عند ما كتبت ونشرت يوم العاشر يونيو سنة 2003 مقالة "حتى لا نركع مرة أخرى" كانت المدافع قد صمتت توا إثر تدمير آخر دبابات التمرد.
يومها كان الوطن على شفا جرف هار! وكان على المنافقين أن يصمتوا هم أيضا. أما الأحرار والمتكلمون فكان عليهم الغوص في لجج المآسي والآلام البشرية بحثا عن حلول شافية، من شأنها أن تنقذ ما بقي من وطن نازف، وتفتح آفاقا تفضي إلى الأمن والاستقرار والتعايش والتنمية والبناء.
كان بإمكان الرئيس معاوية، لو تجاسر أو أعطي الخيار، أن يأخذ بتلك الخطة فيحل أزمة الوطن ويخرج من السلطة شامخ الرأس سالما معافى، ويكون يرفل الآن سعيدا عزيزا في وطنه.
ولكن شياطين الإنس ومردة البلاط وصناع الأصنام وعبدتها حالوا بين الرجل ونفسه فلم يستطع سمعا.. وتواصل التيه المدمر!
وجاءت حركة 3 أغسطس المباركة، فتبنت المحاور الكبرى في تلك المقالة أساسا لبرنامج إعادة التأسيس والبناء والنهضة الوطنية الذي رسمته ونفذته، فعبرت بنا إلى بر الأمان ورفعت قواعد صرح موريتانيا عزيزة متصالحة حرة مستقلة ناهضة!
... وها هو الوطن اليوم في خطر جديد.. ويخشى أن يركع مرة أخرى!
لقد هب المفسدون بغتة بجميع أصنافهم وألوانهم من جحور التِّقْيَة التي عششوا فيها في كنف الموالاة والمعارضة إبان العشرية، ورفعوا رؤوسهم تحت سياسة الانفتاح التي دعا إليها بحسن نية فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وأخذوا يشعلون نار الفتنة ويدقون عطر منشم بينه وبين حلفائه الطبيعيين وأغلبيته وشعبه لينفردوا به ويخلو لهم وجهه! وها هم يعملون ليل نهار كي يعيدوا الوطن إلى كنفهم، ويسيروا فيه سيرتهم الأولى فيجعلوه: بقرة حلوبا عجفاء، لك ولأخيك وللذئب الأجنبي!
استحوذوا على الحزب الحاكم، وعلى البرلمان، وعلى أغلب وزارات السيادة والاقتصاد ووضعوا أيديهم على كبريات المؤسسات حين أطاحوا، عن طريق إسقاط إفك الفساد الذي ينخرهم على غيرهم، بأغلب أساطين وبُناة النهضة الموريتانية الحديثة على علات بعضهم.. وحلوا محل بعض، والبقية تأتي إن لم نضع حدا للانهيار!
فما العمل إذن؟
إن على القوى الوطنية بجميع أطيافها وأنواعها وألوانها (وتوجد قوى وطنية شريفة ونزيهة وواعية في هذا البلد، في القمة وفي القاعدة، رغم كثرة المفسدين والمنافقين) وعلى عقلاء وحكماء وعلماء الأمة.. أن يقطعوا جميعا الصمت ويتكلموا قبل فوات الأوان، ويعملوا على تحقيق المحاور الخمسة التالية:
أولا: وأد فتنة المرجعية والإفك والإسقاط، وكشف وردع المفسدين والمنافقين، وفضح خططهم وأساليبهم المدمرة؛ والعمل على إعادة المياه إلى مجاريها الطبيعية بين الإخوة في الله والوطن، ورأب الصدع الوطني، وحلب "بزولة الرحمة" بين أبناء الوطن، وإعادة اللحمة والصفاء والود بين جميع الوطنيين والخيرين والصالحين والمصلحين. ولا يزال ذلك ممكنا إن صدقت النيات وحسُن الظن واستُوعِب مدى فداحة الخطر المحدق بالشعب والوطن في عالم مجنون لا يرحم الأغبياء.
ثانيا: رفض المساومة أو التنازل عن أي خيار من الخيارات الوطنية المرسومة سلفا، أو عن أي مكسب من المكاسب الوطنية، وفي مقدمتها: صيانة الوحدة الوطنية، والمبادئ والحريات والآليات التي شرعها وضمنها الدستور والقوانين، ومحاربة الآفات الكبرى: الفساد والنفاق والارتزاق والعنصرية والعبودية والقبلية والجهوية والمحسوبية والإرهاب والتطبيع مع العدو الإسرائيلي.
فالمستهدف في حملة المرجعية والإفك والإسقاط ليس رئيس الجمهورية السابق محمد ولد عبد العزيز، ولا رئيس الجمهورية الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني؛ بل السياسة الوطنية والمكاسب العظيمة التي تحققت على أيديهما في العشرية المجيدة، والفكرة الناصعة التي رسخت لدى الجميع في عهدهما عن موريتانيا الحديثة. ولا أدل على ذلك من أن حلفاء العهد الجدد بدؤوا يشهِّرون بفخامة الرئيس، ويفترون عليه، ويدعون للإطاحة به، عند ما لم يستلم بسهولة لنزواتهم الفاسدة!
ثالثا: جعل الجيش الوطني والدفاع الوطني، والحوزة الترابية، والأمن الداخلي، وسيادة القانون، وإقامة العدل بين الناس، خطوطا حمراء لا يمكن تعديها بأي حال من الأحوال!
رابعا: حماية وتطوير وترشيد الاقتصاد الوطني ببنوكه وشركاته ومختلف قطاعاته؛ وخاصة: الزراعة، والثروة الحيوانية، والصيد.. وغل أيدي المفسدين والمنافقين عن الهيمنة عليه والتحكم فيه.
خامسا: صيانة وحماية وترقية وتطوير المكاسب الثقافية والاجتماعية التي تحققت في مجالات التعليم، والصحة، والشباب والنساء والشؤون الاجتماعية، والرفع من مستوى حياة الشعب والخدمات المقدمة إليه.
فبذلك وحده نستطيع أن نحمي وطننا من النكوص، ودولتنا من الانهيار والركوع في قبضة المفسدين والمنافقين، ونصون مكاسبنا ونعمل على إضافة ما تمكن وتنبغي إضافته إلى الصرح الوطني.. ونجعل للعهد عند الموريتانيينمعنى وقيمة.
لقد أثبتت تجربة أقل من ثلاثة عشر شهرا - رغم قصرها- أن طريق النكوص المزمع سلوكه، غير سالك وغير آمن، ومرفوض من طرف الشعب وقواه الحية.. وأن طريق التقدم المعبد والمنشود لا يمكن سبر أغواره وتذليل عقبات السير فيه إلا من طرف رجاله؛ مهما نعب المرجفون! وإن أزمات الماء والكهرباء والدواء والغذاء والثقة في ظل الوباء هذه الأيام لبالغة الدلالة، إن احتاج النهار إلى دليل!