مدخل:
مر الإنسان خلال الخمسين ألف سنة الأخيرة من عمر تواجده علي الأرض بثلاث موجات حضارية متداخلة، إنسلت الواحدة من رحم سابقتها، لتحل محلها تدريجيا، وتبسط نظمها وأنساقها المعرفية، التي تطبع بميسمها واقع الحياة لتغدو مع الوقت سلوكا عاما لغالبية سكان الحواضر، التي تواجد معظمها علي ضفاف الأنهار الكبرى، لعل أعنف هذه الموجات، الموجة الثالثة التي تعارفنا علي تسميتها بالعولمة، والتي اتسمت بتغيرات كبيرة بالغة الأثر علي كافة مناحي النشاط الإنساني، جراء الثورة الهائلة في عالم الاتصالات التي صاحبها تراكم معرفي هائل غير مسبوق. حيث أدي التراكم المعرفي الهائل الذي عرفه العالم منذ مطلع ثمانينات القرن المنصرم والذي وصل حد الفيضان حيث غدت المفردة العلمية تتجدد كل سبع ثواني! في حين كان يلزم لحدوث ذلك عقود من الزمن (عشرات السنين) خلال القرون الخمسة الماضية والمسماة بالعصر الحديث ووصل دفق المعلومات كمًا يصعب معه الحصر أو الإحاطة،هذا المعطي المعرفي الذي مهد لثورة المعلومات الهائلة التي شهدها العالم في تسعينيات القرن المنصرم غيرت من مفاهيمنا وأحدثت قطيعة ابستيمولوجية مع ماضينا المعرفي وأوجدت عالما متسارع الأنفاس ومتلاحق الأحداث ولا مكان فيه للمتروي أو من لا يجاريه في سرعته،الأمر الذي أفضي إلي آليات جديدة لإدارة الدول والكيانات الاقتصادية واستدعي وجود تفكير مغاير للإدارة والحكم والتنمية إلا أن الملاحظ في الحالة الموريتانية وكأن كل شيء قد توقف عند العام 1978! رغم المحاولات الجادة التي قيم بها خلال حقبة الرئيس السابق محمد عبد العزيز، لكنها في مجملها لا ترقي إلي أساليب التخطيط الاستراتيجي، بل إنها جزء بدائي من أساليب التخطيط الكلاسيكي الذي ودعه العالم منذ سبعينات القرن المنصرم! مما يعني أن النخبة السياسية والثقافية الموريتانية لازالت تعيش في الماضي!
قبل الموجة الثالثة، كانت الفواعل الحضارية(المراكز) تصدر الإنتاج المعرفي إلي بقية الدول والأمم( الأطراف) الأقل مساهمة في الفعل الحضاري، إلا أن ما ميز الموجة الثلاثة هو تداخل مفهوم المركز والأطراف حد يكاد معه يختفي هذا المفهوم من العلوم السياسية في قادم الأيام! من هنا أدرك المخططون العامون في سائر البلدان بما فيها الدول المتطورة، ضرورة تغيير آليات التعاطي والتفكير عند التعامل مع الشأن العام ولا سيما ما يتعلق منها بالتنمية، فأساليب التخطيط الكلاسيكي التي تعتمد أساسا علي توفير الرساميل والمرور بسياسة المراحل، لم تعد ملائمة، ومنذ أضحي هذا التوجه قناعة لدي المخططين العامين،بات عالمنا يشهد سباقا محموما، قوامه وسلاحه ثورة المعرفة، ويتوقع المراقبون أن خارطة الصدارة ستتغير بشكل جذري مع منتصف القرن الحالي، ومن المتوقع أن دولا كفرنسا وايطاليا إن لم تغير سياساتها التربوية والتعليمية ستغدو دول هامشية في خانة العالم الثاني! في هذا السياق تحاول 82 دولة معظمها في القارة الإفريقية، تعرف بالدول الأكثر تخلفا وفقرا في العالم، تحاول منذ عقدين من الزمن تلمس طريق الخروج من بوتقة التخلف والفقر، نجحت منها 16 دولة نجاحا باهرا تأتي في مقدمتها ماليزيا وسنغافورة ورواندا وكينيا وإثيوبيا،هذه الدول تعد نمور صاعدة يتوقع لها أن تغدو فواعل حضارية تساهم في صياغة شكل عالمنا المعاصر، بل يتوقع الخبراء أن تكون ماليزيا خامس اقتصادي كوني بعد عقد من الزمن وأن إثيوبيا وكينيا ستغدوان ماردين اقتصاديين في قائمة العشرين عند منتصف القرن الجاري، وأن ألمانيا ستبقي الدولة الأوروبية الوحيدة في قائمة العشرين عند العام 2050! بعد أن ظلت الدول الأوروبية تحتل نصف قائمة العشرين لعقود.
الدول 16 التي ودعت الفقر والتخلف والجهل وسارت بثقة في طريق المستقبل الواعد، تضافر لها عاملان مهمان لإحداث التغيير المنشود، هما الإرادة السياسية مع ممارسة النخبة الثقافية لدورها التنويري في المجتمع دون تقاعس.
فالإرادة السياسية وحدها لا تكفي لإحداث التغيير المنشود، وتجربة كلا من نيجيريا وتشاد، تقدمان دليلا علي أن الدور التنويري للنخبة الثقافية لا يقل أهمية عن الإرادة السياسية، فالأخير لا يكلل بالنجاح في حالة تقاعس النخبة الثقافية عن أداء دورها التنويري، بينما دور النخبة لا يحتاج إرادة سياسية ليتعزز ويتوطد ويثمر!
بالمقابل عجزت 66 دولة في العالم الثالث عن الخروج من بوتقة التخلف والجهل والمرض، تأتي موريتانيا في آخر قائمتها (القائمة السادسة) مع دول فقيرة ومتخلفة كالسيشل وغينيا بيساو وساوتومي وبرينسيب وغامبيا وجيبوتي وليبيريا وأفريقيا الوسطي والرأس الأخضر واريتريا ولوسوتو وتيمور الشرقية والمالديف وبوروندي وباهاماس والجبل الأسود وسيراليون والتوغو وغينيا، في حين كانت دول الجوار الجنوبي لموريتانيا( السنغال ومالي) في القائمة الرابعة ودول الجوار الشمالي( المغرب والجزائر) في القائمة الثالثة.
أزمة مجتمع
من متابعة الشأن العام في موريتانيا ستدرك دون كبير عناء أن أزمتنا في تخلفنا، فالعقلية المتخلفة تنتج عنها سلوكيات متخلفة، وهذا الأمر لا يلاحظ فقط علي مستوي الأفراد العاديين أو ما درجت الأدبيات السياسية عندنا بتسميته بالعامة، بل إن عقلية التخلف هذه تطال للأسف النخبة السياسية والثقافية والعلمية والدينية مع تفاوت فردي في هذا التخلف من شخص إلي آخر، ولن أتحدث عن تمظهرات وتجليات عقلية التخلف في واقعنا الموريتاني، لئلا يطول الحديث كثيرا، لأن كل حياتنا في موريتانيا هي نتاج هذه العقلية المتخلفة،بل سأكتفي بومضات سريعة، عبر ستة أمثلة لنماذج من التفكير السائد لدينا:
• دور النخبة الثقافية : معظم النخبة الثقافية لدينا تعيش مبتورة عن واقعنا في أبراج عاجية لا تمت بصلة إلي واقع الناس في موريتانيا، معظم النخبة الثقافية لدينا تتحدث عن إشكاليات وجودية لمجتمعات أخري، قطعا ليست المجتمع الموريتاني، فهذا الهوس المرضي بتعاطي السياسة حديثا وممارسة وكتابة، والتركيز علي الديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة والغرفة العليا والسفلي للمجلس النيابي، الهوس بالتنظير عن إشكاليات مجتمعات ما بعد الحداثة، في مجتمع بدائي كموريتانيا لم يدخل بعد حقبة المدنية التي تعد إشتراط أولي للمجتمع الحداثى، ففي جميع مجتمعات العالم، المتقدم أو المتأخر علي حد سواء، تمارس النخبة الثقافية فيها دور تنويري حداثي عبر نتاج معرفي في كافة حقول المعرفة ولا سيما في العلوم الإنسانية، في حين عندنا الكل ينظر، لكن نادرا ما يؤلف كتابا أو يقدم نتاج معرفي، فكل شيء لدينا شفاهي والكلام عندنا في القرن الواحد والعشرين لازال وسيلة نقل المعرفة!( سنفصل في هذا الموضوع في مقال منفصل إن شاء الله).
• دور النخبة السياسية: النخبة السياسية الموريتانية، موالاة ومعارضة أو مستقلين لا تري في موريتانيا غير كعكعة يجب اقتسامها، وليس لمعظمها برنامج أو مشروع مجتمع للبناء، لذا يمارس الغالبية لدينا السياسة بدافع الاسترزاق أو التكسب منها، وغياب البرامج أو التصور الحقيقي للبناء وآلياته وعدم وضوح الرؤية جعل جل المعارك السياسية عندنا ذات طابع شخصي، أقرب إلي العداء، ويتذكر جميعنا دعوة أحد أبرز قادة المعارضة عام 2016 الجيش للتدخل والقيام بانقلاب عسكري علي نظام ولد عبد العزيز! وهو الذي صدع رؤوسنا لعقود بحديثه عن الديمقراطية والدعوة إليها!
• أماكن العبادة: تحظي أماكن العبادة في العالم قاطبة بالاحترام والتبجيل والتوقير، وتخصص لها ميزانيات معتبرة لإنشائها وصيانتها والقيام بشؤونها، وتتفنن الشعوب في وضع تصميمات هندسية غاية في الروعة والأبهة لدور العبادة، ويحظى محيط دور الرعاية بالاهتمام، كل هذا يحدث في جميع أنحاء العالم إلا في موريتانيا، حيث أن عقلية التخلف طبعت بميسمها عباداتنا، ولاحظت في تجوالي في مدن عدة في موريتانيا أن معظم الموريتانيين لا يكنون احترام لدور العبادة، فلا هم يخفضون صوتهم عند الآذان أو عند المرور بجوار المساجد، وبلغت الوقاحة والفجاجة بالبعض حد التبول علي جدران المساجد! هذا التصرف المشين في دول أخري يشير إلي الاحتقار، لكن عندنا قطعا لا يعني الاحتقار بقدرما ما يعني اللامبالاة وعدم توقير وإحترام أماكن العبادة في عقليتنا السائدة المتخلفة. وقد لاحظت أن الناس تدخل المساجد للصلاة وكأنها تدخل متجر أو منزل أو أي مقهي، فشعوب الأرض تتحضر جيدا للذهاب إلي دور العبادة، وتلبس أحسن ما عندها وتدخل دور العبادة بوقار وإحترام وتعيش لحظات روحية حقيقية في المكان المقدس، عكس الموريتانيين، حيث أري الكثيرون منهم يدخلون المساجد وحديثهم مستمر دون انقطاع، والملابس رثة وبعضهم يأتي من الورشة أو مكان العمل رأسا إلي المسجد وروائح العمل والعفونة تفوح منه! هذا فضلا عن انتشار القاذورات والروائح الكريهة في مساجدنا. بإختصار الانسان المتخلف، تكون حياته متخلفة وعبادته متخلفة، وسياسته متخلفة واقتصاده متخلف.
• غياب دور النقابات: عملت النقابات دور الحاضنة والحامية لحقوق منتسبيها، ومعظم المكتسبات النضالية والحقوقية يتم اكتسابها عبر نضال نقابي تراكمي لأجيال متعددة، وفي دول الجوار الموريتاني، كانت الأنظمة القمعية والاستبدادية في كلا من المغرب والجزائر وتونس إبان سنوات الجمر والنار تخشي النقابات، وتضع لها ألف حساب، وفي تونس يعتبر الاتحاد العام للشغل وحتي الآن أهم جسم عام، وشريك في جميع السياسات العامة، وغالبا ما لعب دور الأم الرؤوم عندما تدلهم الخطوب، فيعمل علي تقريب الهوة بين شركاء الوطن وفي الغالب يأخذ مسافة متساوية من الجميع، عندنا في موريتانيا، لا توجد تجارب نقابية ناجحة، ومعظم العمال والمهنيين وشرائح القوي العاملة لا تعرف الممارسة النقابية، ومفهوم المناضل النقابي لا وجود له عندنا، وهناك في العالم من حولنا عشرات الرؤساء الذين وصلوا لكرسي الرئاسة عبر النضال النقابي، اشهرهم ليش فاليسا رئيس نقابة العمال "تضامن" في بولندا، الحائز علي جائزة نوبل عام 1983، فني كهرباء الذي لم يتحصل علي شهادات جامعية ولم يكن ابن المؤسسة العسكرية أو الأحزاب.
• الأندية والجمعيات الشبابية: شكلت الأندية الرياضية والثقافية فضاء عام يستوعب الشباب لممارسة هواياتهم الرياضية، وعادة ما تلعب الأندية الرياضية والثقافية في العالم من حولنا دور المؤسسة التربوية التكميلية لجوانب القصور في المؤسسة التربوية العامة، ومعظم الأندية الناجحة في العالم هي أندية أهلية ذات طابع تساهمي، ولمعظمها إسهامات بارزة في الحياة الثقافية والأهلية والجمعوية، عندنا في موريتانيا ولفرط تخلفنا يرتبط النادي في وجداننا بالرياضة، بل إننا أحيانا نختزله في كرة القدم، وقد سمعت من الكثيرين من مجاملي الموريتانيين، "النادي للتركة ولبالون" أي النادي للأطفال وللعب الكرة!
• القمامة وشبكة الصرف الصحي: في العالم من حولنا راكم سكان المدن عبر الاحقاب خبرات ومعارف جعلتهم يتعاملون بطريقة يسيرة وفعالة مع المخلفات عبر سلسلة طويلة تبدأ من الفرد داخل الأسرة وانتهاء بمحطات المعالجة النهاية وإعادة التدوير. في أي تجمع بشري في العالم قاطبة، يتعلم الاطفال منذ الصغر مدي خطورة القمامة والأوساخ والمخلفات المنزلية،وذلك عبر سلوكيات وطريقة تعامل الوالدين مع تلك المخلفات،لذا يكبر الأطفال وهم مزودين بسلوكيات حضارية وراقية في كيفية التعامل معها، فينقلونها إلي بيوتهم الجديدة عندما يتزوجون،من هنا ينتقل هذا المسلك الحضاري الذي تعززه وتعضده المدرسة والشارع والمؤسسة العامة والخاصة وبيئة العمل والفضاءات العامة. في جميع مدن العالم توجد شبكة صرف صحي وشبكة مجاري، ولا سيما في الأحياء، المخطط لها،وفي العالم الثالث توجد أحياء الصفيح(Shantytowns – Bidonvilles) التي تنبت كالفطر علي تخوم المدن الكوزموبوليتانية، لا تتوفر علي صرف صحي أو شبكة مجاري! عندنا في موريتانيا، لاحظت للأسف أن معظم الناس لا يميزون بين قنوات وشبكات تصريف مياه الأمطار التي هي جزء من شبكة المجاري العامة وبين شبكة الصرف الصحي، التي تعني ربط شبكة مجاري كل منزل بالشبكة العامة للحي وللمدينة كاملة، فنظام خزان المجاري المنزلية( فونص)، ودعته معظم شعوب العالم الثالث منتصف سبعينات القرن العشرين.
ألاحظ باستغراب شديد أن النخبة الثقافية والسياسية في موريتانيا تعاني من خلط مريع في المفاهيم حد الالتباس وعدم وضوح الرؤية،فالغالبية التي تريد بموريتانيا خيرًا تتحدث عن النهضة والرقي والتقدم وكأنها تتحدث عن المدنية في أبسط تجلياتها ومقوماتها وسبلها الاجرائية!
العديد منهم يتألم لواقع التخلف الذي ترزح تحته بلدنا ويتحسر علي فرص التنموية المهدورة من قبل ولاة الأمر الذين تعاقبوا علي حكم البلد منذ الاستقلال وحتى الآن! والبعض منهم يغالي في جلد الذات دون أن يقدم البديل التنموي أو الفكري أو السياسي أو حتى الاجتماعي!.
ويصل التسطيح والابتسار ببعض من هذه النخبة الفاقدة لبوصلة التوجيه حد تصور أن مشكلة موريتانيا راهناً تنحصر في إشكالات سياسية بحتة أو الآلية التي يدار بها الشأن العام دون غيرها من العوامل الذاتية!
من أكثر المفاهيم تداخلا في ذهنية وعقلية النخبة الموريتانية مفهومي النهضة والمدنية، ولا زلت أجد صعوبة بالغة في توضيح الفرق بينهما والاشتراط التاريخي اللازم لإنتقال المجتمع والدولة من المدنية الي النهضة.
الكل يعي اننا كدولة وشعب ونخبة نعاني من التخلف المريع وأن الوضع متردي علي كافة الصعد، مع وجود حالات ترقيع وتحسن طفيفة لا تخطئها العين خلال العقد الأخير، إلا أن ثلاثي التخلف(الجهل والمرض والفقر) لازال السمة الغالبة لمجتمعنا، ومع وعي الغالبية بالمأزق الوجودي والإشكال الحضاري لوجودنا كشعب ودولة إلا أن بوصلة التوجيه مفقودة لدي معظم النخبة الثقافية والسياسية والمالية والعلمية عندنا نظرا لتداخل المفاهيم وعدم إدراك لمتطلبات بناء الدول والكيانات العامة، وتجاهل هذه النخبة – لجهل أو عدم إدراك- لبني وأنساق التفكير الاستراتيجي التي أضحت ديدن النخبة والمعنيين بالشأن العام في بقية بلدان العالم،مما شل من فعالية هذه النخبة وجعل الحصاد هزيلا وباهتا لا أثر له في واقع الناس.
فخلال حملات الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي أفضت إلي تبادل سلمي للسلطة بطريقة حضارية راقية، كنت أتابع المشهد عن كثب، وقرأت بتمعن البرامج الانتخابية لكافة المرشحين، هالني أن البرامج الانتخابية لخمسة مرشحين من اصل ستة لا ترقي لمستوي برنامج انتخابي لحملة انتخابات رئاسية - رغم التحصيل العلمي العالي الرفيع المستوي لثلاثة منهم - فهي ليست أكثر من مشروع سياسي هلامي غير واضح الملامح، واستغربت أن يكون مرشح السلطة وابن المؤسسة العسكرية المرشح الوحيد الذي قدم برنامج انتخابي يشابه في أوجه قليلة ما هو متعارف عليه في بقية دول العالم، لكنه قطعا لا يرقي لمشروع مجتمع يمكن أن يحقق نقلة نوعية لموريتانيا وينقلها من التخلف والمرض والجهل إلي رحاب المدنية، فتعهدات الرئيس غزواني التي كتبها في 47 صفحة لا تتجاوز في معظمها الأماني الحسنة والنوايا الطيبة(التي لا تبني الدول)، فالفقرة الوحيدة التي جاءت مشابهة لمشاريع المجتمع المعروفة عالميا هو ما ورد في نهاية الصفحة 29 ( إنشاء 10,000 وحدة سكنية اقتصادية لفائدة سكان الأحياء الهشة بتكلفة ملائمة لمقدرتهم).
بعيد قراءة التعهدات خرجت بانطباع أن الرئيس غزواني حقا يريد القيام بشيء لصالح موريتانيا، لكن حاشيته ومستشاريه الذين أعدوا له تلك التعهدات بلغة عربية رفيعة المستوي، لا علاقة لهم بالتخطيط الاستراتيجي ولا بالكيفية التي يدار بها الشأن العام بأساليب مهنية واحترافية رفيعة المستوي، تعمل علي نقل موريتانيا نقلة نوعية.
الانتقال من البداوة إلي المدنية
جميع مجتمعات ودول العالم من حولنا مرت بمرحلة البداوة – التي كنا ولازلنا فيها- لكنها إنتقلت أولا إلي مرحلة المدنية التي تعني وببساطة متناهية الانتقال من حياة الانتجاع والتنقل وراء الكلأ والمرعي إلي حياة الاستقرار في مدن صغيرة يكبر بعضها مع الوقت ليغدو مدنا كبيرة مليونية( كوزموبوليتان)،هذا الانتقال تتولد عنه ممارسات وتقاليد وأعراف جديدة تنظم الحياة في المدينة ذات التعقيدات الشديدة وتتراكم خبرات سلوكية تتوارثها الأجيال تحسن الحياة في المدينة وتأتي هذه السلوكيات في الغالب تلبية لمتطلبات معيشية وحياتية في المدينة وتظل هذه السلوكيات والممارسات تتجدد بتجدد متطلبات وتتعقد مع تعقيدات حياة المدينة. وخلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة من عمر الحضارة الإنسانية كانت ولازالت النخبة – مع تغير طبيعة وماهية هذه النخبة في كل حقبة وعصر – كانت هي الموجه والبارومتر والبوصلة التي تجذر هذه السلوكيات وتعمل علي مأسستها وجعلها جزء من الحياة العامة والخاصة.وقد ضمن الباحثون وعلماء الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس السلوكي هذه السلوكيات والممارسات التي تتولد في المدينة لتنظيم الحياة بها في القواسم الكونية المشتركة (Global Commonalities)، حيث تتقاطع وتتشاطرها كل المجتمعات الأهلية والمحلية في كل مدينة وقرية في العالم.
وتفاوتت الدول والمجتمعات في الانتقال من مرحلة البداوة إلي المدينة حيث عرفت معظمها الانتقال التدريجي كما حصل منذ ثلاثة آلاف سنة في الصين واليابان وفي بلاد الرافدين وبلاد الشام واليمن والقرن الإفريقي ودول حوض البحيرات والحواضر الشمالية لدول شمال إفريقيا، وفي آسيا الوسطي وفي بلاد فارس وبلاد ما بين النهرين وسلطنة عمان منذ ألف سنة وفي أوروبا الشرقية منذ ألفين وفي أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية وشمال أمريكا ومنطقة اوقيانوسيا في العصر الحديث (القرون الخمسة الأخيرة). وفي القرن العشرين عرفت بعض الدول الانتقال السريع المخطط له وفق آماد زمنية محددة سقفها الزمني عقود قليلة مثل ماليزيا وسنغافورة وكينيا ودول الخليج العربي.
عرفت موريتانيا جزء من التخطيط التدريجي العام للانتقال من مرحلة البداوة إلي مرحلة المدينة منذ الاستقلال الداخلي(1957) ولمدة عقدين من الزمن لكن بوتيرة متباطئة يرجعها الباحثون إلي شح الإمكانيات وقلة الخبرات المحلية الموريتانية التي تدير المرحلة مما استدعي مركزية شديدة التكثيف منذ تلك الحقبة لازالت تطبع الحياة العامة عندنا حتى الآن!
راكمت البشرية تراث باذخ الثراء من السلوكيات والممارسات لمعالجة ومواجهة استحقاقات العيش المشترك في المدينة للتعامل مع القمامة والنظافة العامة ولتنظيم الحياة في المدينة ولتنظيم السير وحركة المركبات وكيفية التعامل مع المخلفات الصناعية والمنزلية وإدارة المرافق العامة والخاصة ولإيجاد متنفسات طبيعية في المدن المكتظة كالمسطحات العامة والغطاء النباتي،الانتظام في الطابور كمظهر حضاري وتطوير وتحسين تقديم الخدمات العامة والخاصة للأفراد والعناية بالبحث العلمي وتوظيفه لتسهيل حياة الناس في المدينة وكمخرجات إجرائية للتطور العلمي تنعكس علي حياة الناس وتيسر حياتهم .......الخ.
الأهم في كل هذا الأمر أن النخبة الثقافية كانت البوصلة والبارومتر الذي جذر وعمق هذه السلوكيات وأنبتتها في التربة المحلية حتى غدت سلوك يومي معاش وطريقة تعامل بين الأفراد في المدينة، وذلك عبر نتاج أدبي وفني وثقافي ضخم يعمل علي تحسين ورقي الذائقة العامة، مرتكزه الثقافة الجمالية التي قوامها المحبة وسبل التعايش السلمي وتقبل الرأي المختلف والتعاون علي تلبية متطلبات العيش المشترك في المدينة والعناية بالمظهر العام والخاص، حيث تغدو الورود والزهور مظهر عام لتحسين المزاج النفسي وزرع ثقافة المحبة والجمال والاعتذار سلوك حضاري شائع في المدن والقرى دون استثناء. وتجد لكل مدينة في العالم تاريخ يمتد إلي نشأتها الأولي يحكي تطور هذه السلوكيات وتجذرها.
مرحلة النهضة تأتي عادة بعد تجذير حياة وسلوكيات المدينة، لأن المدينة شرط صحة لأي نهضة تفتح الباب للتطور والتقدم والتنمية لاحقا. فالنهضة هي حركة دينامكية واسعة تطرأ على مستوى الوعي والفعل تُخرج من الخمول والركود إلى الحركة والتغيير المؤَسّسين على إدراك تاريخي عميق ورؤية إستراتيجية مستقبلية واعية. والنهضة تأتي دائما بعد مرحلة الصحوة ثم اليقظة؛الصحوة التي تصحو خلالها روح الانتماء إلى الأمجاد والتاريخ، وتعتريها عاطفة قوية تـنزع نحو التحرك المندفع، ثم تليها اليقظة التي تُوجه هذه العاطفة المندفعة بإدراك وفهم راشدين،لتتوج بعد ذلك هذه المراحل بنهوض حقيقى يتجلى في بناء فكري عميق يليه بناء فعلي في مختلف المجالات والميادين،ومن نافلة القول أن هذا كله لا يمكن تحقيقه دون إرادة سياسية فعلية وحقيقية.
ما حصل عندنا للأسف في موريتانيا أن تاريخ التمدين وقف عند العام 1978 عندما استلم معاول الهدم (العسكر) الحكم في موريتانيا. فأوقفوا بوعي أو بدون وعي التطور التدريجي للمجتمع الموريتاني – إن كنت أرجح أنهم فعلوا ذلك بغير وعي نظرا لتخلف مداركهم وعدم إلمامهم بمتطلبات مراحل البناء المختلفة للدول والكيانات العامة.
مرد تخلفنا وتردي الوضع عندنا وعجزنا عن التمدن بعد مضى فترة طويلة نسبيا(قرابة ستة عقود) ليس فقط العسكر،بل بالدرجة الأولي يرجع إلى نكوص النخبة الثقافية عندنا وتقاعسها ببلاهة عن ممارسة وأداء دورها التاريخي والتنويري،إنني أقرأ منذ أواخر السبعينات وحتى الآن النتاج الأدبي والثقافي لنخبتنا الثقافية والسياسية، لم أجد قط نتاج تنويري،فالجميع مهووس بالسياسة والفكر ولا تري نخبتنا في الثقافة غير هذا الترف الفكري في مجتمع متخلف وجاهل ومريض وفقير!
معظم النخبة عندنا تعيش في أبراج عاجية مفصولة عن واقع الناس، تلوك في نتاج معرفي للغير، يمثل المرحلة الحضارية التي وصلها الغير، دون أن تعي نخبتنا أن تلك النتاجات تحتاج إلي إعادة صياغة لتواءم التربة الموريتانية.
نخبة تصدعنا بزعيقها حول معاركها الوهمية حول التبادل السلمي للسلطة والديمقراطية وعدد غرف البرلمان وآلية الانتخاب في مجتمع لا زال بدوي حتى النخاع ويطحنه الفقر والمرض والجهل في القرن الواحد والعشرين!
كان حري بنخبتنا طيلة الستة عقود العجاف الماضية أن تعلمنا الثقافة الجمالية التي هي قوام سكني المدن،كان حري بهم تعليمنا كيف ننظم حياتنا في المدينة بدءً من منازلنا مرورا بشوارعنا ومدارسنا ومتاجرنا وأن يعلمونا مدي أهمية نظافة الشارع والمحيط ومدي أهمية الشجرة والزهرة والوردة لحياتنا وصحتنا ومحيطنا، كان حري بهم ان يزرعوا فينا قيم العمل في المتجر والدكان والمحل والورشة والمنجرة والمخبزة والمكتب وفي المؤسسة والشركة وفي القطاع العام والخاص.
كان حري بهم طيلة الستة عقود العجاف الماضية أن يعلمونا قيم الدولة المدنية التي ترتكز علي حق المواطنة وسواسية الجميع أمام القانون وأن يزرعوا فينا أن القبيلة معول هدم تتعارض مع الدولة المدنية وأن الدولة والمدينة هي القبيلة المعاصرة وأننا جميعا أبناء هذه الدولة متساوون أمامها وأن الكفاءة والنشاط والفعالية هي التي تحدد مكانة ومنزلة الفرد في المجتمع في ظل الدولة المدنية ،وأن عراقة النسب والمحتد خرافة وأن المدينة والدولة هي الخيمة الكبيرة التي يستظل بظلها الجميع.
كان حري بهم طيلة الستة عقود العجاف الماضية أن يعلمونا كيف نتدبر أمورنا وكيف نستغل خيرات البلد الهائلة لصالح رفاهنا وأن يثمنوا العمل ويجعلوه قدس الأقداس.
تقاعس النخبة عن أداء دورها التنويري هو ما أسلمنا في غفلة من الزمن إلي العسكر الذين عاثوا في البلاد فسادا وإفسادا بصفاقة لا حدود لها. وهو ما أدي إلي انسداد الأفق أمام الناشئة التي ترتمي تباعا في وحل الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات أو تجندها تنظيمات الإرهاب العابر للقارات.
لو أن نخبتنا الثقافية كانت تدرك أهمية قيم الثقافة الجمالية والحضارية التي تشكل قواسم مشتركة لشعوب العالم قاطبة لجنبونا هذا التردي المريع علي كافة الأصعدة.
في أكثر من مناسبة احضر ندوة أو نقاش عام في موريتانيا، أستغرب من هذا الهروب إلي الأمام، فالجميع يتعامي ويتجاهل إشكاليات واقعنا التنموي ويركزون علي السياسة وكأنها المفتاح السحري لكافة إشكالياتنا الوجودية ومختنقات حياتنا المعيشية وإكراهات واقعنا!
أزمة موريتانيا ليست أزمة حكم أو سياسات بل هي أزمة مجتمع عميقة الغور لن تحلها الديمقراطية او تغيير الحكومات او التبادل السلمي علي السلطة ولا تغيير عدد وشكل غرف السلطة التشريعية ولا تغيير النشيد والعلم ، إنها أزمة مجتمع يعشعش فيه التخلف بكل مكوناته وتجلياته حد أننا عاجزين عن التعامل مع مخلفاتنا وقاذوراتنا والغريب أننا الدولة الوحيدة والوحيدة في العالم التي لا شبكة مجاري او صرف صحي عندها بما فيها العاصمة!
سادتي الأعزاء كما تكونوا يولي عليكم،وحكامنا منذ الاستقلال وحتى الآن هم إفرازات عقليتنا وواقعنا،هم أبناء شرعيين لواقعنا بأنساقه وبناه المعرفية الموغلة في التخلف.هم لم يهبطوا علينا من المريخ بل هم نحن في سدة الهرم.
ولأن تقاعس جل النخبة الثقافية والسياسية قد حرمنا من التطور التدريجي والمرحلي لمجتمعنا فإني أري أنه لزاما علي النخبة الثقافية والسياسية والعلمية والمالية راهنًا أن تشرع كلا من موقعه في ممارسة دوره التنويري وبكثافة أكثر لأن الأزمة عميقة وتحتاج لتكاتف الجهود لإخراج مجتمعنا من عنق الزجاجة. فتأخر الدولة الموريتانية وعلي كافة الصعد وتخلفها عن الركب الحضاري حقيقة لا تجدي حيالها المكابرة وقد كتبت في هذا الأمر سلسة مقالات منذ أواخر العام 2013 تحت عنوان جامع (سلسلة أزمة مجتمع), وفي العام 2016 سلسلة ثانية تحت عنوان( مشروع مجتمع)، حيث قمت بتشخيص الواقع التنموي الموريتاني عبر استخدام لغة الأرقام التي غدت اللغة الأكثر إقناعا في عالم اليوم كمؤشرات دلالية يفصح استنطاقها عن إعطاء صورة واضحة المعالم عن مدي هشاشة وإهتراء وتهتك ما يسمي بالدولة الموريتانية وتآكلها علي كافة الصعد،أرقام صادمة ومؤلمة حد التجريح لكنها حقيقتنا المرة التي لا يمكننا الهروب منها بل يجب مواجهتها بشجاعة ودون الاكتفاء بجلد للذات والعويل والصراخ علي فرص ثمينة أهدرتها نخبتنا السياسية والثقافية في سانحة من الزمن وبغباء لا أجد له مبررا غير الجهل المركب والغرور والصلف وعدم إلمام بآليات التفكير الإستراتيجي, وعكس الكثير من الكتابات الحالية التي تحمل الكثير من التشاؤم واليأس والقنوط حد الإحباط والتي تتقاطع في إرسال رسالة سوداء مفادها أن فرصة تحديث موريتانيا قد فاتت وان قطار المدنية قد تجاوزها منذ ردحا من الزمن وأن لا فائدة من المحاولة! لمثل هؤلاء أقول أنه بالعكس,الفرصة لازالت مواتية وبأفضل مما كانت شريطة أن نتعامل كمخططين ومواطنين ونخبا بطرق تفكير مغايرة للعقلية المتخلفة الحالية وأن ندرك مأزقنا الوجودي وان نتوقف عن التعامي عن إشكاليات الواقع وان نعلن وبشكل جماعي عن رغبتنا في البناء وان نشمر عن ساعد الجد ونقرر نحن الموريتانيون ودون التعويل علي احد غير المولي عز وجل عن عزمنا أن نكون جزءا فاعلا من عالم اليوم وليس علي الهامش كما ارتضينا ولستة عقود من الزمن أن نكون.
للشروع في العمل أري أنه لزاما علينا العمل وبشكل متوازي علي ركيزتين أساسيتان تتقاطعان فيما بينهما:
1. فعلي المستوي المدني والثقافي علينا بتأصيل القواسم الكونية المشتركة وجعلها جزء من حياتنا في أدبياتنا وحياتنا الخاصة والعامة والإشادة بها والحض عليها وتبيان أهميتها.
2. علي بيوتات الخبرة الموريتانية من خبراء وعلماء وباحثين وأكادميين صياغة مشروع مجتمع وافي يكون بمثابة دليل ارشادي لصناع القرار في بلدنا من ساسة(موالاة ومعارضة)ونخبة ثقافية ومالية وعلمية للعمل علي استنهاض الهمة لبناء الأمة بأساليب التخطيط الاستراتيجي.
ودون الدخول في مهاترات كلامية وإستعراض فج للعضلات الثقافية كما إعتادت النخبة عندنا وذلك عبر الإغراق في تأصيل معرفي نخبوي يخرج الموضوع عن سياقاته الموضوعية والإجرائية من خلال التركيز علي الشق الاصطلاحي والأكاديمي لهذه المفاهيم والهوس بالاستشهاد بالمتون وأمهات الكتب للإفصاح عن زاد معرفي موسوعي يشي بسعة إطلاع صاحبه، فإنني سأحرص هنا علي الولوج رأسا إلي الموضوع لأن الأمر لم يعد يحتمل التأخير أو المماطلة أو التجاهل عندما يكون مصير الوطن علي المحك.
لهذا الغرض شرعت في كتابة هذه السلسة تحت عنوان (نهضة الأمم) لتكون بمثابة مشروع مجتمع يعمل علي نقل موريتانيا من التخلف والجهل والمرض إلي رحاب المدنية. والله ولي التوفيق والسداد.
......................يتبع في الغد إن شاء الله.
د.الحسين الشيخ العلوي
4 سبتمبر 2019 / تونس
[email protected]