ظاهرة تتبع عورات المسلمين وتلمُّس عثراتهم هي من الظواهر السيئة السائرة بين الناس مسير الشمس في رائعة النهار،
وقد تداعى إليها طلبة العلم هذه الأيام كما تداعى الأكَلة على قصْعتها واستَبْهَروا بها ، متذرِّعين بكشف تعالم المتعالمين وزيْف المُبْطلين.
ولا شك أن حِياطة الدين هي مِن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظُ الدين أولى من حفظ عِرْض المسلم إذا ازدحما وتضايقا وتكافآ في الرتبة. قال في المراقي:
" دينٌ ونفسٌ ثم عقل نسبُ/ مالٌ إلى ضرورة تنتسبُ
ورتِّبنْ ولتعطِفنْ مساويا / عِرْضا على المال تكنْ موافيا".
لكنّ كثيرا من الناس يغلطون في هذه الأبواب، فيستبيحون أعراض إخوانهم بأدنى شُبهة غير لاوِين على رُؤْبة، متوسِّلين بإقامة دعائم الدين والنصيحة للمسلمين.
ألا فلْيُعْلم أولا أن هنالك فرقا بين المطلوب طلب وسائل، والمطلوب طلب مقاصد، فإن النحو والبيان والبديع، بل وكل اللغة من حيث هي خادمٌ للشريعة وقائمة بأعبائها مطلوبة طلب وسائل لا طلب مقاصد. أما حماية عِرض المسلم وصيانته فمطلوب كل ذلك بالقصد، والتحريمُ فيه مغلظ كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مِن حديث أبي بكرة وابن عمر وابن عباس وغيرهم، فلا بد من الوَثيقة في استحلال عِرض المسلم، وإلا دخل هذا في حد الظلم الذي جاء تحريمه في هذه الشِّرْعة الغراء مجيئا متواترا، والسبُّ- ويشمل في لسان القوم إلحاق النقيصة والعابِ بالمرء- مِن أشنعه وهو من الكبائر، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم فسوقا، ورتَّب عز وجل دَرَكَات المعاصي فقال: "وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان" فبدأ بالأعظم ثم ثنّى بالكبائر.
هذا من وجه،
ومِن آخر : مراتب مباحث تلك العلوم متفاوتة: فمنها الأركان، والتي ليس لتلك العلوم قيامٌ إلا بها، وما سوى ذلك متفاوت في الرتبة حتى يكاد يكون بعضه كالفضَلات المُستغنى عنها، وبعضه من المُحسِّنات والمُتممات، فليُتنبّه لهذا.
ثم لو سُلِّم في صورةٍ ما -وكلامي ههنا عام- ولوج المسائل التي قد يُخَلّ بها في باب الضروري والركنِ من تلك العلوم، فليُعلم أنه ليس هنالك تلازم بين الاستحضار والمعرفة، خصوصا استحضار الشواهد، وأدلة القواعد ونحو ذلك.
- وقال وكيع: " لقيت يونس بن يزيد الأيلي فذاكرته بأحاديث الزهري المعروفة، فجهدت أن يقيم لي حديثا فما أقامه"
قلت : ويونس في الطبقة العليا من أصحاب ابن شهاب، بل قد قال أحمد بن صالح المصري- أعلم الناس بحديث الزهري هو والذهلي- : " نحن لا نقدم على يونس في الزهري أحدا" .
وقال أحمد بن حنبل : " يونس يأتي بألفاظ الأخبار، صاحب كتاب، وكان معمر يحدث حفظا فيُحرف...".
- وجهِل عيسى بن عمر -إمام النحاة وشيخ الخليل- جواز رفع ما بعد " إلا" في مثل قولهم: " ليس الطيب إلا المسك" حتى قال له أبو عمرو ابن العلاء: " نمت وأدلج الناس، ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع".
- وجهّل ابن حزم رحمه الله- على سَعة حفظه- الترمذي، وأبا القاسم البغوي، وإسماعيل بن محمد الصفار، وأبا العباس الأصم. وكلهم ثقات أئمة مشهورون.
-وقال تلميذه الحميدي المَيُورْقي رحمه الله: " ماراجعت الخطيب في شيء إلا وأحالني على الكتاب، وقال حتى أكشفه".
-وسئل أبو الغنائم النَّرْسِي عن الخطيب، فقال: "جبل لا يسأل عن مثله، مارأينا مثله، وما سألته عن شيء فأجاب في الحال، إلا يرجع إلى كتابه".
قلتُ : وكان تحت قبة الفلك مثل الخطيب البغدادي؟ وأين يقع ابن ماكولا منه؟ وحملُ الحكاية على إرادة التثبت في كل شيء كما استظهره الذهبي رحمه الله قلِق ؛ لأن المقام مقام بيان تفضيل حفظ ابن ماكولا على شيخه الخطيب، وإن سُلِّم احتمالا، فالقول في غير الخطيب ممن عُرف بالعلم كالقول في الخطيب نفسه، وما يُدرينا؟ فلعل من أحجم أراد أن يتثبت.
-وسئل الحافظ الأوحد شرف الدين الدِّمْياطي عن تاريخ وفاة البخاري فتلعثم وكان أحفظ الناس- قال الحافظ المزي: "ما رأيت في الحديث أحفظ من الدِّمْياطي".
قلت: وتاريخ وفاة محمد بَدَهي، ولو تلعثم فيه طالب حديث اليوم لاستُهجن ذلك، ولاعتُدّ عليه به.
-وكان أبو عامرالعَبْدَري الظاهري أحفظ الناس-صرح ابن عساكر في تاريخه أنه لم يلق أحفظ منه - وكان في لسانه رحمه الله بعض الرَهَق، فمَرَّ في ذكر الكامل لابن عدي قوله: "وقال السعدي"... فقال "يكذِب ابن عدي، إنما ذا قول إبراهيم الجُوزجاني" فرد عليه ابن عساكر بأنه هو هو بعينه.
قلت: وهذا من فاحش الوهم والغلط.
-وكتب البدر الزركشي بخط يده عن سورة النساء "وقد افتتحت بالوضوء..."، وشنع عليه ابن حجر.
- ونص مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح على سماع ابن حنبل من شريك النَّخَعي، وذا من فاحش الوهم وشديدِه عند أصحابنا.
والأمثلة من هذا النمط والنحو تكثر، والغرضُ هو بيان عدم تلازم الحفظ والمعرفة وانفكاكهما -والضبط ضبطان: ضبط صدر، وضبط كتاب- ، وكذلك صدور الوهَم الفاحش من الحافظ والعارف أحيانا.
وضابط المسألة هو: أن كل من عُرف بالعلم وشُهد له به احتُمل خطؤه في سَعة صوابه فعُطف عليه، والماءُ إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، أما من لم يُعرف منه العلم فلا يُقطع بجهله كذلك وإن وهم فأفحش إلا أن يتواتر منه ذلك ويُعرف، لكن إن تعدى فجنى وقَفا ما لا علم له به حَرِج وكان بابُ التثريب عليه آنها أوسعَ، ولو سكت من لا يعلم لذهب كثير من الاختلاف، على أن الخطأ الواقع من العالم والجاهل يُبيّن أنّى تصرّف وحيثما تحرّف، ولكن بضوابطَ ومع النظر في المصالح والمفاسد.
وقال ابن المسيِّب رحمه الله: " ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وُهب نقصه لفضله". وإنما ذا في الاسترسال والاستبهار بالاعتداد على العالم بخطأ ما.
هذا وقد نبه الإمام ابن قتيبة رحمه الله إلى مسألة مهمة - وهي مراعاة التخصص- حين تقلّد الجواب عن الطعن على المحدثين بالتصحيف وقِلّة الفقه: " وأما طعنهم عليهم بقلة المعرفة لما يحملون وكثرة اللحن والتصحيف فإن الناس لا يتساوون جميعا في المعرفة والفضل، وليس صنْفٌ من الناس إلا وله حشْو وشوْب، فأين هذا العائب لهم عن الزهري أعلم الناس بكل فن، وحماد بن سلمة، ومالك بن أنس، وابن عون، وأيوب، ويونس بن عبيد، وسليمان التيمي، وسفيان الثوري، ويحيى ابن سعيد، وابن جريج والأوزاعي، وشعبة، وعبد الله بن المبارك وأمثال هؤلاء من المتقنين، على أن المنفرد بفن من الفنون لا يعاب بالزلل في غيره، وليس على المحدث عيب أن يزِل في الإعراب ولا على الفقيه أن يزِل في الشعر، وإنما يجب على كل ذي علم أن يُتقن فنه إذا احتاج الناس إليه فيه وانعقدت له الرئاسة به، وقد يجتمع للواحد علوم كثيرة، واللهُ يؤتى الفضل من يشاء وقد قيل لأبي حنيفة وكان في الفتيا ولُطف النظر واحدَ زمانه ما تقول في رجل تناول صخرة فضرب بها رأس رجل فقتله أتُقِيده به؟ فقال: لا، ولو رماه بأبا قبيس، وكان بشر المريسي يقول لجلسائه: قضى الله لكم الحوائج، على أحسن الأمور ، وأهنؤها".
قلت: في تلحين النعمان بهذا الحرف بحث، وإنما اجتلبنا كلام القُتَبي للدلالة على صحة المعنى الذي ذهب إليه، وكان إبراهيم النخعي لُحَنة، و كذلك كان نافع مولى ابن عمر، و إسماعيل بن أبي خالد، والقاضي إياس بن معاوية، وربما لحن مالك وشيخه ربيعة رحمهم الله جميعا؛ وقُلْ مثل ذلك في وكيع ، وكان الفراء يلحن إذا جرى على سجيته، وكذلك الحافظ الشاعر الفقيه المالكي المتفنن محمد بن الحارث الخُشَني، وكان أبو عبيدة معمر بن المُثنى- على علمه باللسان- يخطئ في القرآن ويصحف، ولا يُقيم الشعر ويكسر الوزن، وكان حماد الراوية على بصَره بالشعر واللغة يلحن ويكسر الوزن، وقد حاول الأصمعي تعلم العروض فاستعجم عليه واستطاعه فلم يطعه، وكان ثعلب يلحن ، وكان هشام النحوي يلحن، وربما لحن الكسائي في تلاوته، وكأن بعض ذلك سبق لسان حسْب، وقرأ الحافظ عثمان بن أبي شيبة" جعل السقاية في رجل أخيه" فروجع فقال: تحت الجيم واحدة"!
وقرأ كذلك: " فضرب بينهم بسِنّور له ناب" ! وقرأ كذلك: " وإذا بِطاسيم بِطاسيمٌ خبّازين" يريد قوله تعالى: " وإذا بطشتم بطشتم جبارين" ، وقرأ" فإن لم يصبها وابل فظل"! ، وقرأ: " الخوارج مكلبين" ، وقرأ الحافظ الباغندي: " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هُويا" ،
وقرأ إمام النظار ورأس الأصوليين الصَّفِي الهندي ( المص) فقال ( المَصُّ)، وقد قدّموه لمناظرة ابن تيمية إذْ كان أقعد الجماعة بالأصول.
وكتب ابن العربي المالكي الفقيه- وقد قارب الاجتهاد- بخط يده ياء الإطلاق المزيدة بعد حرف الرّوي للترنم!!!
وأنشد المُفَضَّل الضبي: " أفاطم إني هالك فتبيّني / ولا تجزعي كل النساء يتيم" فصحف ثم آل إلى زعم وصف المرأة باليُتم إذا هلك عنها زوجها ، وإنما الحرف ( يئيم) ،
وقال أبو حاتم السجستاني: " كان المفضل بن محمد الضبي لا يحسن معنى بيت ولا يضبطه" .
وما أوفر عقل أبي عبيد القاسم بن سلّام حيث جاز دار إسحاق الموصلي، فقال: " ما أكثر علمه بالحديث والفقه والشعر، مع عنايته بالعلوم! فقلت: " إنه يذكرك بضد هذا . قال: وما ذاك؟ قلت: ذكر أنك صحّفت في المصنف- يريد الغريب- نيِّفا وعشرين حرفا. فقال: " ما هذا بكثير، في الكتاب عشرة آلاف حرف مسموعة، فغلط فيها بهذا ليسير، لعلي لو نوظرت لاحتججت فيها. ولم يذكر إسحاق إلا بخير" .
ولحن الحجاج الثقفي-وكان أفصح الناس إذا حاشينا الحسن البصري- في القرآن. فرفع خبر كان في قوله تعالى " أحبّ إليكم من الله ورسوله" .
والمُثُل على هذا المعنى أكثر من أن يعدها عادٌّ أو يحصرها حاصر، وإنما هذا تحقيق قوله تعالى: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، والإنسان مُتَّزر بالجهل عامد إلى السهو والغلط. " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا".
فعلى الناظر في خطأ عالم ما، أو منتسب لعلم أن يزِن مرتبة ذلك العلم في الشريعة، ويتبصَّر جنس الوهَم، ثم يقدر وجه الفساد الذي أدخله ذلك المتكلم بتلك المسألة في شرع الله ويذرعه، فإذا ترقّى في هاتي المدارج تَصدّى بعدُ للموازنة بين مصلحة التشهير بغريمه ومفسدته، وذا باب عسِر ربما الْتاث على أكابرَ فجَمَح بهم، والأصل في النصيحة الإسرار إلا إن رجحت مصلحة الإعلان بها فيُنتحل حينئذ، ومن شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألا يؤدي ذلك لمفسدة أكبر كما قرر ذلك غير واحد من أهل العلم.
كما أن على المتصدي للخوض في تزكية الناس وتدْسِيتهم أن يجمع شروطا لأنه في معنى الشاهد:
1- العدالة في الدين بالسَّتر الجميل وألا يكون ممن حُفظت عليه رِيبة.
2- العلم بمعنى مايشهد عليه، فلا يحل لمن لم يتبوأ الصدارة في فن أو علم أن يخوض في مراتب أهله ومنازلهم فيه. ولله ورع ابن حزم الأندلسي حيث يقول في مقارنة عقدها بين مصنفات أهل الأندلس وأهل المشرق، وكان احتاج لإظهار فضل أهل ناحيته: " وأما العدد والهندسة، فلم يُقْسَم لنا في هذا العلم نفاذٌ ولا تحقّقنا به، فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المُحْسن من المُقَصِّر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا".
قلت: بل ربما تحقق المرء بفن ثم عسُر عليه بعدُ الفصلُ بين أصحابه لتَشاكُه وتشابه بعض فروعه.
وقد اجتمع المُبَرِّد وثعلب عند إسماعيل القاضي فتكالما في مسألة فطال بينهما الكلام، فقال المبرد لثعلب: " قد رضينا بالقاضي" ، فسألاه الحكومة بينهما، فقال لهما: " تكالما"، فقال القاضي: " لا يسعني الحكم بينكما؛ لأنكما قد خرجتما إلى ما لا أعلم".
قلت: وإسماعيل إسماعيل، أَسْمِعْ به وأبصِرْ يوم تُدار كاسات العلم واللغة والفقه، وكان المبرد يقدمه على نفسه ويهابه، وهو أجل مالكية بغداد بلا ثنيا، وأول من بسط حُجج المذهب وأنْهج من عيون الحِجَاج كل مُذْهَب.
3- العلم بأسباب الجرح وسُبُله، والقادح منها وغير القادح، وقد تقحّم هذه الهُوّة جماعة من المحدثين النبلاء- ممن جاوز القَصْد فجرح بما ليس بجارح، بل وتجاوز لأوصاف بعض الرواة الخَلْقية- ونزل هذه الحَمْأة بعض المتكلمين في العقائد فليسألنّهم الله عن ذلك.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله في قول أجاد في مثله: "واختلف الناس في العقائد والمذاهب جزيلا طويلا، وأرتع بعضهم في أعراض بعض مرتعا وبيلا، وسدّد في الطعن إليه من السهام ما لا ترده دروع الزجر ولا الملام، وبثّ في الأرض داهية يحق أن يقال لها صَمِّي صَمام " إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" .
وما أحسن قوله الآخر الذي تلوح منه مخايل الإخلاصْ، ويُغْدِف على أعراض المسلمين كلَّ سابغة دِلاصْ : " أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام".
4- الورع الثخين؛ حتى لا يحْملَه المذهب على الطعن في العدول أو غمْصِ الناس.
5- انتفاء الخصومة، أو القرابة الشديدة والصحبة الأكيدة، لأن ذلك مظنة الحيْف والجَنَف في الحكم، ورُبّ مظنة علة أقيمت مقامها وأجريت مُجراها كما في السفر الذي هو مظنة المشقة.
وقال تعالى: " ممن ترضون من الشهداء" فردّهم لرضاهم وفَسَح لهم في الاجتهاد في العدالة وأسبابها؛ فمِن أجل ذلك ما عدّوا كلَّ خارم للمروءة مانعا من العدالة، وكلَّ عداوة بيّنة مانعة من الشهادة.
ولقد كان باب التزكية والتعديل ، والناسُ متوافرون والعلم غضٌ نضير مُوصَدا لا يلِجه إلا نفرٌ قليل مِن أمثال ابن سيرين وشعبة والقطان وابن مهدي، وابن المديني وأحمد ، وابن معين، والبخاري ، وأبي حاتم، وأبي زرعة الرازيين.. وكانت الحاجة إلى ذلك ماسة للقيام بأعباء الرواية والنظر في أوهام الرواة وأحوالهم، أما اليوم وقد تصَرَّمت الحاجة إلى ذلك إلا أقلها، وانقطع باب التجريح المؤثر في المرويات ، وتناقص العلم وقلّ الورع، فما على المرء ما فاته من ثلْب أعراض الناس إلا ماكانت مصلحة الدين فيه راجحةً بيِّنةً ظاهرةً.
ومع ثبوت المصلحة في جرح الرواة في القرون المزكاة إلا أننا نجد من ورع المحدثين ما يعز نظيره ويقل شبيهه.
وقال ابن معين رحمه الله- وهو من المتشددين عندهم- : " أخطأ عفان- وكان أثبت الناس- في نيّف وعشرين حديثا، ما أعلمت بها أحد، وأعلمته فيما بيني وبينه،
ولقد طلب إلي خلف بن سالم، فقال: قل لي أي شيء هي؟ فما قلت له: وكان يحب أن يجِد عليه" ثم قال يحيى : "ما رأيت على رجل قط خطأ إلا سترته وأحببت أن أُزيِّن أمره، وما استقبلت رجلا في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أُبَيِّن له خطأه فيما بيني وبينه، فإن قبل ذلك، وإلا تركته" .
وكان ابن المديني يترُك من قول شيخه يحيى القطان لتشدُّده، وقال: " عفان وأبو نعيم لا أقبل قولهما في الرجال، لا يدعون أحدا إلا وقعوا فيه".
وكان أكثر كلام البخاري في الجرح حكاية قول من تقدمه، أو مذهبهم ( سكتوا عنه) وهذا منه رحمه الله غاية في الورع واستبراء له.
هذا وليس يفوتني في مثل هذا المقام أن أُثْبِت قولي: " إن أكثر توسع الناس في باب الجرح كان في باب الرواة للحاجة المُلحة لذلك، وقد نال العقائدَ من ذلك قِطٌّ وافر، هذان أعظم بابين دخلهما التجريح والتعديل قِدْما، والمصلحةُ الدينية فيهما ظاهرة، وقد سُدَّ عُظْم الباب الأول بانقطاع التفرد بالرواية الناشزة عن الكتب والمصنفات على رأس الأربعمائة، وقد حدد هذا التأريخ ابن المرابط الغَرْناطي الحافظ( ت 752) - وفي إتقانه كلام- فقال: " وقد دُوّنت الأخبار، ومابقي للتجريح فائدة، بل انقطع على رأس الأربعمائة" - ومع ذلك حطّ هو على الذهبي، والمعاصرة حجاب فرحمهما الله جميعا-، ووشى بقريب من هذا كلام البيهقي رحمه الله ( ت 458): " ...فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم، لم يقبل منه، ومن جاء بحديث هو معروف عندهم، فالذي يرويه اليوم لا ينفرد بروايته، والحجّةُ قائمة بحديثه برواية غيره..." ،
وقال الذهبي رحمه الله في فاتحة الميزان: " ثم من المعلوم أنه لا بد من صون الراوي وسَتره، فالحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو رأس سنة ثلاثمائة، ولو فتحت على نفسي تليين هذا الباب لما سلم إلا القليل، إذ الأكثرون لا يدرون مايروون، ولا يعرفون هذا الشأن، إنما سمعوا في الصغر، واحتيج إلى علو سندهم في الكبر، فالعمدة على من قرأ لهم، وعلى من أثبت طِباق السماع لهم ..." .
وقال ابن دقيق العيد : " إذا لم يضطر إلى القدح فيه للرواية لم يجز"، وتعقبه السخاوي رحمهما الله، وكان سرَد قبل ذلك أسماء المنتصبين للتجريح والتعديل في كل عصر، وقبله ما سردهم الذهبي.
والذي يتحرر أن هذا الباب قد ضاق جدا، والمدارُ فعلى المصلحة المُجتلَبة والمفسدة المدفوعة. فإذا قام المُقتضِي وربا على المانع - وهو ههنا قوي لتغليظ التحريم- ، جاز الجرح وإلا رجعنا لأصل التحريم. وإنما يُستثى من المحرمات بقدر الضرورة فإذا زالت رجعنا للأصل: " وقد فصل لكم ماحرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه".
والأصل الاحتياط لأعراض الناس لأن حرمتها متيقنة فلا يُزال عن الأصل إلا بحجة بيّنة وبرهان جلي قاهر ، ولسنا متعبَّدِين بتقريرات بعض المتأخرين وعدِّهم المواطن التي تجوز فيها الغيبة إلا أن يكون إجماعٌ، وإنما حرْفُ المسألة عندنا هو ما تلوناه آنفا، والله المستعان.
وأعود فأقول: بعد الإلماح لثبوت الفرق بين المطلوب طلب وسائل، والمطلوب طلب مقاصد، يجدر بنا أن نشفع ذلك بالتنبيه على أن تَعَلُّم ماسوى فرض العين من العلم هو من باب الكفائي فحسب.
قال جل وتقدس : " وما كان المؤمنون لينفروا كافة" الآية، وعليه فالإنْحاء باللائمة على العاطل منه، والإزراء عليه بذلك ضيِّقٌ. أما الإمساك عن عرض المسلم وهتك سِتْرٍ أسبله الله عليه، ففيه من الإثم والمَغْرم ما قد تقرر واستفاض.
وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان...".
وقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره: " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".
فعلى المرء أن ينتهي عما نهى الله عنه، وأن يقف عند حدوده وألا يستبيح مِن عِرض أخيه إلا ما أباحته الشريعة يقينا أو ظنًّا شبيها بيقين.
فإذا زال عن تَيْن المنزلتين فالإحجام به أولى، فإنّ يَقينَ حرمة عِرض أخيه لا يُزيله شك طارئ في إباحته، ثم إن باب النواهي أضيق من باب الأوامر، ويُقدم الأول على الثاني حين التضايق والتوارد. قال في المراقي: " وناقلٌ ومُثْبِتٌ والآمرُ/ بعد النواهي ...".
ومما يتعين النظر فيه قبل الدّلَف للتشهير بالمسلم إمكان الجمع بين اجتلاب المصلحة ودرء المفسدة - مصلحة بيان الحق، ومفسدة الخوض في عرض المسلم- بالنُّصح سرا ، فإذا صح ذلك بوجه ما لم تجُز - والله تعالى أعلم- مجاوزته إلا إن تَعلّق بالإسرار بالنصح مفاسد أخرى عظيمة كأن تكون مفسدة الخطأ التي صدع بها المخطئ أمام الناس غير منضبطة، وليس يمكن تلافي مغبّتها إلا بالصدع بوجه الدّرْك على العاثر.
كما أن أغلب الصور التي يتداولها طلاب العلم في الاعتراض على خطأ المخطئين وكشف عوارهم ، زعما منهم أنها من باب حماية بيضة الشريعة وأن الإخلال بالنصح فيها مستلزم للإخلال بأصل ضروري هي عند التحقيق من باب الحاجي أو التحسيني أحيانا، ولا يتنافى هذا مع الوجوب -مع أن بعض تلك الصور لا يرقى لمرتبةالمنكر أصلا-، وما يتجاوز ذلك لا يكاد يكون إلا مكملا لضروري، وليس للمكَمِّل حكم المكمَّل مِن كل وجه، وتلوح منزلته عند التعارض مع أصلِ ضروري آخر. وقد بسطنا هذا المعنى وغيره في كتابنا "مختصر الوضْع والزَّمَع في نازلة الجُمَع" يسَّر الله طبعه ونشره بمنِّه وكرمه.
كما أنبه ههنا إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من فروض الكفايات، وحدُّها كما رسمه ابن دقيق العيد رحمه الله: " القانون في معرفة فرض الكفاية: أن ما كان المقصود منه تحصيل المصلحة منه، أو دفع المفسدة، ولم يتعلق المقصود بأعيان الفاعلين وامتحانهم، فهو فرض كفاية، وما لم يظهر فيه ذلك، واقتضى الخطاب فيه العموم، فهو فرض عين، إلا لمعارض خارج يُخرج اللفظ عن عمومه" .
وقال في موطن آخر: " ... لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي العموم بالنسبة إلى المخاطبين، وذلك لما مر في المسألة الثانية عشرة من قانون فرض الكفاية" . وهذا يُبين وجوب التأني في تناول عرض المسلم.
كما أنبه إلى أنه لا ينبغي للعامي الحِسبة في غير الجلِيَّات المعلومات كشرب الخمر و الزنا ... لأنه قد يرى الحق باطلا والباطل حقا، وليس يعلم مواطن الاجتهاد ولا له درْكٌ لمنازله.
كما أن ما يؤدي إلى التنفير من الشريعة مطلوب الترك وإن كان ظاهره بِرا، وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما أطال في صلاته: " أفتّان أنت يا معاذ؟" وخطب صلى الله عليه وسلم مغضبا فقال: " إن منكم مُنَفِّرين، فأيكم صلى بالناس فليتجوز" .
وقال تعالى : " فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، وهذه كلها منازل تعترض الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فينبغي له أولا الجزم بأن هذا منكر، ثم بعد ذلك رجاء زواله بالإنكار ويتأكد ذلك إذا خشي مفسدة ولم يرجُ مصلحة، ويشتد التأكيد إذا كان في تغييره مفسدةٌ عظيمة ككبيرة سباب المسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه في الصحيحين: " ولعن المؤمن كقتله" . ولا يقولنّ قائل إن اللعن هو قولي للمرء: "لعنك الله"، بل الشتم والسب عند أهل اللسان لعنٌ. وهذا وعيد شديد، بل قد يحرك بحث لهذا الحديث في اندراج حفظ عرض المسلم في حفظ النفس.
كما أن العيني والكفائي ههنا قد تواردا- في الظاهر- على محل:
والنهي عن سب المسلم والأمر بالكف عن عرضه واجب متعلق بأعيان المكلفين، بينما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب متعلق بجماعتهم . كما أن الأول متحقق متيقن، والثاني غير منضبط بضابط معين، وما كان هذا حاله ظهر فيه التأخير -فالمعلوم يقدّم على المجهول- ، إلا أن يكون القدر الذي يراد إنكاره مما ربت مفسدته جدا وقطعنا أو قاربنا القطع بأن الشارع قد قدمه في تلك الصورة على حق المنكَر عليه.
ومما ينبغي ملاحظته كذلك حين الإقدام على الجرح أن الشارع قد قطع كل ذريعة للتباغض والتدابر، والراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، فلا مناص من القطع أو مما يقاربه عند نزول هاتي المنزلة.
ولا شك أن تسريح الطرف في باب المفاسد والمصالح ووزن جميع ذلك عسِر شديد، فلا جرم قال ابن دقيق العيد رحمه الله عقب مسألة : "هذا كله بعد العلم بأنه لا بد من مراعاة الموازنة بين المصالح والمفاسد، وفي أمثال هذه الأمور يتسع المجال، ويحتاج الناظر إلى علم كثير بالمواد الشرعية، وذهن ثاقب، وورع شديد، والله الموفِّق. قال: لا تحسب المجد تمرا أنت آكله/ لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبِرا"
ولا يسعني قبل أن أفصل عنكم إلا التنبيه للَغَط و غلط كثير من طلاب العلم اليوم في تَقَصُّدهم المشايخ وتعمُّدهم بالابتلاء بطرح الأغلوطات، واجتلاب المسائل النادرة، والاستثناءات الخادِرة، وربما رنَا بعضهم لمعرفة حفظ الشيخ وقوة استحضاره ، ويحتجّون على ذلك بأن هذا هو سنة السلف وهاتيك أفعالهم، وليس ما احتجوا به من ذلك بحجة، ولا سلكوا بفعلهم هذا واضح المَحَجّة، وإنما عمل من عمل من السلف هذا الفعل حين ربُوّ المصلحة المرجوة -في نظره-على المفسدة الناجزة والمتوقعة، ثم هو بعد ذلك اجتهاد ممن له أهلية، ضدَّ فعل أكثر الطلبة ممن لم يدْر ما سائرٌ من مائر، ولا عرف قبيلا مِن دبير، وهل يقاس حماد بن سلمة حين قلَب على ثابتٍ البُناني أحاديث ابتغاءَ معرفة حفظه بغيره؟ أم هل يستوي ابن معين مع هذه الناشئة حيث أدخل أحاديث على أبي نعيم الفضل ابن دكين؟ أم هل يجري هؤلاء الطلبة في حلبة مع علماء بغداد في ابتلائهم للبخاري؟ وأنّى لهؤلاء الرُّقِيُّ لمنزلة الحافظ البارع مسلمة بن قاسم حين ابتلى العُقَيلي ليَمِيز حفظه؟
فبالله عليكم أقصروا وتَحَوَّبوا ثم توبوا وتعلموا، واشتغلوا بما ينفعكم، وتجافوا عما يضركم. ولله ما أندى قول الذهبي رحمه الله: " فمن طلب العلم للعمل كسَره العلم، وبكى على نفسه، ومن طلب العلم للمدارس والإفتاء والفخر والرياء، تحامق، واختال، وازدرى بالناس، وأهلكه العُجْب، ومقتته الأنفس" قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " أي دَسَّسها بالمعصية".
وللعلم فإن المجاوزة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد تُدخل صاحبَها في باب الاغتياب المحرّم والظلم، حتى مع صحة الأصل، فاللهم غُفرًا، وتلك منازل عسِرة الضبط ويكتنفها الهوى والشيطان، مع عَذر الناسي والمخطئ والمجتهد المتأهل، وإنما الأعمال بالنيات، والموعدُ الميزان: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين".
وقال الشوكاني رحمه الله: " فإن الغيبة قبيحة إذا كانت بفلتات اللسان التي لا تُحفظ ولا يبقى أثرها بل تنسى في ساعتها، فكيف بها إذا حُرِّرت بالأقلام وبقيت أعواما، ولا سيما إذا لم يتعلق بها غرض الجرح والتعديل، فإنها من حصايد الألسنة التي تكب صاحبها على منخره في نار جهنم نسأل الله السلامة".
هذا آخر ما أردت مِن البيان وسعيت إليه من التبيان، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله.