يتوزع الناس على عدة دوائر عندما يتعلق الأمر بالاهتمام أو التأثير في أمر معين وخاصةً القضايا العامة الكبرى ومسارات التاريخ .
وهذه الدوائر هي دائرة اللامبالاة ودائرة الاهتمام ودائرة التأثير .
فدائرة اللامبالاة تضم عادة مجموعة كبيرةً من الناس لا يبالون كثيرًا بتطوير حياتهم الخاصة وهم غافلون عن الحياة العامة ويعيشون الأحداث بتفاصيلها وكأنها لا تعنيهم، أما دائرة الاهتمام فمنتسبوها أفضل حالًا من الدائرة الأولى فهم يهتمون وينشغلون بالقضايا الكبرى على مستوى المجتمع والوطن والأمة بل والإنسانية ولكن تأثيرهم لا يتجاوز، في الغالب ، الإحساس بالمرارة والشفقة والتضامن بالمشاعر والعواطف والقلوب وقد ينتج ذلك عن ضعف أو خوف أو عجز سواءً كان ذلك العجز توهما أو حقيقة. وهذا أضعف الإيمان.
أما الدائرة الثالثة فهي دائرة التأثير وهي التي تمثل الريادة والقيادة وأصحابها يتمتعون بطموح عال وباستعداد للفعل من أجل تغيير الواقع ويتدرج تأثيرهم من إصلاح النفس إلى تربية الأسرة والمشاركة في خدمة المجتمع والتأثير في سياسات البلد وأكثر من ذلك السعي لتغيير واقع الأمة وقيادتها إلى الأفضل ومعالجة أمراضها ومواجهة أعدائها وخدمة الإنسانية عموما.
وأصحاب هذه الدائرة ، وإن كانوا يشتركون في الحماس والاستعداد للعطاء والتضحية ، فإن حجم تأثيرهم يتفاوت بحسب ذكائهم وقوتهم ومهاراتهم وحكمتهم وبعد نظرهم.
وهذه الدائرة هي الأقل من الناحية العددية فحسب إحصائيات التنمية البشرية فإن قادة التغيير والتأثير لا يتجاوزون ٢٪ من البشر.
وأعضاء دائرة التأثير هم الذين يصنعون التاريخ ويبنون الأمجاد ويخلفون وراءهم أعمالًا مضيئةً تنير للأجيال الموالية سواءً كانت هذه الأعمال بطولات سطرها التاريخ أو أعمالًا فكرية وعلميةً تتعاطاها الأجيال عصرا بعد عصر تستلهم منها الدروس والعبر وتسترشد بها لبناء حاضر مزدهر والتأسيس لمستقبل مشرق.
لكن دائرة التأثير صعب مركبها وغالٍ ثمنها وقليلة راحتها وعظيمةٌ أهداف أصحابها.
وإذا كانت النفوس كبارا ** تعبت في مرادها الأجساد
نعم إن أصحابها يتساوون مع البشر في كثير من الامور لكنهم تفوقوا على غيرهم بقوة الإيمان والإصرار والتضحية والمخاطرة في سبيل الأمجاد ولخدمة دينٍ وبناء حضارة وإسعاد إنسانية أو الوصول إلى هدف صعب مهما كانت طبيعته.
كان أبو مسلم الخرساني في حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له في ذلك فقال: ذهن صاف، وهمٌ بعيد، ونفس تتوق إلى معالي الأمور، مع عيش كعيش الهمج الرعاع.
فهل كان التاريخ سيذكره هو وأضرابه لو لم يضحوا ويسعوا بقوة إلى تحقيق أهدافهم.
إذا غامرت في شرف مروم** فلا تقنع بما دون النجوم
وهل كان التاريخ سيذكر القائد صلاح الدين الأيوبي لو اكتفى من الحياة بمستواها العادي واختار الراحة والحياة السهلة ؟ لقد اختار القائد صلاح الدين التأثير في التاريخ على أعلى المتسويات وصبر واستعد وحرك الناس وجاهد حتى حقق أعظم أمنية للمسلمين وهي تحرير بيت المقدس من المحتلين.
وهل كان حجة الإسلام الغزالي سيكون مؤثرًا لو اختار الاكتفاء بعيش بارد هادئ؟ لكنه اختار المغامرة والاستكشاف والتطواف والبحث عن العلوم منطوقها ومفهومها فأحيا الله به الدين وترك للأمة مصنفه العظيم (إحياء علوم الدين).
ولا يخلوا بحمد الله قطرنا من قادة وعلماء ومجددين عظماء صنعوا التاريخ علما وإصلاحا لأنهم اختاروا دائرة التأثير فتركوا ما تركوا من أمجاد نذكر منهم على سبيل التمثيل لا الحصر الشيخ سيد المختار الكنتي وناصر الدين والمختار ولد بونه وسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم والشيخ محمد الحافظ العلوي والشيخ سيدي الكبير والشيخ أحمد العاقل والشيخ محمد المامي والشيخ ماء العينين الأمير سيد أحمد ولد أحمد عيده ومحمد محمود ولد التلاميد ومحمذن فال ولد متالي والشيخ سيديا باب والفقيه القاضي الشيخ محمد يحيى الولاتي ويحظيه ولد عبد الودود والامير احمد ولد الديد والشيخ حماه الله والسياسي الزاهد احمد ولد حرمة والحاج محمود با والرئيس المختار ولد داداه والمؤرخ المختار حامدن والشيخ إبراهيم نياس.
وفي عصرنا الحاضر نجد مفكرين من الطراز الرفيع تركوا بصمتهم الواضحة في تطوير الوعي الفكري وتهيئة شروط النهضة لأمة تعاني من النكبات والكبوات من أمثال مالك بن نبي وغيره.
وممن صنعوا التأثير أيضا في دائرة الجهاد ومواجهة العدو الشيخ أحمد ياسين رحمة الله عليه، ذلك الرجل المقعد الذي تمكن هو ومريدوه من صناعة توازن الرعب مع إسرائيل رغم الفوارق الكبيرة في القوة العسكرية والمادية فإسرائيل معها أمريكا ومعها الغرب ومعظم دول العالم، أما أهل فلسطين فحاصرهم الأخ والصديق قبل العدو ومع ذلك اختاروا العمل بثبات في دائرة التأثير في ظروف غاية في الصعوبة فكان الفعل المؤثر الذي أنتج توازنا في الرعب مع العدو لا يكاد أحد يصدق كيف تمكنوا من ذلك رغم الاختلال البين في موازين القوى.
وعلى مستوى الدول نلاحظ كيف اختار الدكتور مهاتير محمد دائرة الفعل والتأثير وخطط لبناء نهضة ماليزيا المعاصرة ونجح في ذلك.
إن الذين يتحركون في دائرة التأثير يستشرفون المستقبل ويسعون لتحقيق أحلام يراها غيرهم أضغاث أحلام.
يقول الجنرال ديغول وهو أحد صناع التاريخ المعاصر:
(إن المستقبل لا يصنعه إلا أولئك الذين يحلمون به عندما كان مستحيلا).
إن صناع التأثير هم الذين يحققون أحلامهم وينقلونها بالتفكير والتخطيط من رسومات على الورق إلى واقع ملموس ، تماما كما فعل البطل الفريق سعد الدين الشاذلي قائد أركان الجيش المصري الأسبق ومهندس العبور وحرب اكتوبر ، فعندما زار ضباطه وجنوده في الجبهة بعد يومين من بدء الحرب فإذا بالخطة التي رسمها على الورق يراها حالة ملموسة كما خطط لها.
وبقدر ما نلاحظ أن دائرة التأثير تكون إيجابية لكنها تأتي أيضا بشكل سلبي. فهزائم العرب في العصر الحديث إنما جاءت بفعل تأثير سلبي سببه بعض القادة مثل هزيمة حزيران 1967 وحروب العراق المتتالية التي أدت إلى تدميره وتحويله إلى دولة فاشلة.
والتأثير السلبي قد يأتي على صورتين صورة عجز وأخطاء قاتلة كما حصل في هزيمة ٦٧ وفي العراق.
أما الصورة الاخرى فهي التعاون المباشر مع العدو وتجريم من يهتم بقضايا الأمة والحرب على المقاومة.
ومن انواع التأثير السلبي أن يقود رئيس بلدا فيهلكه بالفساد ويرهق سكانه فقرأ بدل بنائه.
إن العمل في دائرة التأثير قد لا يتطلب قوى خارقة فقد يؤثر الضعيف في القوى من خلا نقل معرفة أو تجربة أو من خلال تربية أجيال يخرج منها قادة كبار يصنعون التاريخ
فقد ورد في الحديث :
((رُبَّ حاملِ فقهٍ ليسَ بفَقيهٍ ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ..)).
والمؤثرون هم عظماء اختاروا صعود القمة ولم يروا الحفر إلا محفزات ومراق للوصول للأهداف .
ومن يتهيب صعود الجبال .. يعش ابد الدهر بين الحفر.
وهم أناس قبلوا بالتحدي وضحوا بالراحة والنوم فصدق في حقهم ما قاله شيخنا القطب الرباني الشيخان بن محمد الطلبة :
وهل بالنوم المطالب تنمو،، أو هل يصح الإصدار قبل الورود
أو هل سلم الصعود ترقي،، لسماء السعود دون صعود.
الهادي بن محمد المختار النحوي
والصلاة والسلام على الحبيب الشفيع