السوالف الصامتة

تشكل السوالف عنصراً مهماً، له أكثر من دلالة، في حياة المجتمعات الخليجية، فمن خلالها تتحدد العلاقات بين أطراف "الفريج " التي تتناثر في حيز جغرافي يفرض على ساكنيه نوعاً من الصعلكة للاستمرار في الحياة،  وعبر السوالف تُنقل تجارب الأجيال، وفي جلساتها يتعلم الصغار معاني الشجاعة والتضحية، وفيها يستطيعون التمييز بين عدوهم التاريخي وحلفائهم عبر الزمن، وكذلك الأعداء المفترضون الذين قد يشكون خطراً على "الفريج" في عالَم كل شيء فيه قابل للتغيير، و السوالف في أحد جوانبها هي سرد لمعاناة  مجتمع قرر تحدي كل ظروفه القاسية بواسطة مُخيّلته المعطاة التي تُعيد إنتاج أحداث الصراع من أجل البقاء لتحافظ على انتصاراتها، من خلال ذاكرتها الجماعية، ففي أحاديث السمر تُروى قصص رحلات الانتجاع الطويلة،  للبحث عن الكلأ  على اليابسة، أوربما الغوص في أعماق البحار لكشف اللآلئ، رحلات  لاتخلوا من المعاناة بسبب الظروف المناخية الصعبة التي تفرض نوعية المسير على أديم شبه الجزيرة العربية، لكن إعادة إنتاج تلك المعاناة في مَلحمة بُطولية، هو الذي يُشجع هذا المجتمع على الاستمرار والتشبث   بالحياة بكل تفاصيلها.. ولعل هذا هو السبب في كون  المجالس  تُشكل  اليوم جزءاً مهماً من بيوت المجتمعات الخليجية. 

إن الحفاظ على المجالس في النمط المعماري الحالي في دول الخليج يوضح بجلاء أهمية السوالف في اللاوعي  عند هذه المجتمعات، تماماً كما يحافظ الشناقطة على الحوانيت في منازلهم، في علاقة تعكس تأثير  الأنشلطة التي تمارسها المجتمعات، سواءًا كانت اقتصادية أوثقافية، على الأنماط المعمارية، بمعنى أن هناك عناصرَ مهمة تتقاطع فيها المجتمعات الخليجية  مع المجتمع الشنقيطي، حيث شكلت ثُنائية المعاناة  والفراغ في أوقات السمر حاضنةَ إبداع علمية وفنية منقطعة النظير، ترعاها منظومة سردية، تُحافظ على قيم مثالية معادية بطبعها للظروف القاسية التي كان من المفروض أن  تنعكس -بالضرورة- على ساكنة مجال صحراوي في غاية الصعوبة، هذه المفارقة التي نلمسها بقوة في واقع القوم، لم يستطع الإنتروبولوجيون في نظري تفكيك أسرارها الغريبة، لكن المثير للاستغراب أن هذه السوالف ورغم محافظة المجتمعات الخليجية عليها، على الأقل في شكلها الظاهري،  فإنها أصبحت  اليوم تتوارى خلف صمت مُحير، حيث تجد مجلساً يضم جميع الأعمار الذين استسلموا لضجيج الصمت الذي  لايعكر صفوه سوى رنات رسائل  WhatsApp   أو Facebook   أوربما  Twitre   وبعض الضحكات العشوائية التي تُثير انتباه الحضور الذين  يقابلونها بنظرات  استغراب لا تريد لهذا الصمت أن ينتهي، وكأن  لغة الصمت أصبحت سمةً للسوالف في زمن الثورة الرقمية.

المخيف في الأمر أن هذا الصمت ٱخذ في الانتشار بشكل يُهدد مرتكزات سردية كانت قائمة على صوت الراوي ووقاره وشخصيات قصصه الملهمة، التي يتحدث فيها الصدى بقوة ليُعيد تكرار لحظات مؤثرة تشد الحاضرين.وأجمل ما في الأمر أن هذه  القصة نتاج لواقع يومي في بحثه الطويل عن تذليل مصاعب الحياة.

المؤسف أن صمت السوالف أخرجها من قالبها المحلي، تماماً كما تسبب في محو ذاكرة تركز على اللحمة المجتمعة، حيث أصبح لكل شخص في زمن الرقمة سوالفه الخاصة التي لاعلاقة لها بحيزه الجغرافي، وكهذا ضربت مع الهواتف الذكية هُويةالمجتمعات الخليج في الصميم، لإخفائها كل معالِم الذاكرة في مجتمع يَستمد كل خصاله الحميدة من سوالفه التي تُعد إحدى أبرز مكون لشخصية الإنسان غير الهجين في شبه الجزيرة العربية. 

 

د.أمم ولد عبد الله

ثلاثاء, 08/10/2024 - 12:59