تأتي ذكرى عيد العمال في هذا الزمن الكوفيدي الرديء لتضع الجميع في هذه البلاد أمام أمر واقع مرير.. فأمام التحديات الجسيمة الراهنة، أثبت القطاع العمومي -الذي يعشش فيه الفساد والمحسوبية والرشوة- محدوديته بشكل قاطع.. أما القطاع الخاص المتهالك أصلا والبعيد عن النضج والمهنية، فقد اكتفى بلعب دور الكومبارس في مسرحية القطاع العام، في حين يتم الإجهاز على القطاع غير المصنف بفعل تأثير ظروف الحجر الصحي، بينما يجري استبعاد ما تبقى من القطاع الريفي الذي دُمِّرت لدى سكانه روح العمل والإنتاج على مدى سنوات الإبتهاج بحلم الديمقراطية، بفعل الصراعات السياسية على خلفية التنافس والشقاق بين النخب المدينيَّة اللاهثة خلف المناصب والإمتيازات..
أما قطاع الإقتصاد الإجتماعي والتضامني الذي يؤمل منه - في حالة ما إذا أُسس بشكل سليم وأُدير بطريقة شفافة- أن يُشكِّل ضمانا للمجتمع من الإنهيار الإقتصادي الكبير القادم بعد انحسار وباء كورونا، فما يزال غائبا تماما عن المسرح حتى الآن.
لذا، نأمل من الحكومة أن لا تضيع الوقت وأن لا يغيب عنها بأن العوامل الحاسمة التي ما تزال تحول بين المجتمع والإنهيار الإقتصادي الشامل إنما هي بقية هشة من سلوك التكافل الإجتماعي التقليدي الموروث، بالإضافة إلى العائدات المالية التي يرسلها أفراد الجاليات الموريتانية في الخارجإلى أسرهم داخل البلاد..
باختصار، تشعر الغالبية الساحقة من المجتمع اليوم بأنها "خارج" المجال الاقتصادي والاجتماعي، في حين تمر البلاد بما يمكن تصنيفه بلحظة من لحظات "التحولات الهشة" التي يجدر بأن لا تغيب عن وعي وانتباه من يرسمون السياسات العمومية من أجل وضع الترتيبات التي تساهم في ضمان تماسك المجتمع أثناء مثل هذه التحولات الهشة، والتي يرجح أن تعصف بالمنطقة وبالعالم موجة منها مع انحسار وباء كورونا، كما يتوقع ذلك الخبراء والمختصون، حيث لا يشكك أحد في مدى خطورة تداعياتها على جميع الدول، أحرى الضعيفة منها..
والحال هذه، أعتقد بأن على الحكومة أن تبادر إلى وضع أسس إقتصاد إجتماعي تضامني حقيقي وفعال قبل فوات الأوان.. عندئذ، يمكن تصور عدة محاور لقيام ذلك الشكل من الإقتصاد في بلادنا، لعل من بين أهمها هو فتح الإكتتاب في رأسمال الشركات الكبرى والمؤسسات الأكثر ربحية في البلاد مثل شركات الإتصال، والتعدين والطاقة والبترول والغاز والموانئ والبنك المركزي.. إلخ، من أجل تسجيل ملكية مؤقتة لمئات آلاف الأسهم لصالح عشرات الآلاف من المواطنين، خاصة من الفئات المجتمعية الأكثر فقرا وهشاشة مثل المعوزين وفقراء الأرياف والمدن الداخلية، والعمال والمستخدمين والجنود والموظفين، والنساء معيلات الأسر، وذوي الإحتياجات الخاصة، إلخ..
باختصار، بإمكان الإقتصاد الإجتماعي والتضامني أن يُحوِّل العمال والمستخدمين والموظفين والجنود البسطاء، بل وفقراء آدوابه وأحياء الصفيح والعشوائيات إلى ملَّاك تُدر عليهم حصص أسهمهم في كبريات الشركات والمؤسسات أرباحا معتبرة، وينعمون بمستوى معيشي لائق حلال من خيرات بلادهم.. ويمكن للدولة أن تسن قوانين محفزة كأن تبقى وضعية الأسهم "إسمية" فقط أي أن ملكيتها عمومية للدولة لكن حقوق الإنتفاع بها قد يستفيد منها مئات آلاف المواطنين بالتناوب ضمن دورة اقتصادية من ثلاث سنوات مثلا، تستهدف الفئات الاجتماعية المذكورة آنفا..
كما يستطيع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني انطلاقا من محاور أخرى مثل إعادة هندسة التنمية الجهوية، أن يخلُق عشرات آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة على مدى سنوات قليلة.. من خلال العمل مع صغار المنتجين والجمعيات الأهلية والتعاونيات والتجمعات ذات النفع الاقتصادي من أجل دمج وتأهيل الفئات الفقيرة والهشة من السكان، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية خاصة وفي ضواحي المدن الكبر، في المسارات الانتاجية المتاحة وهي كثيرة جدا، وذلك من خلال توفير القروض الصغيرة ودعم وتطوير الإنتاج المحلي والزراعي والحرفي.
وبطبيعة الحال، لا بد أن يبدأ هذا المسار الطويل والمعقد، بسن قانون يتعلق بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني، يمكن أن يقترحه على الحكومة ويتقدم بمسودته بعض النواب حتى ولو لم يكونوامتجانسين سياسيا.. ولكن ينبغي أن يكون قانونا بدون ثغرات، يأخذ بعين الاعتبار مفهوم اللامركزية الاقتصادية والذي يضمن مشاركة اجتماعية واقتصادية أفضل للجماعات والأفراد الذين يواجهون عقبات مختلفة للوصول إلى سوق العمل والسلع والخدمات التي ينتجها الاقتصاد التقليدي في القطاعين العام والخاص. كما ينبغي أن يشجع هذا القانون إمكانية تحول وتمهين القطاع غير المصنف من خلاله لتحقيق النمو والتطور في إطاره، أو في اتجاه القطاع الخاص.
لكن صدور قانون لن يكفي وحده، بل سيتعين على الحكومة أيضا إنشاء الإطار المؤسساتي اللازم ووضع التسهيلات الإدارية وتقديم المزيد من الدعم لنظام تمويل المشاريع الصغرى، بالإضافة إلى توفير برامج دعم القدرات وآليات التدريب المناسبة..
وفي هذا الإطار، لا بد من اتخاذ جميع التدابير اللازمة بسرعة واعتماد نهج وطني قائم على البرامج المستهدفة لدعم التكامل الاجتماعي والاقتصادي للفئات الهشة والمهمشة بحيث تجذب هذه التدابير الأشخاص المنخرطين في الاقتصاد غير الرسمي إلى الاقتصاد الرسمي، وتمكنهم من تنفيذ مشاريع صغيرة أو متوسطة بطريقة منظمة وناجحة. وكمثال، يمكن للحكومة أن تقوم بوضع حوافز ضريبية لتشجيع الجهات الفاعلة الخصوصية على الاستثمار في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وفق المسطرة المقررة.
وبطبيعة الحال، سيكون ضروريا أن ينشأ قطاع وزاري خاص بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني من أجل التصرف بحكمة وكفاءة لضمان وضع أسس سليمة للاقتصاد الاجتماعي و التضامني في بلادنا، والتي لن يجوز بعد اليوم أن تتخلف عن إنشاء هذا النوع من الاقتصاد الذي يعرف بـ "القطاع الاقتصادي الثالث" إلى جانب القطاعين العام الخاص.
وفي هذا الصدد، ينبغي أن يكون الهدف الذي يسعى القطاع الجديد إلى الوصول إليه هو زيادة مساهمة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني إلى حدود 4-5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي سنويا لدعم القطاعين العام والخاص في جهود التنمية وخلق فرص العمل والثروة.
وبقدر ما تستطيع الدولة أن تتقدم خطوات حثيثة في هذا المنحى، ربما تستطيع معجزة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني أن تخفف إلى حد كبير من صدمة ما بعد كورونا.. بل، سيكون من الجائز أن يلعب هذا القطاع الجديد دوراً هاماً في التنمية المستقبلية للبلاد، خاصةً عندما يتم تقديم فوائده بشكل صحيح للشعب الموريتاني، خاصة وأن الاقتصاد الاجتماعي القائم على التضامن يشجع العدالة الاجتماعية لأنه يمكّن المستبعدين من سماع أصواتهم، ويسمح بالتوزيع العادل للثروة، ويعزز فرص وصول الجميع إلى الخدمات الأساسية، وبالتالي الاستفادة من خيرات بلادهم والعيش الكريم..
انواكشوط، فاتح مايو 2020
محمد السالك ولد إبراهيم