مالت شمس انواكشوط ذلك المساء الشتوي المغبر كاسفة حزينة..
المساءات هي غروب آمالنا، وأعمارنا، هي أشياؤنا الجميلة تنتزعها منا اللحظات المجنونة بقسوة، وعناد..
لملم الفتى متاعه، ودس في حقيبته البنية كتابي النبي، والفضيلة، ورحل مع خيوط شمس صفراء تهوي مستديرة كقطعة نقود أثرية...
دق المدير (المنير ولد الطلبه) الباب مستأذنا، وقبل أن يصافحه الفتى همس في أذنه(دسيزونه خاظت)..وغادر وعلى وجهه علامات رضى لم يفهم صاحبنا لها سببا..
في مكتب مدير الدروس فاجأه (النن ول خباز)، بالتهنئة بخروج(دسيزونه)، ولعله لاحظ أن صاحبنا لم يتفاعل مع الخبر، فأضاف(دسيزيونه) هي قرار التوظيف الذي ستصرف بموجبه رواتب المتخرجين من غير المهنيين، لكنها لن تصرف إلا نهاية الشهر...
ظل الطابور الطويل يتمدد، ويتثنى كأفاعي الصحراء..
ظهر (مولاي)، وكيل الوزارة يقرأ اللائحة، ويسلم المحظوظين وثائق صرف رواتبهم من دار الدراهم..
امتد النهار، وتمططت الصفوف، وطال انتظار الناس، وهم يستعجلون الوكيل، ويلحون عليه بعدم انتظار الغائبين..
خفت الأوراق، وتناقص الحضور، وفجأة لوح الرجل بورقة واحدة ينتظرها اثنان، صاحبنا وآخر،
وفي لحظة الضغط النفسي، ودرجة الترقب والتوتر القصوى، قرأ الوكيل اسم زميلي، وسلمه وثيقة الخلاص..
ثم دلف من الباب الخلفي، وبدا له أن يقف ويمضغ كلاما لم ينضج بعد، وقال لعلك لم تكمل الملف المطلوب، في نبرة متفرج محايد لم ينتزع منه المشهد موقفا..
في طريق عودة فتانا إلى الوزارة بعد ليلة طويلة، من الهموم، لاحظ الطوابير وقد ضاقت بها الشوارع أمام بيت المال..
فاجاه الوكيل وهو يسلمه ورقة قائلا هذا كشف رواتبك، لقد أرسلوها إلى حسابك في البنك..
تذكر صاحبنا أنه استجاب لطلب الإدارة تعبئة ورقة برقم الحساب المصرفي آخر السنة الدراسية الماضية، وكلفه ذلك رحلة على الأقدام في صيف ساخن، في حين انشغل زملاؤه بالتحضير لاستقبال العطلة، ولغط التحويلات، وأحلام الموظفين المبتدئين..
سحب رواتبه، ويذكر أن المبلغ كان 98000 أوقية تزيد قليلا(ليس هذا طبعا راتبا واحدا)..سلمه صاحب صندوق الصرف المبلغ بأوراق نقدية جديدة كلها..
حلا للفتى أن يمارس شيئا من نزق الطفولة المهنية، فعاد إلى زملائه في طوابير بيت المال، هذه المرة لا باحثا عن موقع متقدم يندس فيه مغافلا من سبقوه، بل ساخرا، ومتشفيا، ومنتقما من الذين خذلوه أمس فانفضوا من حوله فرحين بما آتيهم الوكيل، وتركوه قائما، صفر اليد حتى من وعود التهدئة، والمواساة..فوجد القوم منهكين كالمساكين، مطأطئي رؤوسهم كالمجرمين، ما زالت على جباههم بقايا أتربة، وحفنات من غبار، تمسح عواصف الزوال الشتوية رؤوسهم بمستحضرات التقبيح، وهي خليط من وسخ الشوارع، وروائح أحواض المراحيض الإدارية التي لا تبرأ من نزيف..
مأساة أخرى عاشها الذين غبطهم أمس، فقد بدا أن بيت المال بيَّت نيته، وأبرم كيده بليل، فقرر التخلص من الأوراق النقدية التالفة، الغائبة وراء طبقات الغراء واللاصق، فصبحهم بصرف رواتبهم منها، تنبعث منها رائحة كروائح برك تجميع الغسيل المكشوفة، وكان صاحبنا كلما مر بفوج من زملائه في حالة انكسار، وانتظار، واستنكار، وهم يدسون تلك الأوراق القبيحة في جيوبهم على كره، لكن برفق حتى لا تتقطع أوصالها، ويسقط اللاصق الذي يجمع أجزاءها الممزقة، وهم يعطسون، ويسعلون من سوء ما صدروا به، كان كلما مر بهم أخرج لهم-ليزيدهم هما على غم- أوراقه الجديدة، وأسمعهم فرقعة رزمها النحيفة المتلاصقة، التي لم تشتت شملها بعد أيدي التجار، ولم تدخل جيوب باعة السمك، والفحم. ولم تلمسها أصابع بائعات التبغ المجفف، ولا مقسطي الخبز بالجبن المتجمد، ولم تبللها سبابات المنفقي سلعهم بالأيمان الحانثة بالريق تسهيلا لعدها..ولم ترتعش فوقها أصابع المحاسبين ليدلسوا، ويدسوا فيها ما ليس منها...
تعلم صاحبنا من أحداث الطوابير أن بين ضريبة الانضباط، وثمرته طرقا متشابهات لا يعقلها إلا المجربون..