فى خطب المتملقين.. عبر ومواعظ للعاقلين

تؤنسني المقابر كثيرا، وأجد فيها متعة الاطلاع، ومحاورة الأزمنة الغابرة..المقبرة كتاب تاريخ جميل، مليء بالعبر، جدير بالتأمل، والتدبر..
القبور صفحات مطمورة، تصارع عوامل الطمس والإخفاء، في صمتها ألف حديث، وفي جلاميدها المتآكلة، ألف حكاية..

الشواهد المصطفة، المائلة، الماثلة ببقايا حروف باهتة، كلمات من البيان المبين، تكشف لك سنة الحياة، وفلسفة الأعمار، والآجال، وبها تحييك أمم مشت على الأرض في عز وجبروت، ثم انمحت، وصارت نسيا منسيا، تغيب بقايا شواهدها في أمواج الرمال المتحركة..وفي كل قبر سجل أحداث، وشاهد على حقبة كانت فبادت...

متعة التنقل بين الأجداث غريبة جدا، شبيهة بتقليب صفحات الكتب القديمة، والمخطوطات العتيقة، بين حناياها حياة ملت من الحياة، ودنيا برمت من الدنيا، فانقطعت إلى ذلك المستقر الغامض، الموحش، متخفية، متلفعة بصمتها، مكتفية بعالمها المليء بالصور والأشباح والغموض..فكم أسلم عتاةٌ أزِمَّتَهم طائعين لمارد الزمن، يقودهم أنى شاء، متى شاء، كيف شاء..
قبل أن يصبحوا سرا مطلسما لا يفقه قراءته الغافلون..
منذ بعض الوقت قررت السفر بين قبور أخرى، ليست أقل إمتاعا من قبور الرمال..
هي آثار أخرجتها الليالي من الخدمة كرها، لكن أصحابها أحياء في أحيائهم يحلمون، يود بعضهم -خطأ- أن يكون بينه وبينها أمد بعيد، بل لعله يطمع أن ينساها، وينساها الناس، والصحيح أننا لا ينبغي أن ننكر أبناءنا الشرعيين وإن حملناهم كرها، ووضعناهم كرها..
في السهرات الفنية، والاستقبالات، وفي خطب المتملقين، التي وثقتها وسائل التسجيل حسب الحقب المختلفة، آيات، وعبر لمن ألقى السمع وهو شهيد..
تظهر لنا أحيانا كم كان الشعراء، والمنافقون، والخطباء، والفنانون مسرفين في مواقفهم من السلاطين...
وكم كان السلاطين غافلين، لا يتعظ لاحقهم بحال سابقه، فترى الخليفة يطرب كما طرب مخلوفه ذات يوم من أيام عزه، فيصدق كذب من كذب لغيره، وملق من تزلف لغيره، وهو عما صار إليه من عزل، وسجن، وذل عم.. 
تتبعت أغاني عصر ولد هيداله، وسمعت أدب قصر الشعب، والتقشف، والهياكل..
وألقيت عصا استراحتي في مضارب ولد الطائع، تلمسته غارقا في طوافين الفن، أدبا، وغناء..
نعم حاصرت الرجل أمواج الشعر،
والغناء، والمطبيلين، ولم يترك بعده لتابع فرسن حرف، ولا شق كلمة..ولم يبق في البلد رمل أبيض، أو أسود إلا أترعت له فيه كأس شعر، وزق غناء..وما تخلف عن موكب الرجل ناظم، ولا غاب عن ركبه صادح..
وقفت عند ثلاثة أناشيد في ولد عبد العزيز، أديت فأشجت، وأطربت، فكادت تبكي، كأن لم يبق بعدها للاحق حظ من ثناء، ولا نصيب من ملق..
حين يأخذك النغم، وتشدك الكلمات شدا، ترى نيام الليالي قد انخلعت من لحافها، وتدرك أنك في بلاد كل ما فيها متغير، الأسماء، والمواقف، والمواقع، وحتى الخواتم، وشكليات الوثائق، ورأسيات الأوراق الإدارية..
وتراك أسير لحظة جميلة تتدلل في عزها، وشبابها رغم سور الأيام السميك..
هي أيضا قبور حقب، أصحابها أحياء يرزقون..فيها متاع، وعبر، ومواعظ للعاقلين..

أحد, 18/08/2024 - 16:00