توقفت في الجزء الأول من هذا المقال عند ما أراه من ضرورة عدول وزارة التنمية الريفية عن المجازفة بالإنفاق على حملة لزراعة الخضروات خلال الصيف لن تفشل فقط، بل إنها ستفشل وستُصيب المستهدفين بها، من مزراعيها وكل من علق عليها آمالا، بالخيبة واليأس والإحباط! والعمل بدلا من ذلك على التهيئة الجيدة لبرنامج مستديم لزراعة الخضروات، لا يكون ردة فعل على ظروف طارئة، وإنما برنامجا روتينيا سنويا ضمن خطة محكمة في كل موسم، وارتأيت أن يكون العمل الآن، بدلا من تلك المجازفة، على تهيئة كل ما أمكن من ظروف لموسم شتوي لزراعة الخضروات بحلول شهر نوفمبر المقبل، وفي نفس الوقت تحديد احتياجات البلاد من كافة أنواع الخضروات خلال فصل الصيف وتحديد وتهيئة المساحات اللازمة لزراعتها في منطقة كرمسين الساحلية، على أن تكون تلك المساحات جاهزة بحلول صيف 2021، خصوصا أن لا مؤشرات حتى الآن على انقطاع إمدادات البلد من الخضروات من خارج الحدود على مدى أشهر قادمة مما يعطينا نفسا ومتسعا من الوقت، وإلى غاية شهر نوفمبر، لإعداد العدة للتخلص نهائيا من الإرتباط في حاجياتنا من الخضروات بالأسواق الخارجية، حتى ولو أنقشعت غُمة جائحة كورونا غدا وعادت الأمور إلى طبيعتها عالميا.
وعندما أقول تحديد احتياجات البلاد من الخضروات، فإنني أستثني من ذلك مادتي البطاطس والبصل باعتبارهما، وإن كانا يُحسبان من المحاصيل البستانية كالخضروات والفواكه، إلا أنهما زراعيا يُحسبان من محاصيل الحقل ( les grandes cultures ) كالأرز والقمح والذرة والشعير.. حيث يُزرعان على مساحات كبيرة عادة، عكس الخضروات التي تُزرع على مساحات أقل، كما أن هذان المحصولان عند حصادهما تمكن تعبئتهما وحفظهما لعدة أشهر دون الحاجة إلى تبريد، عكس بقية أنواع الخضروات التي لا تبقى إلا لأيام بدون تبريد، وهما أيضا من المحاصيل التي يُعتمد في زراعتها على الميكنة الزراعية بذرا ورشا وحصادا.. ولذلك فينبغي اعتبار هذان المحصولان محصولا حقل والتعامل معهما كما نتعامل مع زراعة الأرز من حيث المساحات المخصصة لهما.
هذه التهيئة وهذا التصور لاعتمادنا على أنفسنا ومقدراتنا في حاجياتنا من الخضروات بشكل مستديم تتطلب الآتي :
1 ـ تحديد المناطق التي تتكامل فيها ظروف زراعة وإنتاج الخضروات من حيث صلاحية التربة، واستدامة مياه الري، واستعداد السكان، وإمكانية التسويق، فليست كل الأراضي مناسبة لزراعة الخضروات، ومصادر لمياه الري ستغور وتنقطع أو تتملَّح في وسط الموسم لا يُعتمد عليها في الزراعة عموما وفي زراعة الخضروات خصوصا، وهدر الموارد في مناطق أهلها غير مستعدين بل فقط يتصيَّدون الدعم والتمويل على غير نية الإنتاج لن يكونوا منتجين، وإنتاج الخضروات دون إمكانية وخطة للتسويق فيه خسارة كبيرة.
2 ـ البدء من الآن في استصلاح المساحات المستهدفة بالزراعة شتاء، وتزويد تلك الواقعة منها في مناطق شحيحة المياه بأنظمة ترشيد مياه الري، كأنظمة الري بالرش أو الري بالتنقيط، واستصلاح وتخطيط تلك الأراضي على ذلك الأساس.
3 ـ البدء من الآن في تكوين الطواقم الفنية الكافية والقادرة على مواكبة التوسع في زراعة الخضروات من حيث التأطير والإرشاد، وذلك بتكوين فرق فنية على مقربة من المزارعين لمواكبتهم طيلة الموسم بدء بعمليات البذر وإعداد المشاتل وإلى غاية الحصاد.
4 ـ البدء من الآن في زراعة مصدات الرياح في المساحات المستهدفة، إذ لا يمكن تصور نجاح زراعة وإنتاج الخضروات في غياب مصدات الرياح، في المناطق الباردة والمعتدلة أحرى مناطقنا الصحراوية، ولتكن تلك المصدات من الأشجار كثيفة وسريعة النمو المتأقلة محليا، مع أهمية زراعة خطوط من أشجارنا الشوكية المحلية ( السدر، الطلح، إروار، تيشط ) بالموازاة مع خطوط أشجار مصدات الرياح لتُحقق هذه الأشجار الشوكية هدفا آخر هو الحماية من الحيوانات والاستغناء عن التكاليف الكبيرة للسياج الحديدي..
5 ـ اقتناء أجهزة حفظ الخضروات بالتبريد لتكون جاهزة في المناطق المستهدفة خلال الحملة الشتوية القادمة، فبتوفر هذه الأجهزة، فإنه إذا كان لدينا إنتاج معتبر من الخضروات في فصل الشتاء فإن فائضها قادر على تغطية عدة أشهر من الاستهلاك في أشهر الصيف الموالي.
6 ـ شرط النهايات تصحيح البدايات كما في المأثور، وإذا كانت النهايات المتوخاة من زراعة الخضروات هي المحصول والإنتاج، فإن شرط ذلك هو البداية بالإعداد الجيد للمشاتل بالنسبة لأنواع الخضروات التي تُزرع بطريقة الشتل، ذلك أن الشتلات الضعيفة أو المريضة ستنقل معها الضعف والمرض للمساحة النهائية لزراعتها فيكون الإنتاج ضعيفا أو ردئيا وأحيانا معدوما، ولإعداد وإنشاء المشاتل تقنيات وأساسيات معروفة منها اختيار التربة المناسبة لها، وحمايتها من الحشرات الناقلة للفيروسات، وهناك أنواع من الأقمشة التي لا تحجب ضوء الشمس اللازم لإنبات ونمو الشتلات، وفي نفس الوقت تمنع الحشرات الناقلة للفيروسات من مهاجمة الشتلات، تُقام خيَّم من هذه الأقمشة على البادرات طيلة وجودها في المشتلة لكي تُنقل إلى مكان زراعتها وهي قوية وسليمة، فالمشتلة إذن مرحلة مهمة وحاسمة من أجل إنتاج جيد كما ونوعا، كما أنه ليس بالضرورة إنتاج الشتلات في منطقة الزراعة إذا كانت غير مناسبة أو كانت موبوءة بالأمراض والحشرات، إذ يمكن إنتاج الشتلات في أي منطقة من البلاد ونقلها لزراعتها في مكانها النهائي.
7 ـ لا يمكن التوسع في إنتاج الخضروات دون الإستعانة بالمخصبات، خصوصا في أراضينا كبلد من بلدان جنوب الصحراء تتصف تربتنا عموما بالفقر في العناصر الغذائية بفعل التصحر، وباستغلالنا لأراضينا الزراعية موسم بعد آخر تستنزف المزروعات مخزونها من المواد العضوية والعناصر الغذائية الشحيحة أصلا، ولا بد من تعويض ذلك الإستنزاف بإضافة الأسمدة، والأسمدة نوعان عضوية وصناعية، وفي حالة توفر الخيار بين النوعين فإن الأسمدة العضوية أفضل من الصناعية، أولا من حيث توفرها طبيعيا، وثانيا من حيث أهميتها في الحفاظ على الخصائص الزراعية للتربة وبالتالي الحد من تدهورها، عكس الأسمدة الصناعية التي لها أثر سيء على تلك الخصائص، ونحن لدينا من المقدرات في هذا المجال ما يمكننا من اللجوء لخيار الإعتماد على الأسمدة العضوية من خلال الكميات الضخمة المتوفرة لدينا من روث الحيوانات وخاصة الأبقار، تلك المادة التي نعرف الخبراء الزراعيين الأجانب عندما يرونها يقولون إنها ذهبا مهدورا.. وعليه فمن أجل إنتاج جيد ومستديم، وتربة مستديمة قادرة على الإستمرار في الإنتاج، فلا بد من تزويد كل مزرعة خضروات بما يُعرف ب ( الكومبوست ) وهي تقنية بسيطة يعرفها بسطاء الفنيين، وتتمثل في طمر فضلات الحيوانات والحشائش في حفر خاصة، ورشها بالماء من حين لآخر مع تغطيتها بالتراب أو البلاستيك لتحتفظ بحرارتها ورطوبتها، وبعد أسابيع ستتحلل هذه المواد لتنتج منها أسمدة عضوية عالية القيمة ورخيصة التكاليف، وفي نفس الوقت ضرورية لاستدامة التربة والحفاظ على خصائصها الزراعية.
8 ـ إعداد خطة أو روزنامة ( calendrier ) لزراعة المساحات المستهدفة بحيث لا تبدأ زراعة كل المساحات في وقت واحد، وإنما بالتدرج أسبوعا بعد أسبوع، تبعا لدورة حياة كل محصول، لكي يكون نضج وحصاد الخضروات متفاوتا وممتدا على مراحل، تحاشيا لتخمة السوق بالإنتاج المتزامن وبالتالي خسارة الدولة والمزارعين.
9 ـ خلق مجتمعات زراعية عن طريق تعبئة أصحاب المناطق المستهدفة، وغرس روح ومفهوم الإنتاج في أوساطهم، وتوعيتهم على أهمية الخضروات لعيشهم وصحتهم قبل التسويق والربح وذلك من خلال الإهتمام بالزراعة القروية، فما أكثر تلك القرى التي زرناها داخل البلاد وبجانبها الأراضي الصالحة، ولديها مصادر المياه سواء بحيرات أو آبار ارتوازية غزيرة المياه، ومع ذلك أهلها يأكلون ( مارو لبيظ ) على مدار العام..! هؤلاء يتحتم وضعهم أمام مسؤولياتهم في إنتاج غذائهم بأنفسهم، حتى ولو تطلب ذلك اشتراط أو ربط التوزيعات الغذائية المجانية لهم بقيامهم بدورهم في إنتاج غذائهم، فالتكفل الدائم بغذاء القادرين على العمل والإنتاج، مع توفر مقوماته، غير ممكن علاوة على كونه مناقض لمفهوم التنمية ذاته، ولتُدرج وكالة " تآزر " هذا الموضوع في برامجها.
10 ـ الإهتمام بالبحث الزراعى وتزويده الدائم بالإمكانات والخبرات، إذ لا أمل في تطوير إنتاج زراعي مستديم لا يقوده البحث، خصوصا مع التغيرات المناخية التي غيرت الكثير من المعطيات العلمية الزراعية التي ليس بالضرورة أنها لم تكن صحيحة، بل إنها كانت صحيحة ولكن الظروف التي إجريت فيها البحوث السابقة وأثبتت فيها تلك المعطيات من حرارة ورطوبة ورياح وإضاءة وأمراض وحشرات.. تغيرت عما كانت عليه كنتيجة للتغيرات المناخية، مما يتطلب البحث الزراعي الدائم لمواكبة تلك التغيرات والتكيف معها.
11 ـ إشاعة ثقافة الزراعة المنزلية خاصة في مناطق الداخل كلما توفرت المياه، حيث الطبيعة العمرانية للكثير من مدننا الداخلية مساعدة على ذلك، فعادة ما تتكون بيوت السكان هناك من مساحات كبيرة لا يشغل منها البيت سوى جزء يسير مع بقاء مساحة كبيرة يمكن استغلالها في زراعة الخضروات بهدف غذاء الأسرة أولا وبيع الفائض في السوق..
12 ـ إشاعة ثقافة الحدائق المدرسية المكونة من أشجار الظل والزينة مع مساحة لزراعة الخضروات، أولا لخلق الحيوية والحياة في ساحات المؤسسات التعليمية المتربة والقاحلة الجرداء دائما، وثانيا لتوسيع قاعدة إنتاج الخضروات، وثالثا لتحبيب الزراعة على التلاميذ والطلاب في هذه السن، وتربيتهم بيئيا وزراعيا من خلال تخصيص يوم في الأسبوع لأخذهم إلى هذه الحدائق والقيام بأنفسهم بالعمليات الزراعية من غرس وري وعزيق يدوي ( désherbage manuel )، ولتوكل هذه العملية للناظرين على المؤسسات التعليمية مع منحهم إنتاجها لرفع دخلهم وتشجيعهم على الإهتمام بها، فبدون ذلك لن تجد هذه العملية من يعتني بها.
13 ـ الإسراع بإطلاق المشروع المعروف بمشروع ( لنُنتج في موريتانيا )، الذي يجري الإعداد له منذ ثلاث سنوات بتمويل من البنك الإسلامي للتنمية في صورة دعم فني فلسطيني من أجل نقل الخبرات الفلسطينية في مجال زراعة وإنتاج الخضروات.
كان ذلك عن مجال الخضروات ومتطلبات زراعتها في بلادنا وأكرر، لا ظرفيا وإنما بشكل استراتيجي مدروس ومُبرمج ومستديم.. ولنا عودة لموضوع الزراعة عموما وماذا علينا عمله ما بعد كورونا زراعيا في ظل دق طبول حرب نقص الإمدادات الغذائية، إن لم تكن المجاعات في مناطق عديدة من العالم.
محمدو ولد البخاري عابدين