طمئنونا.. على الآفاق المستقبلية!

«في أحلك لحظاتنا نتطلّع إلى رؤية الضوء»*

 

كثير منا حجر نفسه في بيته، وبذلنا قصارى جهدنا من أجل المصالحة مع الذات والالتزام بالإرشادات الصحية... كما وجّهنا أهالينا ومن يلينا من مجتمعنا بضرورة احترام التباعد الاجتماعي، وحرَصْنا على غسل اليدين وتعقيم كل ما لمسته يد الإنسان... وتعلمنا كيف نمتنع عن لمس الوجه... وواصلنا المشي والحركات الرياضية الخفيفة في البيت لتخفيف الضغط... لأنه من أخطر مسببات ضعف المناعة... 

واستغل بعضنا فرصة الحجر الاضطراري لإعادة ترتيب البيت، وتنظيف المخزن القديم المليء بالكتب والمقتنيات، بعد أن انشغلنا عنه... كما قمنا بترتيب الكتب التي اقتنينها ولم نتمكن من مطالعتها... ونحاول صلة الأرحام التي قطعناها عن غير قصد؛ والبعض- كما هي حالي- ضحّى بجلسة الشاي بالنعناع الأسبوعية مع أعز الأحباب، من أجل سلامة الجميع... 

فهذا مبلغ جهدنا في تحمل مسئوليتنا تجاه النفس والأهل والوطن... 

ولكن ما ذا عن حقنا في السؤال عمّا قِيم به حتى الآن من أجل المجتمع والوطن الذي ننتمي إليه؟ ولا أعني هنا الإجراءات الآنية وحسب، بل ماذا عن الاستشراف والتخطيط لقابل السنوات والعقود؟ 

لقد كثُر الحديث هذه الأيام عن ماهية الحياة ما بعد وباء الكورونا، وضرورة التفكير في خلق منظومة جديدة  New paradigm إذ لابد من العمل على شاكلة جديدة على الصعيد التنموي والحضاري. 

ونعني هنا بالمسار التنموي المستدام وسياسة الاستشراف الذي يقتضيه أصلا مفهوم الحكم. وبالحضاري: منظومة القيم والمبادئ وأنماط الحياة الحالية من حيث تفاقم الاستهلاك، والتحضّر، والتنقل، وعلاقتنا مع الطبيعة. 

وهي أمور، دفعت بخبراء دوليين مثل السفير Michel Duclos - في مقاله «Le Covid 19 est-il un game-changer géopolitique « والذي نشره المعهد الفرنسي Institut Montaigne يوم الخميس 19 مارس الجاري- إلى المطالبة بضرورة تغيير السياسة الدولية، متسائلا: «أليس من الواجب أن نبدأ بالتفكير في تأثير الفيروس على السياسة الدولية؟» فتغيير المسار وحده كفيل بإنقاذ البشرية: ليس الجيوسياسي وحسب، بل الحضاري أيضا». 

فما بالك بنا نحن؟ 

نحن- المغلوبون على أمرنا- الذين طالما عانينا من السياسات الدولية وما فرض علينا من عولمة شرسة؛ ساهمت في تدمير نسيجنا الاجتماعي، وتأثّرت بها قيمنا الإنسانية... فلماذا لا نعمل على استشراف المستقبل لنكون رِدْءًا وظهيرا لحكامنا ونتمكن من أخذ زمام أمورنا... من خلال مراجعة خططنا لتعكس واقعنا وتستلهم من ثقافاتنا وحضارتنا ... وما تمليه مصلحة شعوبنا؟ 

أجل، ندرك أن السلطات، في السعودية مثلا كدولة ذات موارد واقتصاد متقدم، وفي موريتانيا كدولة ذات دخل متواضع؛ هذين البلدين العربيين الإسلاميين الذين أتابع شأنهما يوميا، بَرْهَنَتا على قدرتهما على ألإدارة الجيدة للأزمة وأكدتا رغم كل التحديات «أن الوضع تحت السيطرة حتى الآن...» 

لكننا، قد نحتاج الى أبعد من ذلك؛ ولا أعني هنا ما ينبغي القيام به في مجال الصحة الوقاية والعلاج، فلن أتدخل في عمل أهل الاختصاص من لأطباء والخبراء. 

فطموحنا هو الاطمئنان، إلى جانب الأولويات الآنية والمعقدة، على وضوح الرؤية وإذا كانت حكوماتنا فكرت في الخطط المستقبلية لتفاد تفاقم الهشاشة الأصلية للأحوال السوسيواقتصادية في دول مثل موريتانيا ومحيطها الإقليمي. 

ومن بين ما نتطلع إليه: 

- نأمل أن قمة المجموعة ال20 دولة الأغنى في العالم، والتي استضافت المملكة العربية السعودية اجتماعها الإفتراضي الأول، ولعبت فيه دورها الريادي المتوقع خاصة في ما يتعلق بإدارة الأزمة العالمية، موضوع الإجتماع، واتخاذ حزمة من المبادرات في مجالات التضامن ودعم الإقتصاد العالمي، نأمل من هذه المجموعة أن تتطرق لموضوع إلغاء ديون الدول الأقل نموا، وتبدآ العمل على شاكلة جديدة، وتطالب بمراجعة جميع الاتفاقيات السابقة التي شابها بعض الغبن وعدم الإنصاف، سبيلا إلى تعزيز قدراتنا في إنتعاش قطاع الزراعة مثلا من أجل الحصول على الإكتفاء الذاتي الغذائي... والاستغلال الأمثل لمواردنا الطبيعية وبناء شراكة دولية أكثر شفافية وفائدة للجميع... 

*  تشكل الوضعية الراهنة كذلك المناسبة السانحة لمراجعة السياسات الوطنية والدولية بهدف إصلاح الاختلالات المؤسساتية التي اعتادتها هذه الدول، ونعني مجموعة دول الساحل الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي والتي تعيش معظم شعوبها في أوضاع هشة وعانت كثيرا من معضلات الفساد والغبن والإقصاء... «ففي أحلك لحظاتنا نتطلع إلى رؤية الضوء»... 

- فقد تلوح في الأفق ملامح لرؤى أنسب لتأسيس نظام صحي قوي وشامل، ووضع سياسات اجتماعية واقتصادية احتوائية تمكّن من ناصية العلوم، وتجعل الإنسان في قلب الاهتمامات التي ينبغي أن تنبع من قيمنا الإنسانية التي طالما أهملت وحلت محلها برامج المسخ والنسخ واللصق التي نجحت في بلدان غير بلداننا، تختلف عن ثقافاتنا وحضارتنا، برامج جاهزة دون أي محاولة لتطويعها لخصوصياتنا... 

وقد تفضي سياسات ما بعد وباء الكورونا إلى تقوية مؤسسات الدولة واسترجاع هيبتها واحترامها، وإحكام قبضتها على جميع مقاليد السلطة دون إفراط أو تفريط؛ وخاصة ما خرج منها عن السيطرة بحيث أصبح دولة داخل الدولة؛ على أن يتم تعزيز الشراكة بين القطاعات الحكومية، والمال والأعمال، والمجتمع المدني الغير ربحي... وإعادة بناء الثقة، بين الحكام والمحكومين، على أساس الإلتزام والاحترام والإحتواء وليس الخوف أو الازدراء... 

- يقتضي الأمر إطلاعنا على الوضع الراهن، وما قيم به بشأن الآفاق الاجتماعية والاقتصادية على المدى القصير والمتوسط والطويل بعد ما لمسناه من قلق في أوساط عمالية. أما السؤال الذي يطرح تفسه الآن يتعلق أساسا بوضعية فئتين اثنتين أساسيتين وهما: شريحة الفقراء وذوو الدخل المتوسط . 

فهل تتيح الموارد الحالية إمكانية تحمل التكاليف الغذائية والعلاجية للأسر الأكثر فقرا، مع ضرورة مساعدة الفئة الموالية من الفقراء بتخفيض أسعار المواد الأساسية... ومساعدتهم على تسويق منتوجاتهم... 

وبالنسبة للفئة الثانية والتي تشكل عصب الصمود الإقتصادي، فما هي وضعية الشركات الناشئة والمتوسطة؟ وما هي وضعية سوق العمل؟ هل تمت العناية بهم؟ لتطمئن الشغيلة أنها لن تكون كبش فداء وتفقد ما حصلت عليه بصعوبة من عمل ... وهل تم التفكير بالقطاع غير المصنف الذي يشكل مصدر دخل لمعظم الشعوب في الدول الهشة؟ 

* كما تقتضي الوضعية النظر في إمكانية اتخاذ قرارات حازمة ومكلفة مرحليا، مثل توفير الماء والطاقة، ووسائل الاتصال الجديد دون انقطاع مثل الإنترنت في زمن الحجر الشامل. وهل تم التوجيه بتوقيف التهديد والوعيد لتحصيل الضرائب وفواتير شركات المياه والكهرباء مؤقتا في زمن الأزمة؟ قد يكون الوقت أنسب للتركيز على إصلاح الاختلالات المؤسساتية المتراكمة؟ وكيف لا تتم مراجعة عقود القروض وشروط قضاء الديون من طرف البنوك؟ بل لابد أحيانا من الدعم المالي وضخ قروض تحفيزية جديدة لتعزيز القدرة على الصمود... حتى لا يلزم الحال تسريح عمالهم وتفاقم البطالة والوضع العام من سيئ إلى أسوأ. 

ولعل من الوارد هنا الاستئناسُ بالتصنيف الذي قام به الخبير والطبيب السويدي Hans Rosling  في كتابه “ FACTFULNESS وهو مصطلح تصعب ترجمته بأمانة إلى أي لغة أخرى، ولعله مفهوم يمزج بين الواقع والحقيقة والصدق... يقول روسلنج - إن كتابه «يشكل آخر معركة ضد الجهل العالمي وتأثيره، وضد نشر الصور النمطية الثقافية والدينية». وابتكر المؤلف موقع gapfinder لنشر المعطيات الصحيحة في مجال الصحة ومكافحة الفقر، بهدف الإسهام في تنوير العالم. كما قام سنة 2017 بتقسيم سكان العالم إلى أربعة مستويات حسب دخل الأسرة الواحدة(...) 

وفي سياق البوح بالأحلام وبسط تطلعاتنا إلى تغيير طريقتنا في الحياة، والتفكير في ماهية الحوكمة المستقبلية، قد يكون الوضع الراهن مناسبة لحكامنا لمراجعة السياسات الكبرى، كي يُفْضي بنا الحال إلى المزيد من احترام كرامة الإنسان، والعناية بالفئات الضعيفة. على أن تتوخى هذه المراجعة وضع برامج تنموية احتوائية وتضامنية مستدامة... ولا ضير في استمرار المنافسة الإيجابية شريطة وضع قوانين جديدة أكثر إنصافا وعدالة تضمن تكافؤ الفرص والحظوظ» فالدول تقام على الكفر ولا تقام على الظلم»... 

ألم يحن الوقت للمصالحة مع ألنفُسِ، ومحاسبتها قبل الحساب؟ آن أوان الفطام عن الاستغلال المفرط لطفرة الطبيعة... وآن أوان إلإصلاح لما أفسدناه في البر والبحر، والعناية بما فرّطنا فيه واستمتعنا به على حساب الآخرين، والتكفير عما قمنا به من أضرار لأُمِّنا الأرض، هذا الكوكب الجميل الذي لا ملاذ لنا غيره... وذلك من أجل المصالحة معها ثم مع الآخر وإصلاح أمورنا والتسيير الأمثل لما جعلنا الله مستخلفين فيه... 

 

* المقولة للفيلسوف الإغريقي أرسطو

 

**مدير عام للشؤون الثقافية والإجتماعية وشؤون الأسرة منظمة التعاون الإسلامي 

وزيرة موريتانية سابقة

خميس, 16/04/2020 - 21:35