مادة الملح مادة ضرورية لحياة البشر، فهي مصلحة لطعامه، حتى صارت مضرب المثل في الإصلاح، فقيل: "النحو في الكلام كالملح في الطعام". وقد شكلت هذه المادة جزءا لا يتجزأ من حياة أهل المدن التاريخية في بلاد شنقيط، وحياة مدينة أهل شنقيط بخاصة. وكانت هذه المادة عملة صعبة تعامل بها أهل المدينة من أجل شراء مستلزمات حياتهم المتوفرة في الأسواق الخارجة عن محيط المنطقة، فقد حملت هذه المادة على ظهور العيس ضمن ما يسمى في عرفهم "بالرفكة" وبيعت في مدن تيشيت وانيور في مالي، وكيهيدي والمدن الأخرى، ويشترون بها مادة "اجيف" لصناعة ما يسمى عندهم"بالبنية" والبنية هذه قد تبني داخل الخيمة لمزيد من التدفئة لها، وقد تبنى في أماكن أخرى في أوقات الحر. ومن مشترياتهم ما يسمى "بكرتة" أي: الفول السوداني، وهو ضروري لحياة أهل شنقيط. ومن ذلك أيضا شراء "الزرع" وهو المادة الأساسية في صناعة طعامهم المعروف "بكسكس" وهو أنواع: "الرحية"، "بشنة"، "تقليت"، "حميرة" وغيرها، ولا شك أن أثمانها تتفاضل بحكم تفاضلها هي فيما بينها، ومن ذلك أيضا أدوات السقاء مثل: "الكدحان"، وغير ذلك حتى لا نسرد كل ما من شأنه أن يكون ثمنا لبيع الملح.
ومن فوائد الملح في حياة أهل شنقيط أنني وقفت على وثيقة وقد ذكر فيها أن أهل شنقيط دفعوا الملح مع الشم والخنط، والتمر، كإتاوة من أجل المداراة، وهذا يدل دلالة واضحة على أهميته كعملة يأخذها الغير ليشتري بها ما يلزمه، ويدفع الضرر بها عن نفسه.
ولأهمية هذه المادة تناولها علماء المنطقة ونظموا في شأنها منظومات توضح حكمها الفقهي، ومن هؤلاء العلامة سيدي محمد بن حبت، فقد نظم أحكام الملح في منظومة بدأها بقوله: الحمد لله وصلى اللـــــــــــــــه *على نبيه ومن قــــــــــــــــــــــفاه
وهي طويلة ختمها بقوله:
بالحمد والصلاة والسلام * على النبي وآله الأعـــــــــــــــــــلام
وقد نالت إعجاب بعض علماء المنطقة، فوافقوا على مضمونها، وأقروا بما جاء فيه من آراء.
ومنهم: حمد بن اطوير الجنة، وأحمد بن حمى الله، ومحمد بن محمد الصغير بن انبوج. وقد وقفت على نظم آخر مجهول المؤلف، قال في مقدمته:
أقول بعد الحمد والصـــــــــــــــلاة * على النبي وصحبه الأثبات
الملح قد يلحق بالطــــــــــــــــــــــعام * لجريه عليه في أحــــــــــــــــــــــــــــكام
عنيت بالطعام ما جاء الخبر * به وخلف في سواه مـــــــــــــستقر
والنظم واف، ختمه بقوله:
وغيرها سائل حسنا دائمه * من مالك الأمر وحسن الخاتمه
بجاه أفضل الأنام أحمدا * والآل والصحب ومن به اهتدى
فالملح كما هو واضح من خلال مضمون المنظومتين أصبح تراثا ثقافيا لأهل شنقيط، اعتنوا به في توريده من مصدره الرئيس في كدية الجل، وحفظوه في المدينة حيث يطمرونه في الأرض حتى يصل وقت الذهاب به في "الرفكة" إلى المناطق التي تحدثنا عنها سابقا.
ينضاف إلى ما سبق كونه عامل توحيد للمدن القديمة، حيث ينطلق به أهل القوافل من مدينة شنقيط إلى المدن الأخرى وخاصة مدينتي تيشيت وولاتة، حيث العلاقة المتينة والمتجذرية في عمق التاريخ، وقد وقفت على عقد مضمونه توثيق عدائل من الملح في مدينة شنقيط لأحد أعلام تيشيت البارزين، ومنطوقه: "الحمد لله على إفضاله وصلى الله على سيدنا محمد وآله، هذا وليعلم ناظره أني أيها الكاتب المسمى بعد، أشهد وكفى بالله شهيدا على تفويض .. الوكالة .. على ثمان عدائل بشنجيط في ذمة .. حفظه الله تعالى ورحمه الله، وأفاض عليه فضله الكثير، ثم بعد هذا الإشهاد المذكور فوق، أشهدني .. على إبراء.. منها بما دفع له فيها ورضيه، وقضى به عن سيد المذكور دينا أشهدنا على تعمير ذمته به، وكتبه كما أشهد لست خلون من شعبان الثالث والثمانين بعد المئتين والألف..".
فهذه الوثيقة تعطيك صورة واضحة عن قيمة الملح في قضاء الدين المستحق على البعض، كما توثق حضور الشخصيات التيشيتية في مدينة شنقيط، واعتبارها مخزنا لأملاكهم، وتبادلاتهم التجارية.
أما أهل ولاتة فقد وقفت عل جواب مطول كتبه العلامة محمد يحيى بن محمد المختار الولاتي، عن السؤال التالي: " سئل كاتبه عفا الله تعالى عنه عن الحكم الشرعي في جَمَّال اكترى ملحا من شنجيط إلى ولاتة بالنصف على أنهما لا يقتسمان الملح إلا بولاتة، واشترط رب الملح على الجمال أنه ضامن لنصيبه من الملح من كل ما يصيبه من كسر وسرقة وتلف في الفلاة بسبب عجز الدابة الحاملة له أو ضلالها أو موتها أو غصبها، فقبل ذلك كله الجمال، فسئلت هل يلزم الجمال ذلك الضمان إذا تلف بعض الملح، أي: بقي في فلاة، بسبب عجز الدابة أو موتها أو غصبها، أو لا يلزمه شيئ بذلك الشرط الذي شرط عليه وقبله؟ فأجبت والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب بأنه لاضمان عليه في شيئ من ذلك، لا بالأصالة ولا بالشرط.". ثم مضى يبسط رأيه ويقدم أدلته على حكمه بشيء من التفصيل والتوضيح كما هو منهجه في البحث، المعروف في مؤلفاته الكثيرة. فالولاتي له علاقة وطيدة بكل تفاصيل حياة أهل شنقيط، كما كان ابنه محمد المختار كذلك، حيث أم أهل المدينة في مسجدهم العتيق.
وقد أغنت تجارة الملح عددا كبيرا من أبناء مدينة شنقيط، وجعلتهم يكدسون مبالغطائلة من الأموال، استعملوها في شراء النخيل وقطعان الإبل، والأراضي الزراعية، وغيرها.