوروبي.

 

وفي العالم العربي، سعى الغرب ومؤسساته الممولة بشكل خاص إلى دعم إنشاء و تفعيل هيآت المجتمع المدني أساسا في منطقة الشرق الأوسط و دول شمال إفريقيا إلى حد ما، كرافعة لنشر قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، من خلال التركيز على أجندات خاصة غالبا ما كانت مثيرة للجدل. لكن الغرب قد تحاشى منطقة الخليج العربي -الغنية بموارد الطاقة- من هذا البرنامج لأسباب غير واضحة تماما.

 

أما اليوم، فقد أصبح المجتمع المدني يشكل فضاء متمددا أكثر فأكثر، ليشمل مجموعات جد مختلفة وذات أهداف متباينة. وبينما تستخدم الرأسمالية العالمية و المحلية المسيطرة على السوق، بعض منظمات المجتمع المدني لتحمي مصالحها ليس فقط في وجه الدولة، لكن أيضاً في وجه الحركات العمالية و أنصار البيئة و مناهضي الرأسمالية المتوحشة، تسعى منظمات غير حكومية أخرى لتأمين الرعاية الاجتماعية والنهوض بالتنمية المحلية لتأمين بعض الخدمات و تلبية بعض حاجاتٍ الفقراء و الضعفاء والمهمشين، والمساهمة في تطوير الاستجابات للمشاكل الاجتماعية المطروحة على المجتمعات الحديثة.

 

كما أن جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان والاتحادات المهنية وتكتلات المنتجين والنقابات والجمعيات النسوية و جمعيات الرفق بالحيوان وأنصار البيئة وعلماء الدين، تريد جميعها من المجتمع المدني أن يواجه جبروت الرأسمال العالمي وأن يقدمَ تصوراً لطرق وحلول بديلة لتنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية أكثر ملائمة و أكثر أنْسَنة لهذا الواقع المتجهم الذي يعيشه العالم خاصة بعد تفاقم الأزمات الإقتصادية والمالية وما أفرزته جائحة كوفيد-19 من أزمات وتحديات مختلفة على صعيد العالم وفي مختلف مناطقه الجغرافية. 

 

لكن المفارقة هي أن معيار اللاربحية الذي يفترض بأنه يميز المجتمع المدني كفضاء منفصل نظريا عن السوق، هو نفسه ما يهبط به إلى قاع الأنشطة الاقتصادية. وهكذا فإنّ القطاع الربحي الذي هو السوقٌ والقطاع غير الربحي الذي هو المجتمع المدني، ليسا سوى وجهين لعملةٍ واحدة هي الاقتصاد. فالقطاع غير الربحي يعمل كفضاء لنشاطاتٍ اقتصادية مختلفة تولد نتائج مفيدة بأشكال متعددة مثل إنشاء و تسيير البني التحتية كالمدارس و الجامعات و المشافي، أو توفير خدمات فكرية مثل انجاز الاستشارات و الخبرات الضرورية لمواكبة و تأطير المجتمعات المحلية في إطار تنفيذ المشاريع و الأنشطة الصغيرة، إلخ...، والعملية برمتها تؤمن دخلاً و وظائف وتؤسس تجربة وتراكم خبرة وتخلق قيمة مضافة للناتج القومي الإجمالي لكل بلد كما تفيد المجتمع برمته. و تشير دراسة مقارنة نشرت حول القطاع غير الربحي في 22 بلداً أنه يمثل قوة اقتصادية كبيرة، حيث يوظف هذا القطاع 19 مليون عاملٍ بدوامٍ كامل، بما يعادل قرابة 70% من الوظائف المدفوعة في غرب أوروبا و 22% في أمريكا اللاتينية. 

 

إن إشكالية الاتصال أو الانفصال بين المجتمع المدني و السوق تستحق التأمل فيها جديا. ففيما يؤمن السوق قاعدته المالية من خلال ربحية التراكم الرأسمالي، و تؤمن الدولة دخلها من الضرائب و من ريع ممتلكاتها، فإن المجتمع المدني ليس له مصدر ثروة واضح. فهو إن عُرّف على أنه غير حكومي يجب أن يكون مستقلاً مادياً عن الدولة و إن قيل بأنه غير ربحي، فيجب أن لا يراكم رأسمال. 

 

في العالم النامي، أسهمت خلفية ميلاد مجتمع مدني مبني بشكل أساسي من الخارج وليس من الداخل، في استمرار الالتباس الذي يكتنف دقة هذا المفهوم من الناحية النظرية و كذا عدم وضوح الحدود الفاصلة بين مكونات النموذج الثلاثي للتنمية الذي يشكل المجتمع المدني أحد أضلاعه إلى جانب الدولة و السوق. 

 

إن اعتماد المجتمع المدني في البلاد النامية على المساعدة و على الخارج تؤدي إلى تشويه جداول أعمال المنظمات غير الحكومية المحلية، التي أصبحت تتنافس على التمويلات القليلة المتاحة، وتصوغ برامجها و نشاطاتها حسب أولويات الممولين وليس طبقا لتشخيصها هي للواقع كما تبدو لها أولوياته التنموية. 

إنّ وصول بعض الممولين مع تصوراتٍ مسبقة في حقائبهم عن ما يجب أن يفعله المجتمع المدني و عن ما يجب أن يكون عليه، في بلدان لا تزال منظماتها الأهلية في وضعية بالغة الهشاشة، سينتهي بإضعاف قدرة هذه المنظمات المحلية على تطوير رؤيتها الذاتية للمجتمع في بلدانها، و بالتالي، إضعاف مساهمتها في تصور كيفية إنجاز تغيير سياسي و اجتماعي و كذا في إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل المطروحة على بلدانها. 

 

المجتمع المدني في موريتانيا: من الجمعيات إلى المجتمع المدني

في موريتانيا، يعتبر المجتمع المدني ناشئا، حيث لم يعرف تشكله طفرة كبيرة قبل منتصف تسعينيات القرن الماضي. وهو -بلا شك- يمر منذ سنة 2008 بمرحلة حساسة في تاريخ تطوره، تجعله يقف على مفترق طرق حاسم. 

 

فبقدر ما تتيح التحولات السياسية الجارية في البلاد وفي المنطقة والعالم - مثل مقاربات الشراكة الجديدة في مجال نشر الديمقراطية والحكم الرشيد وتفعيل التنمية التشاركية- فرصا مؤاتية، قد تسمح بإشراك المجتمع المدني في مجال رسم وتنفيذ متابعة وتقييم السياسات العمومية في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، فإنها تطرح عليه ـ في الوقت ذاته ـ إكراهات إضافية وتطالبه بضرورة مباشرة إصلاح نفسه بشكل جدي وعميق، يفضي إلى إعادة تأسيس مجتمع مدني حقيقي كشرط مسبق لا غنى عنه لولوج مرحلة المشاركة الكاملة في تدبير الشؤون العامة والصالح العام في الدولة. 

 

ولأول مرة في تاريخ التعاون الدولي المتعدد الأطراف، نجح اتفاق "كوتونو" للشراكة (Cotonou Accord de partenariat de)، الموقع سنة 2000 بين دول مجموعة الـ 77 (دول إفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادئ) ، من جهة والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، في إرساء مبدأ الشراكة ـ من الناحية القانونية ـ كحق ثابت بين الدولة من جهة و "الأطراف الفاعلة غير الدولتية" (acteurs non étatiques)، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني من جهة أخرى. 

 

وهكذا، قذف ذلك الاعتراف القانوني بحق مشاركة المجتمع المدني في المجال العمومي بجلمود صخر في مستنقع راكد، مليء بالتوجس و التردد و الاستسلام للضغوط الداخلية والخارجية التي طالما طبعت المواقف الرسمية في البلدان النامية تجاه فكرة إعادة الاعتبار للمجتمع المدني، أحرى إشراكه في صياغة و تنفيذ و مراقبة السياسات العمومية. 

أما بعد اتفاق كوتونو، فقد شكل التزام الدول الموقعة عليه ـ بإشراك فعلي للمجتمع المدني داخل كل بلد، في عملية صنع القرار في السياسات الوطنية والحوار السياسي والحكم الرشيد، و كذا كل القضايا المتصلة بتدبير التنمية المستدامة ـ تطورا نوعيا و مكسبا قانونيا ثمينا لا رجعة فيه. 

 

و بما أن اتفاق كوتونو يمثل ابتكارا جديدا، فهو يكتسي أهمية خاصة في مجال رصد استراتيجيات السياسات الإنمائية وتأثيراتها على التحولات الاجتماعية و السياسية في حقل الشراكة متعددة الأطراف، بالإضافة إلى كونه يمثل اجتهادا قانونيا ومؤسسيا ربما يكون مفيدا في تسريع عملية تكوين ونضج المجتمع المدني في هذه البلاد و تمكينه من الاضطلاع بلعب دوره المطلوب عبر آليات و صيغ إجرائية عملية و شفافة، لعله يكون في أمس الحاجة إليها في الوقت الراهن.

 

لكن، بقدر ما يتيح إصلاح المجتمع المدني ضمن منظومة اتفاق كوتونو للشراكة، مجموعة من الفرص والمزايا، فهو يعيد طرح تساؤلات جوهرية في صميم اهتمامات المجتمع المدني. 

فمثلا، إذا كان اتفاق كوتونو يتخذ من مقولة الحد من الفقر هدفا رئيسيا، فإلى أي مدى تتيح أبعاده المختلفة ـ بما في ذلك موضوع الشراكات الاقتصادية و التجارية خاصة ـ فرصا جدية لتعزيز مكافحة الفقر وتحقيق الالتزامات الدولية الأخرى كالأهداف التنموية للألفية على وجه الخصوص؟ 

 

ومن جهة أجرى، إلى أي مدى يمكن للإرادة السياسية في موريتانيا أن تواكب هذا النهج العالمي الساعي لإعادة الاعتبار للمجتمع المدني كشريك في صياغة وتنفيذ السياسات الوطنية بشأن القضايا الإنمائية الرئيسية: توطيد الاستقرار، محاربة الفقر، تحقيق الديمقراطية والحكم الرشيد، تعزيز حقوق الإنسان؟ 

 

وكيف يمكن أن تترجم تلك الإرادة في عمل منهجي منظم و شفاف، يسعى إلى إضفاء الطابع المؤسسي على شراكة بناءة ومتوازنة بين الدولة و المجتمع المدني في موريتانيا؟ ويعمل على تجاوز السلبية المتبادلة ولعبة الاستخدام المزدوج السياسي و الإستخباراتي من طرف الدولة للمجتمع المدني كحلقة أضعف؟ 

 

أما بالنسبة لموقف الجهات المانحة أو شركاء التنمية أو الممولين من موضوع إصلاح المجتمع المدني، فإن الأمر يتطلب جهدا نوعيا خاصا من طرفهم من أجل إعادة تقييم صحة و صلاحية (pertinence) التزامهم واستراتيجياتهم في التدخل، و طرق التحالف والتعاون المتبعة مع مختلف شرائح المجتمع المدني. 

 

إن عملية النقد والتقييم الذاتي من منظور الآخر هذه ينبغي أن تتم بصورة تشاركية و أن تستهدف تحقيق جملة من الأمور الضرورية : (ا) تجاوز المقاربات والمناهج الاختزالية التقليدية لمقولة "المساعدة الإنمائية" (l’aide au développement)، (ب) تسهيل ظهور و مواكبة و توطيد مجتمع مدني منظم و منفتح يتمتع بالمصداقية و قادر على الاضطلاع بكامل الأدوار الجديدة المنوطة به في عملية التحول الديمقراطي و تحقيق التنمية المستدامة، (ج) المساعدة في بناء نماذج لشراكة خلاقه، مبتكرة وفاعلة بين الدولة والمجتمع المدني مع احترام الأدوار والخصوصيات و المصالح المشروعة لكل من الأطراف المعنية. 

 

اتفاق كوتونو للشراكة و إعادة تأهيل المجتمع المدني في موريتانيا

في الحقيقة، تأخرت الحكومة الموريتانية عشرين سنة في إصلاح المجتمع المدني في البلاد. لقد كان اتفاق كوتونو للشراكة، الذي صادقت عليه الحكومة الموريتانية بموجب القانون رقم 2001-02 بتاريخ 25 يناير/كانون الثاني 2001 وبموجب المرسوم رقم 037-2001 بتاريخ 03 فبراير/ شباط 2001، يتنزل في سياق دولي، إقليمي ومحلي متميز، يهدف توطيد الديمقراطية وسيادة القانون ومساعدة المجتمع المدني ليصبح شريكا حقيقيا في الحياة الوطنية والتنمية الاجتماعية الاقتصادية والسياسية للبلاد. 

 

وهكذا، قامت الحكومة الموريتانية بعد المصادقة على اتفاقية كوتونو للشراكة  بعدة سنوات، باقتراح مشروع قانون جديد للجمعيات وذلك في سنة 2007 ، حيث كانت هناك مدونة متكاملة منبثقة عن نص وروح اتفاق كوتونو للشراكة، حول تأهيل وتكوين الجمعيات وإشراكها في تسيير الشؤون العامة للدولة، بل والتنازل لها عن بعض الصلاحيات التنموية. 

وعلى هذا الأساس أقيمت مشاورات موسعة مع مختلف الفاعلين الجمعويين، أفضت إلى تنظيم انتخابات، أفرزت إنشاء هيئة موحدة جامعة للقطاع الجمعوي، عرفت آنذاك باسم "منتدى الفاعلين غير الحكوميين" الذي ضم ثلاث  مكونات رئيسية  هي  الجمعيات والنقابات وأرباب العمل، وقيادة هذا المنتدى دورية. وفى مكونة المجتمع المدني هناك ما يربو على إحدى عشر مجموعة حسب التخصص في من الأنشطة التنموية .

 

ولكن فور اكتمال تشكيل قيادات ذلك المنتدى، حدث الانقلاب العسكري في سنة 2008،  فتم تمييع النواة الأولى لذلك التكتل الجمعوي الواعد، وتم غمره باشخاص من عامة الناس، لا يتمتعون في الغالب بدراية ولا بتجربة مهنية في مجال المجتمع المدني. بعد ذلك، ساءت الأمور وساد منطق الغوغاء، فانسحبت  بدون ضجيج، أغلبية الجمعيات المهنية وأصحاب الاختصاص والتجربة المهنية، بعد أن لاح لهم في وقت ما، الأمل في إقامة مجتمع مدني منظم، وفعال ومسؤول، يفكر ويعمل مثل نظرائه في الدول المجاورة وفي المنطقة والعالم.

 

 وقد فتح إصلاح المجتمع المدني آنذاك خيارت واعدة لدعم المجتمع المدني أخذت عدة أشكال، تتضمن إنشاء برامج نوعية لتقوية المجتمع المدني تتعلق غالباً بموضوعات الديمقراطية و الحكم الرشيد و برامج تعزيز القدرات المؤسساتية و التنظيمية و الوظيفية لمنظمات المجتمع المدني، و كذا إطلاق شراكة بين منظمات المجتمع المدني و الحكومة و مؤسسات الأعمال بالإضافة إلى دعم الاستدامة المالية للمجتمع المدني عبر دعم مهنية منظماته المحلية. وكانت تلك المحاولات لتفعيل المجتمع المدني الموريتاني واعدة وتعد بفتح طرقٍ جديدة لإعادة التوازن ولإشراك مختلف الأصوات المهمشة من خلال تذليل التناقضات في العلاقة ما بين الدولة والمجتمع المدني وتشجيع أشكال تعاونية أكثر منها عدائية بين الطرفين تعزز خدمة المصلحة العامة. 

 

تجد النخب الموريتانية نفسها في أمس الحاجة للتفكير بصوت عالٍ حول إشكالية المجتمع المدني في بلادنا، كما يتوجب أن يتجه النقاش نحو إضاءة مواضيع جوهرية مثل المجتمع المدني و قضايا الفقر وعدم المساواة في الصحة و التعليم و الشغل و تخلف الريف و تهيئة المجال الحضري و الأمن و السلم الاجتماعي، إلخ.... نحن بحاجة لتوسيع المناقشة ليس فقط ضمن محور المجتمع المدني مقابل الدولة فحسب، بل لنستكشف نقدياً و عن قرب طبيعة الروابط بين المجتمع المدني وقضايا النمو الرأسمالي اللامتكافئ في بلادنا و دور المجتمع المدني في تخفيض الفقر بشكل يتجاوز سطحية و غوغائية الملتقيات و الشعارات و اللافتات و صور التلفزيون. 

 

و لا شك أن بلوغ مثل تلك الأهداف يتطلب إعادة النظر في دور الدولة في مجال التنمية وإعادة صياغة العلاقة فيما بين الدولة والمجتمع المدني في موريتانيا. و هنا بإمكان المجتمع المدني أن يوفر منهاجاً جديداً للتفكير في دولة التنمية. 

 

لا شك بأن تضافر الظروف الملائمة و الآليات المناسبة لإصلاح المجتمع المدني ينبغي أن يمر حتما بحصول نوع من التقارب و التفاهم العقلاني بين الأسر الثلاث التي تشكل الأطراف المعنية بملف الإصلاح وهي الحكومة والمجتمع المدني والشركاء في التنمية. و هي ظروف ما زالت ـ للأسف ـ تتسم بالضبابية و التوجس و التردد على الرغم من الجهود المبذولة حتى الآن. 

 

أما حاليا، فإن الطريقة التي يجري بها تقديم التصريح كآلية للاعتماد أو الترخيص في إطار مشروع القانون الجديد للجمعيات، كما لو كان حلا سحريا لمشكلات المجتمع المدني كلها، ففيه الكثير منالتبسيط، والمبالغة والإختزال. حيث يمكن اعتبار التصريح ربما يشكل حلا لجمعيات قادمة أو في طريقها إلى التشكل الشرعي في المستقبل، لكن إلى أي مدى يمكن أن يساعد التصريح في حل مشكلة آلاف الجمعيات والمنظمات والشبكات الموجودة فعلا على عموم التراب الوطني، والتي تحتاج إعادة تأهيلها وتفعيلها الكثير والكثير.. وهنا لا بد من التنبيه إلى أن آلية التصريح التي كثيرا ما يجري الحديث عن مزاياها، لم تكن تمثل سوى نقطة واحدة في "كشكول إصلاح المجتمع المدني" الشامل، الذي كان معروضا من طرف الحكومة للتشاور مع هيئات وفعاليات المجتمع المدني في سنة 2007.  

 

وإذن، فالمطلوب ليس مشروع قانون دون سقف الآمال والتطلعات التي كانت تراود المجتمع المدني في سنة 2007، بل المطلوب هو تفعيل وتحيين "وثيقة إصلاح المجتمع المدني الشامل لسنة 2007، لكي تتم مناقشتها على ضوء المستجدات 2007-2020، ويتم إقرارها كمدونة متكاملة لإصلاح المجتمع المدني الموريتاني. وضمن هذا الإطار، سيجد الترخيص بواسطة آلية التصريح مكانه الطبيعي المفيد، وإلا فلن يكون له معنى سوى التضحية بمستقبل المجتمع المدني كله في سبيل البحث عن حل لمشكلة سياسية قد تنحصر أساسا في مصير جمعية واحدة  غير مرخصة حتى الآن.

 

خاتمة: نحو تمكين المجتمع المدني الموريتاني

لا بد من أجل إصلاح و تمكين و استدامة المجتمع المدني الموريتاني من تعزيز استقلاليته كشرط أساسي لبناء شراكة جديدة مع الدولة ومع السوق ومع الشركاء التنمويين وهيئات التمويل الخارجية. 

ويتطلب الأمر معالجة جذرية لخمس إشكاليات رئيسية هي : (ا) تحديد واضح لهوية المجتمع المدني في مقابل الآخر، من خلال إصلاح حقيقي يراجع الإطار القانوني والمؤسسي؛ (ب) إعادة انتشار المجتمع المدني في مجاله الحيوي ضمن لامركزية حقيقية؛ (ج) التحرر من النزعة الأبوية للإدارة العمومية المهيمنة تقليديا على المجال المدني في البلاد؛ (د) توفير الحد الأدنى من الاستقلال المالي عبر آليات شفافة و متوازنة؛ (هـ) اعتماد ميثاق شرف مدني واحترامه كمدونة أخلاقية لضبط السلوك المدني يجب التقيد بها من طرف جميع الفاعلين. 

 

كما يجب التنويه إلى أن أي خطوة جدية في هذا الاتجاه لا بد أن تراعي الاعتبارات التالية: (ا) إعادة رسم و تحديد الأدوار بين الدولة والمجتمع المدني عبر إطار قانوني و مؤسسي واضح و منسجم؛ (ب) بناء الثقة على أسس واضحة تقوم على مبادئ العقلانية والقانون؛ (ج) منح المجتمع المدني مساحة من الحرية والاستقلالية الحقيقية كمجال حيوي واضح المعالم للحركة؛ (د) وضع آليات مؤسسية متماسكة للحوار والتعاون على مستويات مختلفة بين الدولة والمجتمع المدني؛ (هـ) التسليم بمبدأ دور المواطن في المتابعة والمساءلة (principe de suivi citoyen) كحق ثابت من حقوق المواطنة وتنظيم و تقنين الصيغ الإجرائية لممارسة هذا الحق تجاه النشاط العمومي للدولة. 

 

وفي هذا الصدد، لا يزال من الضروري "إعادة هندسة" العلاقات و الروابط و الأدوار والمسؤوليات بين الدولة والمجتمع المدني والسوق، على المستويات الهيكلية و التنظيمية و الوظيفية، بغية ضمان التماسك و الانسجام و الفاعلية الضرورية لتحقيق الديمقراطية و التنمية المستدامة في بلادنا.

 

و سيكون من الجوهري ـ أولا و قبل كل شيء ـ أن يظل الفضاء الثقافي و الاجتماعي للمجتمع المدني مستقلا، حرا و مسؤولا، لكي يستطيع عامة الناس و خاصتهم في هذه البلاد أن يناقشوا بانفتاح وبروح نقدية، قضايا الصالح العام وأن  يفكروا ويجربوا بدائل ممكنة لتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية دون خوف أو طمع. 

 

انواكشوط، 28 سبتمبر 2020

محمد السالك ولد ابراهيم

باحث، خبير استشاري

[email protected]

ثلاثاء, 29/09/2020 - 12:11