ودعت جموع المشيعين في مدينة الدوحة أمس فضيلة الشيخ العلامة أ. د. علي أحمد السالوس، الخبير في المعاملات المالية المعاصرة والمصرفية والنوازل، وعضو المجامع الفقهية وهيئات الرقابة الشرعية، والأكاديمي المرموق بالجامعات العربية في أكثر من بلد، وقد ساد حزن عميق في الأوساط العلمية لما عرف عن الشيخ من قوة في الحق، وشجاعة في مواجهة فتاوى التمييع، وزهد وتقلل وبعد عن مواطن الشبه، مع لين في الخطاب وعفة في اللسان وحسن خلق ودل.
ولد فقيدنا سنة 1934م في مصر، وبها أنهى دراسته حتى حاز درجة الدكتوراه في الشريعة بمرتبة الشرف من كلية دار العلوم سنة 1975م، ودرّس في جامعات مصر والعراق والكويت، قبل أن يستقر به المقام في قطر منذ 1981 ويتفرغ للتدريس والبحث والإفتاء قرابة أربعة عقود، مع عمله خبيرا في الفقه والاقتصاد بمجمع الفقه بمنظمة المؤتمر الإسلامي، وغيره من المجامع والروابط العلمية، وهيئات الرقابة والتدقيق الشرعي خاصة في قطر.
وقد شرُفنا - معشر طلاب جامعة قطر - مع مطلع الألفية بصحبة الشيخ ضمن كوكبة من الأعلام الكبار، كان بعضهم بقية مما ترك العلامة القرضاوي رحمه الله، مؤسس كلية الشريعة وعميدها الأول، ومن هؤلاء الأعلام: الأستاذ الدكتور أكرم ضياء العمري، والأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب، والأستاذ الدكتور مصطفى البغا، والأستاذ الدكتور عمر عبد العزيز الشيلخاني، والأستاذ الدكتور علي القره داغي، والأستاذ الدكتور عدنان زرزور وغيرهم.
وقد كان هؤلاء العلماء الأجلاء يستقطبون الطلبة من خارج كلية الشريعة، لما عرفوا به من موسوعية وعمق وفضل ونبل، وكغيري كنت أتحين الفرص وأستغل الفراغات في الجدول الدراسي، لأشرف ولو بسماع جزء من محاضرة لأحد هؤلاء الكبار، وأذكر أني كنت أدرس مقرر (النقود والنبوك) معأكاديمي مرموق معار من جامعة القاهرة، وكان عميدا لكلية الإدارة والاقتصاد ورئيسا لقسم المحاسبة، فإذا خرجت من عنده وحضرت درس الشيخ السالوس رحمه الله بكلية الشريعة وجدت فهما واستيعابا ووضوحا، وقدرة عجيبة على الربط والتحليل والتأصيل والتنزيل، إذ لم يكن أبدا في استيعابه ومعارفه المصرفية دون أفضل المتخصصين، ولهذا تميز الشيخ على كثير من أقرانه، حتى أولئك الذين يعتبرهم شيوخه.
لقد اجتمعت للشيخ رحمه الله "ثنائيات" قل أن تجتمع، منها أنه كان عفا زاهدا متقللا رغم عمله في القطاع المصرفي لعقود، وقد حدث أحد مديري البنوك، قال: (كنا نصرف للشيخ مكافأته، فيكتب على الظرف "تصرف لحساب الزكاة"، لذا كنا نجله ونعلم يقينا أنه لا يريد من وراء عمله جزاء ولا شكورا)، كما شهد أحد الرؤساء التنفيذيين لمؤسسة مصرفية مرموقة على هامش مؤتمر اقتصادي: (أ. د. السالوس .. رجل قد أختلف معه، لكني أشهد أنه رجل صدق، يتجشم الصعاب لا يريد إلا وجه الله والدار الآخرة).. وحين احتد النقاش حول التورق المصرفي وعمليات البورصة، سافر الشيخ على حسابه الشخصي إلى سوق السلع الدولية بلندن للاطلاع على تعاملاتها، حتى يصدر رأيه عن بينة!. وكتب مقاله ذائع الصيت "بيع الوهم".
كما جمع الشيخ القوة والصرامة والشجاعة في الحق إلى الحلم والأناة والمرونة ولين الجانب وعفة اللسان وطهارة القلب، وقد دخل معارك علمية وناله أذى المتعالمين والمتعصبين، لأنه كان صداعا بكلمة الحق، وقافا في وجه دعاة التمييع بدعوى التيسير، ومع ذلك كان كثير الترفع، عالي الهمة، حريصا على إلزام المصارف بالشرع الحنيف، مع تجشم عناء البحث عن البدائل، مما أكسبه سمعة ومصداقية كبيرة.
وقد تعرض لهجمة شرسة بعد فتواه حول اقتطاع نسبة على السحب بالبطاقات الائتمانية، وكانتبينه وبين العلامة القرضاوي رحمه الله مكاتبات وردود، إلا أنه ظل طيب النفس عف اللسان، مبالغافي الثناء على العلامة القرضاوي حافظا لمنزلته، مع تجاهل تام للطلاب والمتعالمين والمتصيدين، لكن حين أقذع أحدهم وبالغ في الولوغ والاستحلال لعرض الشيخ رفع عليه قضية، فلما صدر الحكم وثارت ثائرة الإعلام، وعنونت الصحف بالخط العريض "إدانة قاذف الشيخ السالوس" بادر الشيخ إلى العفو والصفح، ولم تقم للرجل بعدها قائمة، وطواه النسيان في ثناياه.
وكان الشيخ العلامة السالوس رحمه الله صاحب رؤية استراتيجية فذة، لتطوير وتنقية المنظومة المصرفية من الشوائب، عمادها التأكيد على إلزامية قرارات المجامع الفقهية، وتقديمها على فتاوى هيئات الرقابة الشرعية والأفراد، بوصف هذه القرارات نوعا من الاجتهاد الجماعي الذي يلتقي فيهالخبراء من التخصصات ذات الصلة، ويرى ذلك ضمانا لاستقرار ومتانة التعاملات المصرفية، وبعدا عن الريبة والتأثيرات الشخصية والنوازع الفردية، كما أنه عامل توحد يجنب الصناعة المالية الاسلامية الاختلاف والفرقة، وكثيرا ما كان الشيخ يقول: أنا لا أفتي!.. إنما أنقل فتاوى المجامع، مع أنه رحمه الله كان أهلا للفتيا.
ورغم غربة نصف قرن ظل الشيخ وفيا لبلده، حاملا هم الإسلام والمسلمين في أرض الكنانة، بل وفي جميع بلدان المسلمين، وأسس "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح" إبان ربيع الثورات، مع كوكبة من العلماء والمصلحين في الاتجاه السلفي العام وغيره، منهم الشيخ محمد عبد المقصود والشيخ محمد يسري والشيخ نشأت أحمد ، واختير نائبا لرئيس الهيئة، التي كانت تهدف لإيجاد مرجعية راشدة تُحْيِي وظيفة العلماء والحكماء في الأمة، وتعمل على وحدة الصف وجمع الكلمة، وتقديم الحلول للمشكلات المعاصرة وفقًا لمنهج الوسطية النابع من عقيدة أهل السنة والجماعة، وحماية الحريات والحقوق الشرعية، والتنسيق مع مختلف القوى والمؤسسات الإسلامية والشعبية لتحقيق الأهداف المشتركة، وترسيخ القيم الإسلامية في الحياة المعاصرة بما يعيد بناء الإنسان وتنميته لإحداث نهضة حضارية شاملة.
ترك الفقيد تراثا عريضا من العلم والعمل والذكر الخالد والسيرة الحسنة، ومن أهم مؤلفاته: موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة والاقتصاد الإسلامي، وموسوعة "مع الشيعة الاثني عشرية في الأصول والفروع" في أربعة أجزاء، وكتاب فقه البيع والاستيثاق والتطبيع المعاصر، إضافة إلى سلسلة من الدروس والدورات والبرامج المرئية والمسموعة، والبحوث والمقالات المنشورة.
رحم الله فقيد الأمة ورزق ذويه وطلابه ومحبيه الصبر وأعظم الأجر وأخلف خيرا، وإنا لله وإنا إليه راجعون