سيدى تيام صمبا، معلمي العزيز، هل تذكر وأنا أقلب صفحات السنين المعتمة لأصل إليك، أن آخر لقاء جمعنا كان منذ تسع وأربعين سنة..نصف قرن..عمر جيل..قبل حرب الصحراء، وقبل سقوط نظام ولد داداه، وقبل مسلسل الانقلابات العسكرية..وقبل غزوة الأحزاب، وتغيير أسماء الولايات..
لكن لا بأس، لا يستطيع جدار الأيام السميك أن يحجب تلك اللحظات الجميلة التي عشتها طفلا في حضنك معلمي العظيم..
سيدي: أنا في حضرتك الآن عبر حروفي، وخواطري، مازلت ذلك الطفل النحيل الذي كنته، يجلس على الطاولة الأمامية ليكون قريبا منك..
هل تعلم أن ذاكرة ذلك الطفل ما زالت تذكر كل التفاصيل، دراعتك الرمادية، وقميصك الأزرق، ولون حزام ساعتك الفستقي..ما زلت أذكر سوطك الأسود..وبحة صوتك الهادئة، ونظرك إلى أسفل حين تخرج إلى دار إقامتك مع (تنجا) في مصلحة البيطرة..ما زالت تلك الدار بخير، لم تمتد إليها بعد حملة التنازل عن الدور الحكومية القديمة لبعض المتنفذين، وما زالت ترفض أن يلتصق بها الطلاء المزيف الذي يحاولون به إخضاع واجهات الدور المقابلة لمواكب الرؤساء لزينة مؤقتة في مواسم الزيارات..
سيدي، هل تذكر أني كنت رئيس الفصل، والمسؤول عن مخزن الأثاث والأدوات المدرسية رغم حداثة سني، وهل تذكر أنك شجعتني كثيرا لأني كنت أمتنع من إعطاء المعلمين الكتب، والدفاتر إلا بوثائق موقعة من المدير، لأنهم وافقوا في جلسة تكليفي على ذلك..وهل تذكر أني تجرأت عليك مرات حين يعبث سوطك بالمشاغبين، وبالذين لم يقوموا بحل التمارين المنزلية، فأقول لك: سيدي يكفي، إنهم لن يعودوا إلى أخطائهم، وكنت لا ترد شفاعتي..
كان السيد تيام صمبا قدوة في إخلاصه، وقدوة في سلوكه. وقدوة في هندامه..
كنا نخافه في أمان، ونحبه في حذر..لم تك سوطه آلمَ من عتابه، ولم يكن رضاه عنا واقيا من عقابه..
رأينا فيه الأب الذي لا يقبل أن ينحرف أبناؤه..يتألم حين يقسو عليهم، لكنه يسعد كثيرا حين يدرك أنها قسوة طاردة للشر، جالبة للخير...
درسني السيد تيام صمبا في القسم الأخير من الإبتدائية، المتوسط الثاني(CM2)، في المدرسة رقم1 بألاك(القسم معار للمدرسة2) العام الدراسي75/74، خلفا لمعلمي في المتوسط الأولCM1، السيد سيلا إبراهيما..
وكان النجاح في مسابقة دخول الإعدادية تحديا، قل -إن لم يستحل- من يتجاوزه في مرته الأولى..
بذل جهودا جبارة ليكسب رهان نجاح تلاميذه من المحاولة الأولى، وكانت كل المواد في تلك الفترة تدرس باللغة الفرنسية، ولا يدرس بالعربية إلا العربية..
تشمل تلك المواد اللغة الفرنسية النحو: نحو المفردات، ونحو الجمل، والتصريف، والإملاء، والتحرير..مع العلوم الطبيعية، والتاريخ ودراسة الوسط، والحساب..
اضطر معلمنا إلى شيء من القسوة لقهر التلاميذ على المراجعة، واستغلال الفراغ للقيام بالواجبات المنزلية الطويلة، والمعقدة..
وكان أحيانا يطوف علينا ليلا إذا لم نكمل حل التمارين المسائية في الفصل..
السيد تيام صمبا هادئ، مهيب، لكنك تشعر بالأمان كلما اقتربت منه..
كسب الرهان، فنجحنا متفوقين في سنة امتحاننا الأولى، وكان ذلك فتحا عظيما في تلك السنة لأنه حدث نادر...
معلمي العزيز، رغم السنين المتراكمة، وجبال الليالي المتراصة، فإن ذاكرة ذلك الطفل ما زالت تحتفظ لك بكثير من الحب، والتقدير، والشوق..وتعترف لك بديْن أبوة معرفية لا تُنسى، ولا تَبلى..