الأدب ولادة، لا تُعَجَّل، ولا تُؤَجَّل، ولا تُعَطَّل..
في محفل مقدس شبب محمد بن عبد الله الثقفي بزينب بنت يوسف، أخت الحجاج، فقال:
تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت
به زينب في نسوة عطرات
تهادين ما بين المحصب من منى
وأقبلن لا شعثا ولا غبرات
مررن بفخ ثم رحن عشية
يلبين للرحمن معتمرات
يخبئن أطراف البنان من التقى
ويقتلن بالألحاظ مقتدرات
ولما رأت ركب النميري أعرضت
وكن من أن يلقينه حذرات
وقد استطاع الشاعر خداع الحجاج حين استفسره عن موجب بيته:
ولما رأت ركب النميري أعرضت
وكن من أن يلقينه حذرات
وكان في نفس الحجاج شيء من هذا البيت، وأحس أنه(سابكو ش)، فقال النميري لقد كنت على حمار هزيل، وصاحبي على أتان مثله، فانصرف الحجاج من الريبة إلى استقذار أخته للشاعر، فعفا عنه..
وهذا ربيعة بن عامر التميمي المعروف بمسكين الدارمي، يخرج من معتكفه بعد أن هجر الشعر والظرافة، ولزم المسجد، ليروج بضاعة الخُمُر السوداء الكاسدة لأحد تجار الحجاز، يقول:
قل للمليحة في الخمار الأسود
ما ذا فعلت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه
حتى وقفت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه
لا تقتليه بحق دين محمد
ولما انتشرت الأبيات هرعت النساء إلى تاجر الخمر، واشترينها بأضعاف أثمانها الأصلية..
هش الرجل طرب..
والهيشة الفتنة، والاختلاط، والاضطراب، ولا قود في قتيل الهيشة..
والهيشة في كلام البيظان الأمر المبهم، استعظاما، أو انبهارا، أو انفعالا لجمال الشيء، أو خطره، أو حجمه، أو غير ذلك من الصفات اللافتة للانتباه....(هاذ الهيش، هاذي الهيشايه، ذي الهيشه)، فالمشار إليه مبهم، وكأنه أعظم من التحديد، والوصف الدقيق، ويستريح المتكلم بهذه العبارة عن سفر من التفاصيل كسلا، أو عجزا عن البيان..
أما المتلقي فيدرك بهذه الصيغة مشاعر، ومراد المتكلم..(كام افلان يتهيش)، فالعبارة توحي بتداخل مجموعة من الحركات، والصفات، والأحاسيس، والانفعالات، نظلمها إن حاولنا تصويرها بالتفاصيل، ويعول هنا على تجاوب المتلقي، وتناغمه مع هذا الإبهام الجميل..
صحيح أن فعل(يتهيش)، يكون أحيانا في قبضة المتلقين حسب مستوياتهم المختلفة، من الأمي، آلى المتعلم، إلى العالم..فيشرد كل واحد إلى المعنى الذي استدعاه فهمه من العبارة..
في بعض الأحيان تحصل الندية الجامحة، الجامعة لكل هؤلاء حين ينزاحون جميعا إلى فهم مشترك، يستعذبونه في دائرة المحظور، لكن بعد الصحو من تيه الغبش، يدرك بعضهم أنه استجاب سريعا مندفعا بعدوى الطفَل، غافلا عن تعدد الدلالات، والآفاق الفسيحة لإمكانية التأويل...
في كاف محمد ولد محمد اليدالي:
أمنادم شاف افلحتفال
منت أحمد عيش فارميْشَ
يتهيش لعاد المزال
يُقَدَّر عنو يتهيش
لا شك أن عامة الناس، وخاصتهم شردوا مجفلين إلى الطعم..ووقعوا في الفخ..ولا شك أن في بعض الإبهام إخفاء متعمدا..
ذكر الأديب فعل(يتهيش) مرتين، جعله جوابا للشرط(شرط الرؤية) في الأولى، وخبرا لأن في الثانية..
وأسند فعل الشرط إلى عام:(أمنادم)، أزاح بذلك عن نفسه التلبس بإثم النظر، وما يترتب عليه، ربما لسنه، وربما لشيء آخر..
والملاحظة الأساسية التي قفزت بالكاف إلى موائد التداول، والتعاليق، وأحيانا إلى الاستغراب هو شرود المتلقين إلى مفهوم خاص لفعل(يتهيش)، نظرا لنهم الوحشية الجنسية الطاغي في الناس.. لكن المدقق سيكتشف أن ولد محمد اليدالي احتاط لنفسه بهذا الإبهام الذي يدينه بحكم ابتدائي، ويبرئه في مداولة الاستئناف..وقد جاء في المرافعة أن كل ما ذكر في الكاف جاء مبهما: ضآلة الظرف الزماني، وعبر عن ذلك بتصغير القليل(رمشة ارميشه)، تجاوز اسم المتحدث عنها إلى نسبتها، والنسبة مشترك يجمع معها غيرها..والفعل(شاف) وهو من الأفعال التي تحدث أحيانا بغير قصد..والممكن هو الغض من البصر، إذ يتعذر غض البصر تماما..
حين نحاور نصا أدبيا فإننا لا ننسى أن بعض خمريات أبي نواس، وغزليات ابن أبي ربيعة في ميزان الفن الخالص، أروع من بعض مديحيات البوصيري وشوقي، لأن القيمة الفنية لا ترتبط بالمضمون الأخلاقي أو الديني..ولعل في غرض الهجاء وهو مرفوض شرعا، وأخلاقا، من آيات الجمال ما لا يتوفر في غيره من أغراض الشعر التي يعدها الناس من الأغراض النبيلة...
وهذا كاف آخر ينسب للشيخ ول مكي:
شفت اكويريَّ يَمْهَ
لكور فيهم بَرَّانِ
بيظانيَّ ولَّ امْهَ
منخلعَ من بظان
في الكاف نسب الشيخ الفعل إلى نفسه(شفت)، وهو الفعل الذي جاء في كاف ولد محمد اليدالي(شاف)، لكن الشيخ لم يتستر في التعميم، وإنما خرج من حجاب التخفي ليصرح بدل أن يلمح..وجاء لفظ(اكويريه) مصغرا تصغير تقريب، وتحبب، وما زال يبحث مترددا في علة(بياضها) تارة في استغراب هذا اللون في محيطها الخاص، وطورا بمحاولة إثبات عرقها(البيظاني)، لكنه يعدل عن الجزم إلى الشك بأسطورة(منخلعه من بيظاني) التي يعلل بها بعض الناس بعض الصفات الخَلقية الغريبة في بعضهم..لن يغيب عن الشيخ أن العرق دساس، وأن العوامل الوراثية تظهر بصور غريبة، وفي أزمنة غريبة، فتكون ظواهر غريبة..
في كاف الطلعة المشهورة، طلعة (وياج)..
...يكون آن وحدي افلان
أشطن ل من وياج
أمن وعر الحاج حد كان
إيج من تل ألاج
في هذا ال(حد) خلاف حسب بعض الرواة،
لكن أحد شيوخنا المحليين ذكر أن الشيخ قال له(إن ذاك الحد المذكور ألا اكويريه اتبدل البن كانت اتجيهم كل انهار من تل، واختفات)..فما هي قصة الشيخ مع لكويريات؟..
الخلاصة أن الأديبين وفتاتيهما لم يلتقوا، فكان الكافان انطباعين نظريين حصلا عن طريق الرؤية من بعيد (شاف، شفت) وبقيت المسافة المكانية بقدر المسافة الزمانية بين هذا الرباعي الجميل..
في كاف آخر سلس، شائق، مشهور:
نكر ول آدم منسبل
ر نفيس دحميس
كبلت ليس ما تم كل
دحميس كبلت ليس
ظهر( أمنادم) مشتركا بين صاحبه، وول محمد اليدالي، أما الفعل(رَ) فبمعنى التقى من المسافة صفر، وهذا يتناسب وعمر صاحب الكاف تناسبَ الرؤية من بعيد في الكافين الأولين مع صاحبيهما، ويصبح المفعول به في الكاف الأخير فاعلا مشاركا في الحدث-خلافا للمفعولين بهما لفعل (شاف، وشفت) فلم يخرجا من دائرة المفعولية- بغض النظر عن طبيعة تلك المشاركة، هل كانت قبولا أم كانت صدودا، فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر..