يتمتع العلامة محمد صالح بحضور بارز في مدائن التراث، فهو قاضي ولاتة، ونسابتها، وشاعرها، وهو أيضا عالم بلداني، ولغوي متميز. يشهد على ذلك كله ما قام بهفي ميدان القضاء، التي امتلأت المكتبات بعقوده وأحكامه التي مهرها بخطه الجميل، وكتاباته في الأنساب حتى قال عن نفسه" إنه لا يوجد أعلم منه بأنساب قبيلته"، وشاعرها بأشعاره التي ضمها ديوانه والمنوه به في مقال سابق لنا. وهو أيضا عالم بلداني ذكرت ذلك ودللت عليه ببحث خاص نشرته في مجلة: "العرب" التي تصدر عن مركز المرحوم حمد الجاسر بمدينة الرياض، وكنت أول من اكتشفت بقايا كتابه ذاك الموسوم ب: "الإعلام بالأماكن والأعلام". وجهوده اللغوية بارزة من مؤلفاته اللغوية مثل عمله عن لامية ابن مالك، ولم أقف على نصه، وكما يظهر ذلك أيضا من شرحه المتميز للشقراطسية، فهذا الجهد الكبير هو مظهر من مظاهر حضور عالمنا في مدينته، فنحن نعتقد أنه ألف معظم ما ألف إبان مقامه فيها وذلك على الرغم من تجواله المعروف في سيرة حياته.
إن تلك الرحلات هي التي جعلت منه عالم مدائن التراث، فقد أثبت البحث أنه كان حاضرا في بعضها، بالحضور الجسدي، وأن الأخرى قد ثبت حضوره بها من خلال آثاره المعرفية أو كتابة عقود لبعض أهلها.
والذي وقفنا عليه يدل على أنه كان حضرا بمدينة تيشيت، ففي أحد الوثائق يطلب منه رأيه في قضية معينة فيقول: " فالذي أعلمني الله تعالى به منذ عقلت في العشر الأولى من سني هذا القرن الذي نحن الآن فيه ، ولست من أهل قرية تيشيت المحروسة، إلا أني وردتها مرارا، وأقمت فيها مرة مدة ... فهذا ما شاهدته وما سمعته ممن أدركته من أكابر أهل ولاتة المحروسة". وقد مهر ذاك العقد بتاريخ أحد عشر شوال من سنة 1262ه. كما وقفت على نص آخر يذكر فيه العلامة عدة أماكن من القرية لا يعلمها إلا من سكن القرية وخبرها، كما خبر أحوال ساكنيها، وكتب عن المداراة التي كانت على ساكني مدائن التراث بصفة عامة، كما أن له علم بالشخصيات البارزة، كالأعيان والعلماء، فله مطارحات مع القاضي محمد بن محمد الصغير بن انبوج، وقد ذكرت ذلك في مقالنا شعر قضاة مدائن التراث، ودللت عليه بالنصوص الواردة فيه.
ثم إن هذا الحضور قد تجلى من خلال تقريظ بعض مؤلفات علماء المدينة، وأثبت ذلك في بحث لنا عن: "أدب تقريظ الكتب في التراث العربي" نشرته في مجلة آفاق الثقافة والتراث التي تصدر عن مركز جمعة الماجد بدبي، حيث قلت حينها: " ومما نثره أحد العلماء الشناقطةالكبار وهو صالح بن عبد الوهاب الناصري، المتوفى سنة 1272ه، حينما وقف على كتاب فتح الكريم المتعال لمؤلفه أحمد بن حمى الله المتوفى سنة 1272ه، فقال: " أما بعد فقد نظرت فتح الكريم الذي ألفه الفقيه أحمد بن حمى الله، الكريم بن الكريم، فتلقيته بالتصحيح والتسليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لأنه أسسه بالنقولبالفروع والقواعد والأصول، ووشحه بالأبواب الصحيحة والفصول".
ويقول أيضا تعليقا على نص لحمى الله: " أما بعد فقد أعلن وأعلم بصحة ونفوذ واطراد، وعدم الشذوذ المجلوب من النصوص في المكتوب الذي أبدع فيه حمى الله أي إبداع، بحيث لم يترك لمخالف في قضية المكس الخاص محل نزاع على حال .. في إتقانه لصحة فقهه ، ووضوح بيانه ، وبأنه الحق الذي لا غبار عليه ، والصدق الذي أشار الشرع إليه، لأن سلك فيه سواء الحجة ، وما ترك قلمه لمشاقق أدنى حجة".
وعلق على كتاب آخر بقوله: "الحمد لله على فضله وصلواته على رسله، أما بعد فقد أعلم بصحة ما في هذا الكتاب من بديع الجواب وموافقته عين الصواب". فكل هذا يدل على متابعة العلامة محمد صالح لحركة التأليف في مدينة تيشيت، وكذا ثقة علماء المدينة بما يقوله العلامة في حق ما يؤلفونه.
ومما يؤكد ذلك الحضور أيضا وجود نصوص له في مكتبات مخطوطات المدينة مثل نصه شرح الشقراطسيةالذي كانت تضمه مكتبة المرحوم داده الشريف، وهو مفقود منها.
أما مدينة شنقيط العامرة فلم نقف على أي وثيقة تثبت أنه حضر إلى المدينة، وكل ما وقفت عليه هو عقد كتبه بين رفقة من أهل شنقيط وبين أهل أعمر بن اشبيشب من أولاد الناصر، ذكر في الوثيقة شخصيات من أهل شنقيط، وشخصيات من أهل أعمر بن اشبيشب، وقد فصل في الموضوع وذكر جوانبه وما اتفق عليه الجمع. وكان تاريخ هذه الوثيقة هو 1257ه. وهذه الوثيقة لم يتضح منها مكان الكتابة، وإن كنت أعتقد أنها كتبت في قرية تيشيت، إذ أن بين المدينتين علاقة وطيدة لقربهما من بعضهما البعض، ولتقاسم المنافع المادية والمعنوية بينهما.
أما ذكره لاسم المدينة فقد وقفت على وثيقة يذكر فيها أماكن الجزيرة المغربية السودانية من تنبكت، وأروان، وبوجبيه، والمبروك، والمامون، وولاتة، وتيشيت، وودان، وشنجيط، وأطار، وأوجفت، وتججك، والرشيد، وقصر البركه، وتكب، وتارن". هذا كله ما وقفت عليه مما ذكر فيه مدينة شنقيط، إلا أن ضياع تراث العلامة قد يخفي كثيرا من المعلومات التي كتبها ودونها عن هذه المدينة وغيرها.
أما مدينة وادان فهي الأخرى قليلة الذكر في تراث العلامة محمد صالح، ومع ذلك فلا نعدم إشارات هنا وهناك، ومن أبلغ ما حصلت عليه من ذلك هو ذكره لشخصية بارزة عرفها وقدرها حق تقديرها وهو السيد الفاضل بن أحمد امحمد بن سيد الأمين، التمتام، الحاجي، اليعقوبي، الواداني وهو من ألف له العلامة شرحه للقصيدة الشقراطسية في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال في حقه: " قد التمس مني أخي، بل سيدي، وشيخي، السيد الباذل، الصندد.. أن أضع له شرحا على قصيدة الشيخ أَبِي مُحَمَّد عَبْدِ اللهِ بْنِ زَكَرِيَا الشُّقْرَاطِسِي، اللامية في مديح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم السامية يَحُلُّ أَلْفَاظَهَا، وَيُعينُ عَلَى فَهْمِهَا، حُفَّاظُهَا، فلم أجد بدا من إسعافه بالمهم، وإلى طاعته، وامتناع خلافه، وما ذاك إلا لما يظهر من جميل أوصافه مما أرشده الله تعالى إلى إنصافه، ولرجاء عاجل الثواب، وآجله من الله تعالى الكريم الوهاب".
فلا نعلم كيف كان اللقاء بينهم؟ هل هو عن طريق المراسلات، أو المواجهة المباشرة؟ فالمعلومات شحيحة عن سفر للعلامة إلى مدينة وادان، غير أن شهرته وشيوع علمه قد لا تحرم منه المدينة إما بالتواصل المباشر، أو بالرواية.
ولعل وجود نسخة من كفاية المتحفظ _لإبراهيم بن إسماعيل بن أحمد بن عبد الله اللواتي الأَجْدَابي، أبو إسحاق الطرابلسي المتوفى: نحو 470هـ_، بخط العلامة في مكتبة أهل ياي بوي بمدينة وادان تبين حضوره في نشر التراث، ونقله من مدينة إلى أخرى. فلا علم لنا بنسخة من ذلك الكتاب في مكتبة أخرى غير التي أشرنا إليها. وقد قمت بفهرسة تلك المكتبة مع بعض الزملاء من المعهد الموريتاني للبحث العلمي، لصالح دار الفرقان ونشرتها الدار ضمن مطبوعاتها عن فهارس المخطوطات في العالم.
ومهما يكن من أمر فإن تسجيل حضور العلامة محمد صالح في مدائن التراث هو من أمور بحثنا عن تراث بلاد شنقيط، راجين أن يكون كل مقال من هذه المقالات التي نشتغل بها تعالج جانبا خافتا من تلك الجوانب، فتبعثه من سباته، حتى تدب فيه الحياة ويشتغل به غيري ممن هو غيور على تراث هذه الأم