
في 16 يوليو 1964، قمتُ بسفر مليء بالانفعالات القوية، استقبلني على إثره الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة الاستقبالَ نفسَه الذي خُصص لكافة الرؤساء الضيوف المشاركين في مؤتمر قمة منظمة الوحدة الأفريقية. وأود أن أضيف كلمةً عن هذا السفر قبل أن أبتعد عنه. فقد كانت متاعبه أكثر من متاعب السفر الماضي، أي السفر بين نواكشوط وأديس آبابا على متن طائرة «د.س.3»، مع أننا هذه المرة كنا على متن إحدى طائرات إيبريا من طراز «د.س. 4» كانت الخطوط الجوية الموريتانية قد استأجرتها.
وقد تم تجهيزها على نحو ما هو معمول به في الخطوط الجوية عادةً، وأُعدت المقاعد وغيرها من وسائل الراحة التي تُهيأ للمسافرين بالطائرات. وكان خط السير كالآتي: توقف في فورلامي، حيث نتناول طعام الغداء، على أن ننام في أباشي، ونتوقف توقفاً فنياً في الخرطوم ثم الوصول إلى القاهرة. وتم اجتياز الطريق بين نواكشوط وفورلامي دون مشكلة، أما الطريق بين فورلامي وأباشي، فكان مفعماً بالانفعالات. فقد كانت هناك عاصفة هوجاء من عواصف فصل الأمطار تغطي المنطقة، ولم يكن مطار آباشي مجهَّزاً تجهيزاً يمكّن من مواجهة ما تحدِثه هذه العواصف من ظروف استثنائية. فحلَّقت بنا الطائرة نحو ساعة، خالها بعضُنا، إن لم يكن كلُّنا، ساعات عديدة حسب بعض الاعترافات، ولم نتمكن من رؤية أي علامة للمطار أو غيره.
وإمعاناً في سوء الحظ تعطَّل جهاز اتصال الطائرة، وكان الملاح إسبانياً لا يعرف شيئاً عن المنطقة، ولم يعرف كيف يتصرف. ومع اقتراب الليل انقطع الأمل في العثور على آباشي وسلك بنا الطيارُ الوجهةَ التي ظنَّها وجهةَ فورلامي، وكان تقديره صحيحاً لحسن الحظ، وأقبل الليلُ بظلامه ونحن في الطريق، فانعدمت الرؤية عموماً والأمطار تنهمر، وأصبح قلقنا يزداد دقيقةً بعد أخرى. وأخذ القوم يتلون آيات من القرآن الكريم وكانت التلاوة في البداية سراً، ثم صارت مسموعةً، ولم نلبث أن تعالت بها الأصوات مع أن الجميع كانوا يحاولون التحلي بالهدوء وضبط الأعصاب وعدم إظهار الفزع. وحاولتُ أن أكون قدوةً في الهدوء ورباطة الجأش، فداعبتُ بعضَ الزملاء مداعبةً ربما تحولت تلقائياً إلى مضايقة. وفجأة تراءت لنا أنوار فور لامي تخرق حجب الغيوم الدامسة، فانفرج الغم بعد أن كادت الأعصاب تتحطم بسبب هذا الخطر المحقق.
وبعد ليلة طيبة قضيناها في فور لامي، اتجهنا منها إلى القاهرة من جديد عن طريق الخرطوم. واجتزنا الجزءَ الأول من الطريق دون مشكلة، لكن الجزء الثاني كان يخبئ لنا مفاجآت أخرى. ففي الطريق بين الخرطوم والقاهرة، وبينما كانت الطائرة تحلق في أجواء عالية إذ توقف نظام التهوية ونظام التسخين، فاختنقنا وأخذنا نرتجف برداً، فأصبح الجميع في وضع أقل ما يقال عنه إنه على غير ما يرام. وهنا أيضاً حاول كلٌّ ضبط أعصابه وبدأت العودةُ إلى تلاوة آي من الذكر الحكيم.. ولحسن الحظ لم يمض غير وقت وجيز حتى نزلنا في مطار القاهرة والجميع في حالة ذهول، لكن رؤيتنا الرئيس جمال عبد الناصر عند سلم الطائرة لاستقبالنا أعطت كل واحد منا الدفعَ الضروري ليتماسك ويسير على قدميه.
وأتذكر أمراً لن أنساه وهو أنني كنتُ أشعر بدوار مزعج أثناء استعراض وحدات الشرف صحبةَ مُضيفي. ولحسن الحظ كانت الطريقة المصرية لاستعراض الوحدات، وهي على ما أعتقد مأخوذة من بريطانيا، تقتضي السير ببطء خلف الضابط الذي يقود الفِرقةَ التي تستعرض الأسلحةَ، ولو كان الاستعراض يتطلب سيراً أسرع لكان من المحتمل جداً أن أفقد توازني.
المختار ولد داداه / «موريتانيا على درب التحديات»