مذكرات العقيد كادير: معركة تحرير لكويرة 1975

كان الهجوم علي “لكَويره” نهارا عند الظهيرة وفي جو احتفالي، فقد خرج سكان انواذيبو عن بكرة أبيهم لمرافقة القوات بالزغاريد. وعند الغروب كان أول اتصال لقواتنا مع العدو وانتهي هذا الاشتباك بحصيلة شهيدين وبعض الجرحى من جانبنا.

كانت نيران العدو تمنع قواتنا من التقدم، وعند الصباح كانت مكشوفة تماما مما دفعها إلي الفرار بانهيار واضطراب مخجلين. وفي الوقت نفسه كانت وحدات “إنال” و”بُلنوار” يلفها الغموض الكامل، فلم يكن لها أي إحساس بالانتماء إلي التجمع رقم 1 فقد كانت التموينات تنقصها من أفراد ومعدات وحتى التعليمات لم تكن تصل إليها، فكانت قيادة الأركان تتولي تموينها مباشرة في بعض الأحيان، وقد أصبحت هذه الوضعية فعلية ونهائية عندما قمت صحبة قائد الأركان بزيارة الي انواذيبو من اجل إصلاح بعض الأخطاء ومتابعة العمليات عن قرب، فسرعان ما وجدنا أنفسنا في جو من الرعب والخوف الذي خيم علي وحداتنا المقاتلة، هذه القوات التي أمضت ستة أيام بين كر وفر، وقد خيل إليها أن “لكَويره” لا يمكن الاستيلاء عليها أبدا.

كان قائد التجمع رقم 1 الرائد احمدو ولد عبد الله يبدو وكأنه يعتبر المعركة مسألة شخصية، ولم يكن يعطي معلومات لأحد ولا يسمح لضباطه بأية مبادرة مما جعلهم، او علي الأقل غالبيتهم، يفقدون الثقة في أنفسهم وفي قائدهم، وأصبح البلد كله في حيرة شديدة، وحتى الحكومة أيضا كانت في حيرة مما يجري.

في 16 دجمبر 1975 جاءتني الأوامر بالتوجه الي بُلنوار من اجل إرسال قافلة سيارات بحمولة من الذخيرة الي انواذيبو، وكانت القافلة بقيادة ادينغ راوان، وكان علي أن أشحن طائرتي من الذخيرة عيار 81 والتوجه بها من بُلنوار، وفي نفس الوقت أستطلع الطريق الذي ستسلكه القافلة.

بعد القيام بالإجراءات الضرورية أقلعت بالطائرة باتجاه انواذيبو وعندما اقتربت منها مسافة 10 كيلومترات لاحظت وجود ثلاث بواخر في عرض البحر متوجهة في شكل مثلث ناحية لكَويره، عندها قمت بالهبوط وأجريت اتصالا سريعا لنقل الخبر. ذهبت بعد ساعة من ذلك الي إنال لاصطحاب مفرزة من الكتيبة السادسة، وكل ذلك تم في عصر نفس اليوم وتكلل بوصول قافلة “انينغ

في الخامسة قام العدو بعملية إنزال قبالة قواتنا مما أدي الي ضغط عليها دفعها الي إخلاء مواقعها وترك الطريق مفتوحا لحركة سيارات العدو وتسهيل تموينه وهروبه عند الحاجة. كل هذا أدي الي تبخر فرحتي، وإفساح المجال للغضب وهو علي كل حال غضب ليس لي إلا أن اكبته.

وبدأت في طرح أسئلة كثيرة وجدية حول خطورة العمليات الجارية، وكيف يمكن أن لا يتم استغلال هذه المعلومة الإستخبارية التي زودتهم بها، وكان من الضروري التصرف والقيام بمبادرات.

كان الليل حزينا وغارقا في ضباب غير عادي زاد من حدته انقطاع للتيار الكهربائي لم نجد له تفسيرا أبدا.

في الغد 17 دجمبر 1975 قمت أنا وقائد الأركان بإنجاز سريع لخطة للاستيلاء علي لكَويره لكن كان علينا القيام بالمزيد من الدراسة لها، وترتيب تنفيذها مع الحفاظ علي الحد الأعلى من السرية، ولذلك قمت ب”نزهة” جوية لمراقبة مواقع العدو في لكَويره وحدودها القريبة، واستطعت أن أرسم مخططا دقيقا تظهر فيه مواقع العدو والسكك الحديدية وامكانيات فرار العدو، كما وضعت خطة أخري لقصف لكَويره بالطائرة، طبعا طائرة نقل.. كانت المهمة حساسة وشائكة. قمت رفقة النقيب ابراهيم والنقيب أتييه بشحن 400 كغ من المتفجرات من نوع tnt من اجل تجربة العملية، ثم أقلعت مع ترك الباب الخلفي مفتوحا وهو إجراء غير اعتيادي، وكان علي اتخاذ الكثير من التدابير الخاصة مثل الحفاظ علي سرعة معينة وتلافي انحدار شديد في التحليق حتى لا يختل التوازن، واتخاذ إجراءات احترازية حتى لا أعرض الضابطين اللذين يرافقاني للخطر، كما علي أيضا آن أتصرف ب”رشاقة” في كافة العمليات والبقاء علي اتصال مع الأرض. وفي النهاية تمت العملية عند الغروب علي بعد مائة كيلومتر من انواذيبو وفي ظروف جيدة، لكن النتائج المتحصلة لم تكن مقنعة، وبالرغم من ذلك بقينا في نهاية العملية علي نية معاودتها. ورجعت الي العمل من جديد مع قائد الأركان علي خطة العمل التي يتوجب علينا القيام بها وواصلنا العمل طيلة الليلة.

في الثامن والتاسع عشر دجمبر 1975 قمت باستطلاعات جديدة رفقة ضباط من المدفعية من اجل إكمال رسم الخطة، وفي مساء 19 دجمبر كان كل شيء جاهزا وحُررت الأوامر وتم ضبط تخطيط العمليات.

كانت الخطة بسيطة، ففي العشرين دجمبر علي الساعة السادسة صباحا كان سيبدأ التنفيذ بقصف مدفعي للأهداف المنتقاة والمحددة ويستمر لمدة ساعة كاملة، بعدها يتوجه القصف الي الأهداف الثانوية خاصة نقاط هروب العدو، ثم بعد ذلك تقوم فرق الهجوم (3 سرايا) مدعومة بالآليات بحركة سريعة للدخول الي لكَويره والقيام بحرب شوارع، ومن ثم عمليات تمشيط واحتلال القرية مع الاحتفاظ بإمكانية مواصلة التحرك نحو الشمال.

في غضون هذه المرحلة تقوم السرايا رقم 3 و7 بالتدخل في أثر الهجوم من اجل تغطيتها والقيام بالأعمال التكميلية الأخرى، أما السرية رقم 5 فستذهب للتمركز علي الجبهة الشرقية من المضيق للحيلولة دون فرار العدو، وتقوم السرية رقم 9 بالتمركز الي الشمال من هذه السرية وتغطيتها مع الحيلولة دون فرار العدو كذلك. تلك كانت هي الخطة، إلا أن التجمع رقم 1 اعترض علي استعمال هذه السرية الأخيرة مفضلا إبقاءها في بُلنوار. تم استدعاء قائد التجمع رقم 1 وقادة الوحدات للاضطلاع بالمهام المسندة إليهم.

علي تمام الساعة السادسة وأربعين دقيقة بدأ التنفيذ وكانت المفاجأة شديدة عندما قام قائد التجمع رقم 1 بدفع وحداته حتى بوابة لكَويره ونحن مازلنا في مرحلة القصف المدفعي، وكادت أن تحصل الكارثة عندما أصبحت تلك الوحدات مجبرة علي ترك آلياتها والبقاء أرضا، وكادت الخطة أن تبوء بالفشل.

كما أن قائد الأركان كان منزعجا جدا مما حدث لكني لم أكن أقاسمه الرأي بل أري أن هناك فرصة لإصلاح الأمور لكن لا بد من السرعة. فورا اتصلت بقائد التجمع في الميدان وطلبت منه الإذن بتدخل السرية السابعة لأن القوات الهجومية أصبحت مُتسَمرَة بالأرض ولا تستطيع التقدم، لكن القائد رفض اقتراحي، وعندما سألته عن ما ينوي القيام به، قال بأنه ينوي تجميع الآليات والوحدات من أجل مواصلة التقدم نحو لكَويره، وعندها تدخلت فورا لمساعدته علي ذلك لكن الوقت كان يمضي سريعا ولم يتحسن الوضع. والتحقت في هذه الأثناء بقائد الأركان وقدمت له بعض المقترحات قبلها جميعا، فكان لا بد من تدخل كتيبة المدفع الثقيل (120) لتحييد المواقع المعادية التي تمنع تقدم عناصرنا، وكانت هذه الخطة فعالة.

علي الساعة الرابعة و45 دقيقة انضم إلينا قائد التجمع الميداني وكان جريحا، فاقترح عليه قائد الأركان الذهاب الي المستوصف للعلاج، وكانت تلك فرصة سانحة لنا، من المؤسف قول ذلك لكنها الحقيقة. وعندها طلبت من قائد الأركان السماح لي بأن أقوم بتنفيذ الحل الذي كان يراودني منذ بداية العمليات ووافق علي الفور، وعندما أعطاني الإذن التحقت بالسرية السابعة التي، فيما يبدو كانت تتكهن بما سأقوم به، كان أول ما قمت به هو التحرك نحو لكَويره وإعطاء التعليمات الصارمة بمنع التوقف قبل الدخول وسط القرية، وهكذا تم إنجاز المهمة في نصف ساعة. كان الجميع مصمما وجرت معركة شوارع دون خسائر من جانبنا، وتم أسر أو تدمير العدو والحفاظ علي سلامة السكان المدنيين.

علي الساعة الخامسة و35 دقيقة كان قد تم الاستيلاء علي لكَويره والتحق بنا قائد التجمع الميداني وهو يضع ضمادة علي وجهه، وانسحبت أنا تاركا بعض التعليمات للعناصر التي شاركت معي في العملية الحاسمة.

تلك هي قصة الأيام الأولي للحرب حيث وضعت النار مَيسمَها الأول علي قواتنا المسلحة في معركة لكَويره ومعركة إنال، وحيث كان الجميع قواتا ومسؤولين كبار شهودا علي محن غنية بالمعاني والدروس.

بعد ذلك تمت تنحية النقيب أحمدو ولد عبد الله من قيادة التجمع الأول وذلك بقرار غامض تم اتخاذه علي مستوي عال، وعين مكانه المقدم فياه ولد المعيوف.

من مذكرات المرحوم كادير

أربعاء, 13/11/2024 - 09:03