حقوق الإنسان بين التراث والممارسة

تعيش الولايات المتحدة الأمريكية منذ أسبوعين على وقع حراك واسع وعنيف من أجل المطالبة بالعدالة الاجتماعية ووقف الممارسات العنصرية، وخاصة في حق الأفارقة الأمريكيين. وتأتي هذه المظاهرات، التي فجّرها قتل "جورج افلويد" ظلماً على يد شرطة مينيسوتا، كاستمرار قوي لحراك متزايد ضد عنف الشرطة شهدته الساحة الأمريكية خلال العقد الأخير. وفيما أبانت ردة الفعل على هذه الحادثة، من جهة، رفضاً كبيراً للظلم والعنصرية من قبل فئات عريضة في أمريكا والدول الغربية، فإنها أبانت من جهة ثانية صوّراً من رسوخ ممارسات التمييز والعنصرية لم يتوقع آخرون وجودها في "دولة قانون" كالولايات المتحدة، ولا في مجتمعات غربية هي منطلق التنوير وتقديم الدروس لبقية العالم في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان. 

 

وقد رافقت هذا الحراك نقاشات ومناكفات افتراضية حول التنوير، وحقوق الإنسان، وثنائية الشرق والغرب، لم تخل أحيانا من تسطيح وتبسيط لصورة مركبة تستدعي بعض التعليق والاستدراك. 

 

الولايات المتحدة والعبودية 

أثناء نقاش سابق مع أحد الحقوقيين الموريتانيين الذين يزورون الولايات المتحدة بشكل متكرر، قلت له إن النموذج الأمريكي، في مجال القطيعة مع العبودية والقضاء على مخلّفاتها، "ليس أول مثال تُبتغى منه الإفادة. بل هو كنموذج يستحضره المحافظون واليمينيّون لتطبيع الظلم والتهميش والتنميط الثقافي أقرب منه إلى مصدر الإلهام والاتّباع الذي يُبرزه أنصار العدالة." فالولايات المتحدة رغم إعلان تحرير العبيد "Emancipation Proclamation" في ستينيات القرن التاسع عشر، لا يزال خطر القتل فيها بين يدي الشرطة يقارب ثلاثة أضعاف بالنسبة للسود مقارنة بالبيض، ولا تزال نسبة الأفارقة الآمريكيين من الشباب في السجون تفوق نسبتهم في الجامعات بثلاثة أضعاف، حسب تقرير لآسوشيتد برس 2007. 

 

هذا بالإضافة إلى التفاوت المريع في مجال امتلاك الثروة وتقلّد المناصب العليا. حتى إن القضاء، الذي يعدّ المؤسسة الأكثر استقلالية في الغرب، تعاني أحكامه فيها من التمييز العنصري؛ حيث يكون الأسود في المعدل عرضة لضعف محكوميّة الأبيض الذي يقوم مثله بنفس المخالفة ويكون لهما نفس السّجل القضائي. فعلى الرغم من كون الرجال السود يشكلون نسبة 6 بالمئة من الأمريكيين، فإنهم يشكلون 35 بالمئة من نزلاء السجون، حسب دراسة لجامعة متشغن سنة 2014. 

 

مع ذلك، فرفض العبودية ومناهضة التمييز العنصري قيمة إنسانية عميقة داخل المجتمع الأمريكي، وربما يكون البيض الأمريكيون هم الفئة الوحيدة في العالم التي قامت بين أطرافها حرب أهلية طاحنة، راح ضحيّتها أكثر من نصف مليون قتيل، لأسباب من أهمها تحرير العبيد. فالنضال ضد العبودية في أمريكا يقوده "تيار أبيض" منذ منتصف القرن التاسع عشر رغم الدّور القيادي للنشطاء السود. وقد كان لذلك دور أساسي في سلمية خطاب قادة الحركة الحقوقية المدنية، رغم عنف أتباعها وتأثّرهم بنضالات الثورة الهايتيّة. 

 

كما كان له دور آخر أهم في إبقاء الهوية السياسية للمستعبَدين السابقين في عمومها هويّة أمريكية محلّية مسيحيّة، منسجمة مع خيارات "الآباء المؤسِّسين" لبنية الدّولة ونظامها السياسي. فقد مات جورج واشنطن وعنده المئات من العبيد، لا تزال لائحة أسمائهم موجودة في الأرشيف الأمريكي، وكان الرئيس جون آدمز من أباطرة هذه الممارسة، وظل يشتري العبيد حتى أثناء حكمه، وأهدى ما يزيد على 50 عبداً لاثنتيْن من بناته عند زواجهما، ومع ذلك لا يمكن أن تجد ذكراً لهذه المعلومات خارج إطار البحث والدّراسة، على عكس ما يحصل مع التاريخ الاستعبادي في العديد من البلدان المشابهة. فلا يمكن الآن لأي حقوقي أمريكي جاد أن يتجرأ على الإساءة لرئيس مؤسِّس، مثل هؤلاء أو غيرهم، ولا أن يطعن في عدالة القوانين التي صاغوها بحجة عدم تشوّفهم للحرّية والمساواة. 

 

وباختصار، هناك وعي وإيمان راسخان لدى الأمريكيين بأهمية تجاوز ممارسات الاستعباد والتمييز والعنصرية. ولكن الفئة الأكثر يمينيّة في المجتمع ("الرجال البيض" بشكل خاص، الذين يسيطرون على الحياة الاقتصادية والسياسية والدينية) بقيّت عصيّة على التّرويض، حتى من قبل الرؤساء الأكثر شعبية وتقدّمية. وظلت أمريكا "تضع ركبتها على رقبة" مواطنيها من السود إلى اليوم، على حد تعبير الناشط الأفريقي-الأمريكي آل شاربتون. 

 

التنوير وحقوق الإنسان

أما في ما يتعلّق بقيم عصر الأنوار وثقافة حقوق الإنسان في الفلسفة الغربيّة، فمن المعروف لكل الدّارسين أن واضعيها في الغالب كانوا يستهدفون بها "فئات اجتماعية خاصّة"، ولَم يُنظّروا لها كقيم إنسانيّة يستحقها الجميع. 

 

فلم يرَ رائد البيولوجيا تشارلز داروين وحده أن العرق الأوروبي الأبيض "أرقى تطوّرا" من بقية الأمم فحسب، بل كانت تلك نظرة راسخة لدى العديد من كبار الفلاسفة والمنظرين الأوروبيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فقد وصف هيغل الإنسان الزنجي بأنه إنسان بدائي، واعتبر إفريقيا "غير ذات أهمية (irrelevant) للتاريخ الإنساني"، وكان إيمانويل كانت يرى أن "التطور الإنساني وصل قمّته في العرق الأبيض"، فيما رأى ديفد هوم "David Hume" أن "الزنوج وغيرهم من أصناف الأمم... بطبيعتهم أدنى منزلة من العرق الأبيض." والأمثلة في هذا الباب كثيرة. بل إن تراث بول دي لغارد كان من أهم المصادر الملهمة للنازية وللتمييز العرقي في ألمانيا خلال القرن الماضي. 

 

ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن الأدب والرواية، فلم يتناول قبل جون كونراد - في بداية القرن العشرين - أي روائي غربي بارز الإرث الاستعبادي العنصري لأوروبا، ولم يتحدّث عن ممارساتها الاستعمارية حول العالم. وإن فعل، كان ذلك دعماً لتلك الممارسات باسم الحضارة وتطوير البلدان المحتلّة. كما أنه لَم يكتب تقريباً عن العبودية أي من كبار الروائيين الأمريكيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. 

 

بالمقابل، كانت الثورة والفرنسية وثقافة عصر الأنوار بداية حقيقية لعولمة حقوق الإنسان و"سياسات الكرامة". واستطاعت فئات عريضة من الشعوب الغربية نفسها أن تستغل مرونة الجانب الإيجابي من ذلك التراث النّظري للمطالبة بتعميم إنسانية مبادئ الحرية والعدالة والديموقراطية. فأصبح نفس ميثاق حقوق الإنسان الذي وقّعت عليه فرنسا أيام الاستعمار، وصادقت عليه الولايات المتحدة فترة الميز العنصري فيها، هو المرجعية العالميّة الآن لضحايا تلك الممارسات اللا إنسانية أيام توقيعه 1948. 

 

كما أصبحت عبارة إعلان الاستقلال الأمريكي 1776: "جميع الناس خُلقوا سواسيّة"، والتي قصَدت فعليا يومها الرجال البيض أصحاب الممتلكات، عنوان المساواة اليوم للحركات المطلَبية في الولايات المتحدة. وقد كان للتيار اليساري الليبرالي بشكل خاص ولتنظيمات الحقوق المدنية في الغرب دور مهم، لا ينكره إلا مكابر، في استخدام تلك المبادئ المجرّدة من أجل ترسيخ دولة القانون والحريات في الغرب، والنضال من أجل ترسيخها حول العالم. 

 

يجدر الانتباه طبعاً إلى أن هذا الدور الإيجابي للنضال الحقوقي لليسار الليبرالي كثيراً ما يتأثر بالتجاذبات والأجندات السياسية للبلدان المعنيّة بشكل لا يخلو من تناقض. ففي الوقت الذي لا يدافع محامو التيار الحقوقي في الغرب عادة عن سجناء اليمين المتطرف في بلدانهم فإنهم يتطوعون للدفاع عن المتهمين في بلداننا بالإرهاب وبالتطرّف الدِّيني. في حين أن الحركات اليسارية الحقوقية المحليّة تتجاهل الانتهاكات ضد السجناء السّلفيين مثلاً، وتتجنب النضال عن حقوقهم. بل إنها على استعداد للدفاع عن أي سجين "معارض"، حتى ولو كان مختلسا أو محتالا، ولكنها غير مستعدة للوقوف مع أولئك لنيل أبسط حقوقهم الإنسانية. وهم السجناء الوحيدون الذين تصدّق هذه المنظمات بخصوصهم "الرواية الرسمية".

 

حقوق الإنسان والمصالح السياسية 

ليس من قبيل الصّدفة أن يَقتل الملك البلجيكي السابق ليوبولد الثاني ما يقارب 10 ملايين من السود الأفارقة في مستعمرته الكونغولية (أكثر من ضحايا هتلر)، ثم يتم "محو" ذلك من الذاكرة الجمعيّة العالمية بحيث لم يعد يتحدّث عنه، ولا يعرفه، حتى المهتمون بحقوق الإنسان في القارة الإفريقية نفسها. ويخلّد هو في التاريخ البلجيكي والأوربي بالملك البنّاء "Builder King"، وتُشيّد له التماثيل الضّخمة، ولا يوجد لفظاعاته الإنسانية أي ذكر حتى في المتحف الملكي البلجيكي الخاص بإفريقيا الوسطى (حيث مستعمرته السابقة). إنه نموذج من التمييز وتقديم المصالح السياسية على المبادئ لا يزال يسيء إلى النّضال الحقوقي في الغرب، على المستوى الرسمي على الأقل. 

 

كما أن قيام الأنظمة الغربيّة الحديثة بفتح أذرعها للّاجئين والمضطهدين في العالم الثالث يقابله عدم توانيها عن دعم الاستبداد في هذه البلدان، بل وزعزعة استقرارها، لضمان منافع شركاتها ومصالحها السياسية. حتى إن الانقلاب على أيقونة اليسار الإفريقية، توماس سانكرا، صُنع على عين أول رئيس يساري يصل الحكم في تاريخ فرنسا!

 

مع ذلك يجب الاعتراف بكون العمل السياسي ربيب المصالح، وأن المكتسبات الحقيقية هي تلك التي تُنال من الداخل، لا تلك التي تُفرض من الخارج. وأن نخب مجتمعاتنا بجشعها واستبدادها هي التي فشلت حتى الآن في تحقيق دولة الحرية والعدالة والديموقراطية. حتى إن بعض أنظمتنا التي تأسست لأجل إعادة توزيع الثروة وتحقيق المساواة، لم تلبث أن انحرفت في اتجاه طريق الفساد والغبن والمحسوبية. ففي جنوب إفريقيا مثلاً، يملك الآن 10 بالمئة من أغنياء البلد - أغلبهم من السود - حوالي 90 بالمئة من إجمالي الثروة الوطنية. كأسوإ دولة في العالم من حيث توزّع الثروة بين المواطنين، حسب بيانات البنك الدولي لعام 2018. 

 

أين نحن؟

للأسف، يبقى واقعنا الحقوقي والسياسي هو الأسوأ. فعلى الرغم من أن تعاليم الشريعة الإسلامية، على عكس التراث الغربي، مبنيّة على قيم المساواة بين جميع الأعراق والأجناس، وأن فظاعات ممارسة الاستعباد في مجتمعاتنا ظلت أقل من نظيرتها هناك، فقد تخلّفت بلداننا عن ركب العالم في مجال حقوق الإنسان، ولا تزال حتى الْيَوم تربة خصبة للاستبداد والتمييز وانتهاك الكرامة الإنسانية. 

 

ويكفي أن آخر بلد يقوم بإلغاء العبودية على مستوى العالم هو بلد عربي إفريقي مسلم مئة بالمئة. نعم سبقت تونس الولايات المتحدة الأمريكية في إلغاء العبودية، وسبقت حتى فرنسا في إلغائها الفعلي لتلك الممارسة 1848، ولكن البيئة العامة في بلدان المنطقة، شعوبا وحكومات، لم تستطع بعدُ أنسنة قيم الحريّة والمساواة بالشكل المناسب. 

 

وقد تساءل الدكتور راشد الغنوشي بصدق في كتابه "الحريات العامة في الإسلام" معلّقًا على اقتياده ليلا من الفندق إلى المطار في تسعينيات القرن الماضي من قبل أكبر دولة عربية، وإبعاده إلى أوروبا، وبعد أن حمد الله أنها لم تُعِده إلى بلده الأم، تونس: هل مازال فقهاؤنا يعتبرون بلداننا ديار إسلام، يأمن فيها المسلم على دينه وماله وعرضه؟ 

 

فبغض النظر عن التاريخ وممارساته والتراث النظري وأدبيّاته، باتت المجتمعات الغربية الآن، بمنظماتها الحقوقية وبعض حكوماتها الديموقراطية، هي الأفضل في مجالات العدالة والمساواة، وهي من يضغط على حكومات بلداننا من أجل توفير أبسط الحقوق والحريات للشعوب. 

 

وفي الأخير، يجب أن نعلم بأن قيم حقوق الإنسان قيم عملية تُقاس بما يتحقق على الأرض وينعكس على حياة الناس، لا ما هو مسطور في الكتب أو مدفون بين صفحات التاريخ. وأنه آن لشعوبنا أن تتصالح مع تراثها وأن تدرك بأنه لا طريق إلى التّقدم ولا إلى الأمن والاستقرار إلا بإعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية ووضع حدّ للاستبداد والظلم والتمييز.

 

عبد الله بيّان 

 

ثلاثاء, 09/06/2020 - 13:30