أفصح الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز في مؤتمره الصحفي البارحة عن أشياء وترك أشياء أخرى لقادم الأيام، ربما سياسة منه مواجهة لما يتعرض له من شيطنة واستهداف وتشويه كنا نعلم ما سخرته له الدولة وأجهزتها من وسائل سياسية، وما جندته له من وسائط إعلامية يأخذ أصحابها المقابل بقدرما " يُبدعون " ويأتون بما لم يأت به الأوائل من فنون التلفيق والتجريم.. فعلى طول سنة كاملة أصبح الشغل الشاغل للدولة والساسة والناس هو متابعة قضية الرئيس السابق والتحقيقات معه والاستدعاءات له ولمحيطه ومقربيه سياسيا واجتماعيا، لدرجة أن الأمر من حيث الزخم والإنشغال به رسميا وشعبيا عن غيره من هموم الناس وتطلعاتهم، طغى على ما شغل العالم بأسره عن كل برامجه أولوياته ألا وهو وباء " كورونا " وموجاته وتداعياته المحلية والعالمية القاتمة.
فيقدم الرئيس السابق جزء مما لديه ويحتفظ بأشياء أخرى ربما هي أهم والناس أكثر شغفا بالإطلاع عليها، ليظل هو وتتبعه ومتابعاته والإنشغال بأموره ومصيره الشغل الشاغل في قادم الأيام، وكما قال هو نفسه سنة من التحقيقات وسنتان من المحاكمات وهكذا..! ومجتمعنا وبلدنا بطبيعتهما أضيق أفقا وأقل براعة وقدرات والنجاح في اللعب على حبل واحد أحرى حبلين، الإنشغال بتنمية هي الهدف والمؤمل والأساس، والإنشغال في نفس الوقت بالمكائد وتصفية الحسابات وشحن الأجواء وخلق التوترات.. ويبدو أن يافطة التهدئة والهدوء المرفوعة ما كانت إلا خدعة، إذا لا خير ولا نتيجة تُرجى من تهدئة ولا هدوء بنزع فتيل توتر سياسي واستخدام بقايا ناره في إشعال فتيل توتر سياسي آخر، فذلك سماه مثلنا الحساني قِدما ببيع البصل واستخدام ثمنه في شراء نفس الكمية منه!
ظهر الرئيس في مؤتمره الصحفي هذا، وهو الخاضع اليوم لهذه التحقيقات والمضايقات، المملوء الأذنين والمشحون المشاعر بكافة صنوف التشويه والأستهداف والإستفزاز والإبتزاز، والعائد للتو لبيته من إدارة الأمن في ظروف الإهانة المعنوية المتعمدة تلك، ظهر أكثر قوة وتماسكا وراحة وأريحية وثقة في النفس منه خلال مؤتمره الصحفي الأول، حين كان الأمر لا زال خلافا سياسيا على مرجعية حزب، وحين كان لا تحقيق ولا استهداف ولا توقيف.
أكد الرئيس السابق ما كان يدور في أذهان الكثيرين من أن اللجنة البرلمانية والتحقيقات والشيطنة والإستهداف إنما بدأ ذلك كله كردة فعل على زيارته لحزب الإتحاد ومحاولته البقاء في الساحة السياسية من خلاله، وأن كل ما تلى ما هو إلا خطوة لمعاقبته على ذلك التصرف، وسدا للطريق أمامه من خلال توريطه بالتحقيقات والإتهامات، وأن لا مكافحة للفساد ولا هم يحزنون.. حتى ولو صدق بعض السذج ذلك وطفقوا يشكلون لجان الدعم والمناصرة لمكافحة الفساد.
فطن الرئيس لكل الشراك والأفخاخ التي أراد بعض المنخرطين في حملة التشويه والشيطنة ضده وضعها له فتجنب الوقوع فيها خلال ردوده، مثل ذلك الفخ الذي وضعه له أحدهم بسؤاله له هل يثق في القضاء الموريتاني، وكشراك أخرى وضعها آخرون بمحاولتهم جر الرئيس لاتهام أعوانه السابقين بمن فيهم الرئيس الحالي بالفساد والتهجم عليهم، وكاستخفاف إحداهم بدهاء الرئيس وبراعته السياسية المعروفة من خلال محاولة استدراجه للحديث عن تطبيع الإمارات مع إسرائيل والتأييد السريع لها من طرف النظام الموريتاني، معتقدة أن الرئيس سيستغل تلك الخطوة في معركته مع النظام الحالي، إلى غير ذلك من الشراك التى خرج أصحابها من المؤتمر بخفي حنين.
لم يفصح الرئيس السابق عن مصدر ثروته حيث كان نصف الأسئلة تقريبا يدور حول هذه النقطة، وظل مصرا كالسابق على أن ليس فيها شبهات، وإن كان ألمح بصورة سريعة إلى أنه خاض الكثير من الحملات، والمعروف أن كل المترشحين يحصلون على تبرعات من الفاعلين والسياسيين ورجال الأعمال تتفاوت قيمتها حسب مكانتهم السياسية، وبالتأكيد حصل الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز على تبرعات بعدة مليارات خلال حملتين رئاسيتين متتاليتين، وبالتأكيد أيضا أن تلك المبالغ لا تُصرف كلها في الحملات الإنتخابية، وبطبيعة الحال لا تدخل الخزينة باعتبارها مالا خصوصيا، ولم نسمع أن متلقي تلك التبرعات من أي من المترشحين تبرع بها للخزينة، أو أعادها للمتبرعين بها وإنما تمتع بها .. لكن لماذا تُطارد الدولة وجوغها اليوم الطيور الطائرة وتترك تلك التي على الأرض، والرئيس السابق يقول في كل مرة إن كل ممتلكاته وحجمها ومصادرها موجودة بالتفاصيل لدي المحكمة العليا؟! فلتخرج لنا الدولة تلك الممتلكات أولا لنستأنس بها فيما يخص ثروة الرئيس وحجمها ومصادرها، ومن ثم نلجأ لوسائل أخرى!
كنا نعلم موقف الرئيس السابق من الحركات السياسية المؤدلجة ورفضه الدائم التعامل مع كيناتها كشركاء سياسيين، لكننا لم نكن على اطلاع بتلك الاتصالات السرية لها مع الرئيس عندما كان في السلطة والمتناقضة الأهداف والمطالب والمحتوى مع ما ترفعه تلك الحركات من شعارات، ونصدق الرئيس في ما قاله البارحة عن تلك الاتصالات انطلاقا من تاريخ هذه الحركات مع الأنظمة المتعاقبة وتغلغلها فيها واستغلالها لتلك الأنظمة في ضرب بعضها بعضا حسب كل نظام والحركة التي تخترقه.. والآن فهمنا قصد الرئيس السابق لحزب " تواصل " جميل منصور بقوله إنه كان عندنا نظام " ما أمعاه ألغَ " وأصبح لدينا نظام " أمعاه الغَ "، فذلك " ألغ " هو التغلغل والإختراق الذي كان هناك من كان يرفضه، وأصبح هناك من يخضع له ويجمع حوله كشكولا من المتناقضات، وبراميل من المتفجرات الفكرية معتقدا أنه مشكلا بذلك حلفا ..!!
لم يخامرنا يوما أي شك في قدرة الرئيس السابق على البقاء في السلطة من خلال تغيير الدستور والترشح لمأمورية ثالثة لو أراد ذلك، رغم التلفيق الذي لجأ إليه من يحاولون تصوير عدم ترشحه على أنه ضغوط منعته من ذلك فأذعن لها، والواقع أنه ما كان هناك مانع من ذلك ولا قوى قادرة على التصدي له، معارضة خائرة القوى مفتتة انهكتها مهرجانات الغضب ومسيرات الرحيل، وما تبقى فيها من روح استنزفه " اتناتير أدرج " وغياب الثقة البينية وتضاد الخلفيات الفكرية وتضارب المصالح الذاتية، ونواب وصل عدد الموقعين منهم على حث الرئيس على الترشح لتلك المأمورية 104 نواب في ثاني يوم من ظهور تلك المبادرة، وقصر المؤتمرات محجوز على مدى أسابيع في سباق من طرف سياسيي وأطر ووجهاء الولايات شرقا وشمالا ووسطا وجنوبا في ذات الأتجاه، لا تخرجه جماعة إلا ودخلته أخرى رافعة نفس الشعار، وجنرالات وقادة عسكريون يتنعمون في امتيازاتهم ومناصبهم القيادية ومدركون لمصير من يعترض منهم على إرادة الرئيس، ولديهم الأمثلة الماثلة لنظرائهم العقداء سنتي 2005 و2008..!
هذا دخليا، أما خارجيا فتفاهمات بسيطة كانت كافية لترك المأمورية الثالثة تمر، لأنه حتى الانقلابات العسكرية اليوم تمر في الإقليم، ومن باب أحرى الترشح لأكثر من مأموريتين الذي هو موضة المنطقة اليوم في الكوديفوار وغينيا وتشاد، وما نحن إلا من غزية..! وعليه فالعبوا غيرها، أو ابحثوا عن " غشمي " تسوقون له دعايتكم تلك، فلو أراد الرئيس ولد عبد العزيز البقاء في السلطة لكان هو من يضع الحجر الأساس للمنشآت بالأمس في مدينة نواذيبو كرئيس للبلاد، باعتبارها مشروعات من برنامج عشريته كغيرها من المنشآت والمشروعات التي وُضع حجرها الأساس أو انتهت واستُلمت خلال ما مضى من مأمورية النظام الحالي، أو تلك التي ستُستلم في قادم الأيام وفي كل المجالات.
حاول أحد الصحفيين إقامة الحجة على الرئيس من خلال تذكيره بما صرح به مرة سابقة من أنه يمتلك حفارة لحفر الآبار، وربط ذلك التصريح بحجم ومصادر ثورة الرئيس كأنه يريد القول له لقد قلت قبل سنتين إنك لا تمتلك سوى حفارة واليوم تقول إنك تمتلك ثروة مالية، لكن هذا الصحفي لا يعلم، أو يعلم ويتجاهل بقصد الاستغلال، أن تصريح الرئيس قبل سنوات، وليس قبل سنتين بأنه يملك حفارة لم يأت في إطار الحديث عن حجم ولا مصادر ثروته، وإنما جاء في أحد لقاءاته الصحفية خلال مأموريته الأولى عندما قال له أحد المحاورين إنه يُقال إن لديك شاحنات وآليات، فقال إنه لا يمتلك من تلك الآليات سوى حفارة تعمل في المجال الخيري، وبالتالي لا رابطا زمنيا ولا ماديا بين إجابة الرئيس قبل سبع سنوات على سؤال حول اتهامه بملكية آليات، وبين تصريحه اليوم بأنه يمتلك المال.. وهذه الشاحنات هي التي طُرحت مرة على الرئيس السابق لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية سيدي محمد ولد محم في أحد لقاءته التلفزيونية يوم كان يدافع عن الرئيس ولد عبد العزيز وسياساته، فقال إنها تهمة ساذجة لأن الرئيس، كما قال، لدينه من الطرق والوسائل ما يمكنه من جعل الدولة كلها في جيبه بدل اللجوء للإستثمار في الشاحنات..!!
تحدث الرئيس عن المشروعات التي انتهت فترته الرئاسية دون البدء فيها، والتي كان البعض يسميها المشروعات الوهمية، رغم أنها تُعد على أصابع اليد الواحدة مقابل عشرات المشروعات الحيوية الأخرى التي اكتملت في فترة حكمه وها هي تعمل، ومشروعات حيوية أخرى ترك مخططاتها وتمويلاتها جاهزة وها هي تكتمل أو يتم وضع حجرها الأساس من طرف خلفه كالإستصلاحات الزراعية على الضفة، وكطريق نواكشوط روصو، وطريق بوتلميت ألاك، وكالطرق الحضرية في العصمة، وكالمباني الإدارية والدستورية والتشريعية في نواكشوط، وكمحطة 100 ميغوات من الطاقة الريحية في بولنوار، وكخطوط الجهد العالي باتجاه نواذيبو وباتجاه إنشيري وآدرار وتيرس زمور، وبقية مراحل مشروعي آفطوط واظهر، وكمصنع الأنابيب الكبيرة في آكجوجت، وكالمنشآت الإدارية والرياضية التي تم وضع حجرها في نواذيبو بالأمس
فيأتي هؤلاء يتحدثون عن ثلاث أو أربع مشروعات بعضها تمويلات أجنبية لا أوقية واحدة فيها للدولة الموريتانية حتى يتم نهبها كما يدعون، مثل جسر مادريد الذي هو هبة من الصين الشعبية، وقد أوضح الرئيس أسباب تأخره التي هي في صالح المشروع نفسه، وكمشروع رباط البحر الذي هو الآخر فكرة لمستثمر خليجي تراجع عنها لأسبابه، ولا تطلع شمس يوم وعلى المستوى العالمي إلا ومستثمر، بل ومستثمرون يُغيرون أو يؤجلون أو يُلغون استثماراتهم لأكثر من سبب، والمسجد الكبير الذي سبق وأن قلنا إنه ليس بذلك الإلحاح والناس لا يقيمون الصلاة تحت الأشجار..!
لم يفت الرئيس محمد ولد عبد العزيز أن يُبدي امتنانه لوسائل الإتصال الحديثة التي أصبحت تحتفظ لكل بكلامه ومواقفه، فمنذ الأزل ومنذ ظهور الحرف ظل الخط يبقى زمانا بعد موت كاتبه، رغم أن صاحبه تحت التراب مدفون.. وبفضل التقنيات الحديثة أصبح الصوت والصورة يبقيان زمانا كذلك وصاحبهما فوق التراب " يشبح ؤيذرع " بنقيض " قناعاته " السابقة..! ولعل آخر ما تابعة الرئيس من ذلك كلام لأحد أكبر وأشد المدافعين عنه وعن سياساته سابقا في برنامج " مواجهة " مع نفسه وماضيه على إحدى القنوات الأجنبية، ما إن يعبر عن " قناعة " جديدة حتى يُخرج له المقدم فيديو بنقيضها حتى أنه، أي المقدم " انطلصت منو الحسانية " بقوله له أنت هنا تقول " لا ترخوه بيديكم "!!! ولعلنا هنا نُسلم براعة الإختراع لوزير الخارجية السابق الدكتور إسلكو ولد أحمد إزيد بيه في ما كان هو أول من ذهب إليه حين قال أن لا داعي اليوم في اللقاء التلفزيونية لنظير لمدافع بالأمس عن الرئيس ولد عبد العزيز مُهاجم له اليوم، إذ تكفي " دعوة مزدوجة " للضيف المفترض، الأولى للدفاع عن " أفكاره " الحالية والثانية للذود عن " القناعات " التي كان ينافح عنها خلال " العشرية " بصوته وصورته، ف " السياسي الحربائي " لا يحتاج نظيرا لتقديم الرأي الآخر، إذ بكفي تحميل أقواله أمس بالصوت والصورة وعرضها اليوم لدحض ما يتفوه به مرحليا، فهو " ثنائي " من المظور السياسي ونظير طبيعي لنفسه..!
وفي الأخير يا ليت كل ما يجري مجرد سيناريو لخبط الماء في الوجوه الحديدية لهؤلاء وحثو التراب في عيونهم وأفواههم، وحرقهم سياسيا وأخلاقيا ونثر رمادهم في عرض المحيط!
محمدو ولد البخاري عابدين