ها أننا طوينا، معًا، أوراق آخر فصل من رواية "زهرة العمر المهاجرة في متاهات المكسيك".. كنتَ الحلمَ لأخواتٍ احترقت أجفانُهن بجمر الدموع الجارفة.. كنت الأملَ المبتسم لأمهاتٍ نائحاتٍ، جَفاهُن الأهلُ ورَمَتْهن ماكنة أنظمة طواغيت الإجحاف الحكومي المأفون.. كنت الأمسَ الساحرَ، واليومَ الأخّاذَ، والغدَ البهي.
واليوم، يبتلعك الموج الأحمق، والراقصون على آلامنا سكارى في أماسيهم السياسية، وكأن امرأة ثكلى لم تفقد فلذة كبدها، يتهافتون ويتهاتفون في حملات زائفة، حاملين شعارات كتبوا عليها، ضمنيا: "إلى الجحيم، أيتها الكلاب الضالة!". وطامّتنا أنه لم يكن لمأتمنا، في يومياتهم، أقَلّ نصيب!!.
نعم، لا أحد، في فريق الحملات، مَعْنِي بمأساتك، ولا أحد سيُبحر ليرمي بمرساته، هناك، فيُخرجك جثة هامدة، عسانا نجد لك مكانا "آمنا" في مقابر الأجداد.. لا أحد سَيُحَوْقل أو يُحَسْبل أسَفاً عليك، لأنه لا صوت لك يُشبعون به بطن صندوق الاقتراع الجائع، ولأنك لست ابن جنرال متعجرف، ولا ابن وزير جهول، ولا ابن زعيم قبلي مختال، ولا ابن صحفي ساقط، ولا ابن مدوّن معتوه، وبالتالي لست غير صفر خسيس، لا محل له من الإعراب عند "سَيْبَه وَيْه": إمام النحو السياسي في فيافينا.
إذن، لا تأبَهْ بهم، ونَمْ تحت أهازيج الرحمات، وفوق أسِرّة نعيم إلهي لا منقطع ولا مبخوس.. نَمْ قريرَ العين، راضيا مرضيا، مخلدا في جنان لا تكدّرها أبواق المتملقين، وتجار الوهم، وقتلة أحلام المراهقين.
لا عليك منهم أيها "القبر المجهول".. دَعْهُمْ في شبَقهم يتيهون، فستبقى، رغم التجاهل، رمزًا للتحدي، وآية للرفض، وعنوانا لرواية فلسفية، سياسية واقتصادية، خالدة، كتَبْتَ مقدمتها في شوارع نواكشوط، وختمتَ آخر سطر فيها في بحار المكسيك.. ستبقى، رغم الأنوف المزكومة بأقحوان الفساد، حِبْرًا جميلا في دفاتر كل طفل حائر، وخصلة شعر مسترسلة على مناكب كل الحوريات الحالمات، وباقة ورد تفتأ تفوح بعطر المطالب الطلابية والنقابية والحزبية المُلِحّة.. ستظل أجمل شهداء الوطن، وأغلى عريس في أحلام بلد أماتته الكوابيس.. ستظل، رغم مُوائهم، رغم خوارهم، رغم صريرهم، أنقى أحرف التمرد، وأبهى جملة يرسمها التاريخ على ألواح شهداء الهجرة.