هذا الشاعر العظيم الذي يتميز بصدق العاطفة والصراحة مع النفس ومع الآخرين، وفهم العملية الشعرية على أنها عملية إبداعية تأتي من إيحاء لحظة وجدانية مشحونة بالانفعالات العاطفية .. وأبو شجة يبدأ من لحظة بلا غضون .. لحظة " اللاشيء " .. ليجعل منها " بؤرة " شعر متحفزة .. يخترق نورها سجف الرتابة الاجتماعية ليضيء الطريق أمام الذات الحائرة .. فتلهج بقصيدة تحفة حسب منهج توليدي تطوري رائع، تترابط فيه الجمل بوشائج قوية، ويتولد بعضها عن بعض في تماسك قوي محبوك كما هو جلي في قصيدته " الرحيل " :
كيف أمسى يمطني الفشل المـــ :: ـــر خمولا بشكل حبل الغسيل!
مورقا بالغيوب تخفق أكفا :: نا بأطراف سدرة التضليل!
وتوارت تعوم تقذف بالعا :: لم موجا من الرحيل القفول!
وهو يعوي خنادقا من ضلال :: يعبث الموت بينها بالدليل!
فقصيدة الرحيل .. كتبت بنسيج فني مذهل في الصور والموسيقى والخيال واللغة الشعرية المحكمة، بعيدا عن الرؤية الساذجة، التي تجعل القصيدة أسيرة العلاقة بالحركة السطحية للأشياء.
فأبو شجة يتخذ من أسلوب الظلالية والرمز طريقة للتعبير بعيدا عن المباشرة القريرية:
ذكرياتي .. أواه يا أوجه البيـــ :: ـــد الظوامي كطائرات النسيل!!
لم تعد لي بل بات ينبحني الـــوا :: دي الذي عشت فيه كالترتيل!!
وتراأى كأنه دائم الوحشـــ :: ـــة نخل يؤزني كالوعيل!!
بل تواريت من عيون الأماسي :: فهي تبكي قلب الحياة الثكول!!
فأبو شجة يشكو بمرارة من المجهول " المجهول " .. يرى أن كل شيء قد تنكر له: الوادي الذي عاش فيه تنكر له .. النخل تنكر له .. حتى ذكرياته تنكرت له .. كل شيء أصبح بالنسبة له دائم الوحشة، فقرر أن يتوارى من عيون الأماسي التي تبكي الحياة المفجوعة الثكلى .. هذا هو أبو شجة وتلك هي المعاناة .. فالخوف من المجهول، أو من الغد، أو من الغد المجهول يجعل أبو شجة وجها لوجه أمام حالة لا يحسد عليها .. فهو يتحسر على شباب ما زال في بدايته ويدب على عصى لم تنبت شجرتها بعد .. إنه يعيش على التوجس والقلق .. يطل على " ماض " مفترض من نافذة " مستقبل " مفترض ليرى نفسه وقد دب على عصا العمر الخراب ويندب روض شباب قد ذوى وتحول إلى يباب، فيسخر منه الشباب الغادر بعد أن كان هو سيد الموقف في كل شيء قبل أن يتحول هذا " الكل شيء " إلى نقيضه:
ألا لهف نفسي حين أغدو :: أدب على عصا العمر الخراب!!
وأندب في يباب العمر روضا :: ذوى في لفح هاجرة اليباب!!
وراح سواي في ثوبي إني :: على ثوبي محترق الثياب!!
يخيل من الشباب علي لما :: حرمت إلى القيامة من شباب!!
أيغدر كالرباب بنا شباب :: أشعت بناره وله الرباب!!
أما قصيدة "دم الياقوت" فإنها مطبوعة بالجرح الاجتماعي العام .. ولكن أبو شجة لا يريد أن يقدم للمتلقي تقريرا وعظيا عن واقع اجتماعي معيش، وإنما بإيحاءات رمزية رائعة يقود قارئه لإلقاء نظرة بانورامية عميقة على الواقع الاجتماعي من الداخل .. هذا الواقع الذي يتميز بالأنانية والتفلت والجفاف الوجداني القاتل .. وهكذا يضع أبو شجة عصارة أنفاسه اللاهثة في رائعته المعجزة: " دم الياقوت " التي رسم فيها ذاته المعذبة في رؤى متماوجة الظلال .. وتقوده آهاته وشعوره بالعجز أمام جبروت الوله ووطأة تجليات الهيام إلى الاستسلام لأحلام اليقظة:
أخذت الكأس عن شفتي سليمى :: ضحية برهة الزمن الهديل!
ضحية لا تزال الشمس مني :: بذكر الكأس والأنس الحلول!
وقلب المرء في ضحيان تبكي :: إلى قذفاته فرص الوعول!
ضحية راقت الأشياء مما :: يلوح البدء تياه الشكول!
ولا تدنو ولكني إليها :: ألوح من الغرام بلا دليل!
وفاح الشوق وانعقدت تلولا :: من الذكرى الفوائح بالأصول!
ضحية لا أفيق إذا سليمى :: تلوح بالتلول عن التلول!
وكم أعشو هناك إلى سناها :: ولما استطعه من النحول!
أكابد من هواها في يفاع :: تكل برأسه نار العقول
ليالي لا يطول الوقت إلا :: بما استملحت من قصر وطول
***
وتزهو الكأس في قدحي سليمى :: بشمس الكأس في الزمن الظليل
يزل بروح شاهدها انعتاق :: يهل به القيام من الزليل
جزائر من بزوغ الشوق حتى :: شفيت غليل نفسي بالغليل
وتضرب في ثياب العمر منها :: جنوب من شمال الأرخبيل
فيا ما كان أذكى العمر نفحا :: إذا قيل الشمال من الشمول
كأن الكأس من عطش المرايا :: إلى ماء الشباب السلسبيل
أخاف بها رسيس الشوق منها :: فكيف أخذتها بهوى قتول
وحلت بها ولا حول لديها :: ويضعف أن يقوم لها حويلي
صدعت بها المحال وصدعتني :: وأوقدني سراب المستحيل
فيا لله من ألم لذيذ :: جميل واللذاذة في الجميل
ضحية لحت في شرف وفاحت :: لي الآفاق عن وله نبيل
أخيل بفضله فيغيب شوقا :: أولو الألباب في بدع الفضول
بما تدمى له الأرواح مما :: تنوح بها رياح أبي عقيل
على القوم الذين هم قروها :: على العلات والزمن البخيل
أكابد من مواقفهم مقاما :: ذرفت بسفحه مهج العويل
وما اسطعت المواقف بيد أني :: أكب تهالك الجذع القطيل
ترود رؤاي في حيث استلاعت :: ربابة مهجه النغم التبيل
فإن أسرفت في شجوي فإني :: أدير الكأس من حرم الرسول
وقد يشجى حمام النخل إما :: جلا القطان من شجو النخيل
فهل في ذكريات الروح نار :: من الأقصى تنير حمى الجليل
وهل حرم الخليل به حرام :: دمانا أم يحل دم الخليل
أم الأشياء من خدر مقيت :: تميت وحوله وهج الذحول
وهاج البحر أكذب من سراب :: تمور به مفازات المحول
***
حنانك ذا الحنان لما أدلهت :: به الدنيا من الخليل الكسول
كأنك إذا تبث من الأعالي :: شمواسي الله تهذي بالوحول
قليلا ما تلوح إليك عين :: فتأخذ منك فوق شفا القليل
فقل في قرقف الزمن المزكي :: بشهد الشوق والسنة البتول
فكم زمرت بأيامي إليها :: روائع من سنا دمي الطليل
لوامع لا يد الأيام تعدو :: عليها صبغة الله الجليل
بصائر كان أنفذني هواها :: من الأشواق والوله الكحيل
بما تذكي عشيتنا سليمى :: بمزمار من الطلل المحيل
أما تستفتحين القلب إلا :: بسهم من سنا الشعرى طميل
حنانك بي على ما كان إني :: لينفذني سنا النغم النحيل
فلا تستغلقي مني لعلي :: أطيل في سنا وله طويل
ألست ترين أيامي عرايا :: إليك بسحر ذاكرة الحقول
مواجد تهدل الغدوات فيها :: بأني فيك مخضر المقيل
وأن زمان ذلك لن تنادي :: أراكته التي اختلفت بسولي
ولكني ذكرتك والليالي :: نزول من هواك على نزول
لبست به نجوم الليل حتى :: رأيت النجم من ترف الذيول
فكيف سمعت لما اشتق صوتي :: بنار البدو مرآة الوصول
فكان العمر ألا عمر إلا :: خذول الشعر في الرشإ الخذول
***
فيا لله كيف تناهبتني :: بظهر الغيب أصداء الطبول
وكيف توهجت سحن المرايا :: بشوق من جني الزنجبيل
أقول به متى شئت قولي :: فكفي ما حلا لك أو فقولي
فإني لا أرى إلا صباحا :: شربت بوجهه مرح الخيول
عتاق الخيل أو طرب العوالي :: من العقبان في جو هطيل
غداة تشب في ظمأ اشتياقي :: بذاكرة من الماء الزلول
شموس هواي في عقلي وروحي :: وكنت أخون من طرف كليل
حثوث من الضحى في وجه عقلي :: فكدت أضل من ألق السبيل
وراحت بي رياح الشمس حتى :: تألق في روائحها قفولي
فما شمس بآفلة ولكن :: شروق الشمس من ضحك الأفول
ولم أسمع ولم أبصر، ولكن :: بصرت بما سمعت من الحصول
ترى الأيام تصقل ما أشاعت :: بذات القلب من قال وقيل
فينطق من سناه دمي بما لا :: أحس وإن تذكرني ذهول
وإن أمسيت مما كدت أمسي :: وحيد عشية الزمن القتيل
فقد أشربت في قلبي رحيلا :: بما أدمنت ذاكرة الرحيل
أهل بشجوها مما عفتني :: رياح حومل فالدخول
أنلت الوقت أم قد نال مني :: دم الياقوت من ولع الأصيل.
*الأستاذ زين العابدين محمد العباس*