كشف تقرير لجنة التحقيق البرلمانية عن رأس جبل الجليد لمنظومة الفساد المتجذرة في واقع مجتمعنا، وربما كانت سابقة للدولة الوطنية الحديثة، حيث تشير البيانات الأولية للتقرير إلى قضايا فساد من الوزن الثقيل في كل الملفات التي تم التحقيق فيها، وهذا ما قد يفرض الغوص عميقا لاكتشاف أن الفساد كان ولا يزال أحد أوتاد تثبيت أنظمة الحكم المتعاقبة على بلادنا منذ الاستقلال، وإن بدرجات متفاوتة.
اليوم وبعد مصادقة البرلمان على إحالة التقرير إلى القضاء وسط ارتفاع سقف مطالب الشعب، الذي لم يعد يكتفي بضرورة محاسبة جميع المتورطين في ملفات الفساد بل ويتطلع إلى استعادة الأموال المنهوبة مع تقديم رسالة واضحة إلى الداخل والخارج مفادها أن موريتانيا أصبحت دولة مؤسسات حقيقية، وهذا ما يمطرح السؤال التالي: إلى أين تتجه موريتانيا ؟ وماهي أبرز السيناريوهات المحتملة؟
(1)
تقديم أكباش فداء مع إعادة رسم الخريطة السياسية
السيناريو الأول: إجراء محاكمات شبه صورية للمفسدين تكشف جل المتورطين، وتقدم أكباش فداء من المغضوب عليهم مع إبقاء أباطرته خارج المحاسبة الإدارية والقضائية والسياسية، وهو ما قد يفتح حرب لتصفية الحسابات في أروقة المحاكم، وأخرى دعائية من نوع خاص على وسائل التواصل الاجتماعي تفضي إلى خلق انطباع يفيد بأن النظام ضرب بيد من حديد الفساد والمفسدين، وسيقوم بإصلاحات هامة، وأن الكرة الآن في ملعب كل أطياف المجتمع المدني، وكل القوى الحية حتى يساهم الجميع في بناء موريتانيا الجديدة، التي لن تترك أحدا على قارعة الطريق، وهذا ما قد يساهم في رسم الخريطة السياسية الجديدة للبلد. لكن قد نكتشف بعد سنوات أن الفساد مازال متجذرا، وربما بشكل أشد تحت غطاء المحاصصة، وقد نكتشف أيضا مع نهاية المأمورية أن برنامج تعهداتي بقي حبرا على ورق، وهذا ما يعني خسارة المؤسسة العسكرية لبطاقتها الائتمانية الأخيرة، مما قد يصعب من استمرارسيطرة أصحاب الأحذية الخشنة على سدة الحكم بصورة مباشرة في بلادنا.
(2)
اقتلاع جذورالفساد والاستعداد للتنمية الشاملة
السيناريو الثاني: إجراء محاكمات جدية وعادلة لكل المتورطين، والتخلص من المفسدين مهما كانت مكانتهم، وهذه عملية صعبة ومؤلمة جدا للنظام تشبه إلى حد ما عملية كشط العظم دون تخدير، التي كان الأطباء قديما يجرونها للتخلص من السم المخالط لعظم المريض، وقد تستغرق هذه العملية وقتا طويلا يتخلله الكثير من التعقيدات مع شبه توقف مؤقت لعجلة التنمية لكن وبدون شك في نهاية المطاف ستخرج موريتانيا من هذه المحنة أصلب عودا، وأكثرتماسكا وديمقراطية، وستتحول ساحة الحرب الحقيقية من أروقة المحاكم، و مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحة التعليم، والصحة، والعدالة الاجتماعية، وهذا ما قد يؤدي في النهاية إلى تجسيد برنامج تعهداتي، وربما يمنح الشعب الموريتاني لفخامته مأمورية ثانية من أجل استكمال ما بدأه من تأسيس على الأخلاق، والقيم، والمبادئ الأساس الضروري لأي مشروع نهضوي، والعنصر المهم في أي عملية تنموية، فالأخلاق قضية مركزية في ديننا الحنيف، وقديما قال الصينيون "بالأخلاق تساس الدول".
(3)
فتح صندوق باندورا والانهيار الشامل
أما السيناريو الأبشع لموريتانيا أن تكون الخطوة تفتح " صندوق باندورا"، وتخرج كل الشرور القبلية، والجهوية، والشرائحية، والعرقية، مما سينقل ساحة الحرب من العالم الافتراضي، و أروقة المحاكم إلى الواقع، وربما واقع حقيقي معاش، فنحن دولة مازالت العصبية بكل أشكالها متجذرة فيها، وحية في مجتمعنا ، كما أننا في منطقة مشتعلة، وتعج بالمرتزقة، ومن سرق مليارات الدولارات قد لا يتورع عن فعل كل ما يعتقد أنه سيحميه وثروته، وقد يكون التشبث بالأمل الذي تحكي الأسطورة اليونانية أن فقدانه هو الشر الوحيد الذي بقي في قعر الصندوق هو الخيارالوحيد أمامنا في هذا الحالة خاصة أن قبطان سفينة الوطن المبحرة وسط أمواج جارفة من الأخطار يقال أنه يعد من أكثر الناس معرفة بحالها، ولا يخفى على أحد أن الفساد ظاهرة اجتماعية تلعب التنشئة والسلوكيات المكتسبة دورا كبيرا في تجذيرها، ومجتمع " التفكريش" الموريتاني، وفي ظل ظاهرة الامتثال الاجتماعي من الصعب أن يخلق فردا غير فاسد، والسلوك الجمعي في قضايا الفساد خير دليل على ذلك.
إن تقرير اللجنة البرلمانية إما أن يكون كلمة السر لمغارة الأربعين حرامي، والطريق إلى ما بداخلها من كنوز، التي قد تسرق من جديد أو يعاد توزيعها على الطريقة المصرية للحكاية، وقد يكون التقرير مفتاحا لصندوق باندورا وبوابة الشرور على جسد الوطن الهش أصلا. وحده الشعب الموريتاني القادرعلى تحديد السيناريو المستقبلي، ومهما يكن من أمر فإن طرح الفساد كقضية عامة، والرفع من سقف محاربته إلى هذا المستوى سابقة سيكون لها ما بعدها أبسطها أنها قد تشكل لحظة لإيقاظ الضميرالمجتمعي، وقد يكون لرمزية الأشخاص الذين سيطالهم القضاء أهمية كبيرة في تحديد مدى صحة محاربة الفساد والقطيعة معه.
د. يربان الخراشي