لا زالت الأمم على اختلاف ثقافاتها عبر العصور بتنوعها الديمغرافي وتباين ظروفها وتفاعلاتها تختلف في نظرتها لأمور شتى وتتفق رغم كل تلك الاختلافات على ضرورة مبدأ العدل والإنصاف والكرامة والمطالبة بالحقوق وهي قيم نبيلة تتفاوت الدول في تحقيقها بتفاوت تماسكها ووجودها ولا زالت طبيعة النظم السياسية السلطوية التي تحكم الشعوب توسع من نفوذها على حساب تحقيق الشعوب لتلك المبادئ والمتطلبات.
ولأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة اقتضت الضرورة لدى بعض المجتمعات للفصل بين السلطات بتقسيمها إلى سلطات ثلاث تنفيذية تشريعية قضائية إّذ تعتبر السلطة التشريعية صوت الشعوب بوصفها المنافح عن حقوقها والجهة المسؤولة عن الرقابة على عمل السلطة التنفيذية وتعددت تسمياتها حسب النظم المختلفة لمعظم البلدان فيطلق عليها البرلمان ومجلس النواب والجمعية الوطنية والمجلس التشريعي ومجلس الشعب إلى غيرها من المسميات المختلفة والتي يتبناها البلد حسب طبيعية الثقافة السياسية القائمة.
وقد ظهر البرلمان أول ما ظهر كفكرة مجسدة تمهد لمشاطرة الحكم في مملكة ليون في القرن الثاني عشر الميلادي حين كانت دولة مستقلة في شبه الجزيرة الأيبيرية وهي أول تجربة ممهدة لما يشبه النظام الديموقراطي في القارة الأوروبية لكن أول تسمية للبرلمان بهذا الاسم كانت في المملكة المتحدة سنة ألف ومائتان وستة وثلاثون وكان عبارة عن مستشارين مقربين من الملك فيما يمكن أن نسميه جماعة الحل والعقد في المملكة التي لا تغيب عنها الشمس.
وقد تطورت التجربة بعد الثورات الأوروبية التي غيرت من طبيعة التركيبةالسياسية في البلدان الغربية واتسع هامش الحريات الفردية وهو ما مكن الشعوب الأوروبية من صناعة أنظمة حكم ديمقراطية حديثة رغم تعدد طبيعة تلك الأنظمة وتعدد الصلاحيات التي يتمتع بها كل برلمان حسب طبيعة النظم القانونية والسياسية التي تربط العقد الاجتماعي في كل بلد.
وقد عرفت البلاد العربية البرلمان بعد الاحتلال الغربي لها والذي فرض أنماط حكمه على شعوب المنطقة وفي موريتانيا وبغض النظر عن البرلمانات بأسمائها المتعددة في السنوات 46 و52 و57 و59 إبان الاستعمار الفرنسي والتي كانت بمثابة مجالس استشارية لدي الحاكم العسكري فإن انتخاب الجمعية الوطنية بعد الاستقلال سنة 1965 كان بمثابة أول برلمان في ظل الدولة الموريتانية المعاصرة ورغم ما يشوبه من شوائب في ظل وجود الحزب الواحد المحتكر للترشيحات فقد كان أول تجربة ديمقراطية غير مكتملة الأركان بالنسبة لدولة الاستقلال.
ثم تشهد البلاد بعد ذلك تجربة ديمقراطية فعلية لأول برلمان في ظل التعددية الحزبية وبعد السماح بالتنافس على مقاعده لأكثر من حزب سياسيي رغم عدم نضج التجربة نتيجة تحكم السلطة التنفيذية في حيثيات المشهد البرلماني وهو ما يفقده جوهره ممثلا في القيام بالدور الأسمى المنوط به في الدفاع عن حقوق الشعب وتسليط الرقابة على العمل الحكومي.
حيث كانت برلمانات التسعينات وبداية الألفية ممثلة بشخصيات مجتمعية قبيلة لا تملك من أمرها شيئا فلا ثقافة ولا اهتمام بالمشاريع المقدمة وكانمجرد تجمع للمطالبة بمصالح جهوية أو شخصية وأداة ناعمة لتمرير المشاريع
والمشاهد لتطور البرلمان الموريتاني عبر العصور وفي أزمنته المتعددة يدرك دون عناء الأشواط الكبيرة التي قطعها في سبيل الوصول لدوره الحقيقي فما قيمة برلمان لا ينصر المظلوم وما قيمة برلمان ليس مؤتمنا على مصالح الأمة وما قيمة برلمان لا يملك من الأدوار سوى تمرير المشاريع القانونية دون البت في حيثياتها والتصويت حسب ما تقتضيه مصلحة البلد لا مصلحة الحزب.
إن آخر تشكيلتين برلمانيتين أفرزتهما الانتخابات النيابية يمكن اعتبارهما بدعا عن كافة التجارب البرلمانية السابقة فقد شكلا قفزة نوعية في السير نحو تفعيل الدور التشريعي للدولة الموريتانية من حيث التنوع ومشاركة الأحزاب وضخ دماء شابة غيورة على واقع البلد ومتحمسة للقيام بدور حقيقي.
فلأول مرة نشهد اهتماما متزايدا بجلسات البرلمان ومتابعة حثيثة لتفاصيل الجلسات من العامة وهو مؤشرا على تقارب العلاقة بين الناخب والمنتخب. وهو ما ينبغي أن يكون فالنائب منصب تكليف وتشريف وبندقية ينافح بها الشعب عن حقوقه.
ولا تزال رغبة الشعب الموريتاني تتطلع إلى مشاهدة السلطة التشريعية تلعب دورها الحقيقي في خوضها معركة الذود عن حقوق الشعب ومراقبة عمل السلطة التنفيذية في حدود الصلاحيات والنظم المعمول بها ونحن إذ نعتبر أن البرلمان لم يكسب بعد تلك المعركة بدلالة أملنا بوجد نواب كثر يقدمون مصالح الشعب على المصالح الشخصية والحزبية ويتخذون المواقف موافقة ومعارضة انطلاقا من إحساسهم بالحس الوطني إلا أنه يمكننا أن نقولبأن الشعب الموريتاني من خلال انتخابه نواب تنافح عن مصالحه قد امتلك بندقية تمهيدا لكفاحه الديمقراطي في سبيل تحقيق العدل والإنصاف والكرامة والمطالبة بالحقوق.
أحمد سالم المصطفى الفايدة