يكتب العظماء التاريخ ويصنعونه بتضحياتهم وعلو همتهم وخدمتهم لقومهم واممهم، ومن عظماء بلدنا بل أمتنا الزعيم أحمدو حرمة ببانا الذي جمع بين الجهاد ومقاومة المستعمر والنضال السياسي والدعوة إلى الله فشرف موريتانيا بعطائه متعدد الأوجه.
تحاول هذه الفقرات تسليط الضوء على بعض جوانب شخصية وعطاء هذا الزعيم الكبير عليه رحمة الله.
أولا : التعريف والمولد والنشأة:
هو أحمدو بن حرمة بن المختار بن محمذن بن ببان العلوي لأمه مريم بنت أحمد فال ولد محمد الأمين (الننيه) بن أحمد بيب العلوي.
ولد رحمه الله في بلدة لميلحة جنوب موريتانيا حوالي عام 1325ه (1907)م وهي السنة نفسها التي توفي فيها الولي الصالح الشيخ أحمدو بن الشيخ محمد الحافظ العلوي، فحمل اسمه تبركا وتيمنا.
نشأ رحمه الله في بيت علم وتربية وتزكية حيث اشتهرت أسرته بالعلم والعمل والعبادة والزهادة، والتصوف، فجده محمذن بن بابانا شهد له أكابر علماء عصره بالتفرد في العلم وبالصلاح وكانت له مباحثات علمية مهمة مع أعلام معاصريه منها مسألة في مراجع الحبس دارت أحداثها بينه وبين العلامة حرمة ولد عبد الجليل والعلامة محنض باب بن اعبيد الديماني والعلامة باب بن أحمد بيب.
كان المنهج التعليمي في فترة مولد الزعيم أحمدو بن حرمة يعتمد على المحاضر التي كسرت القاعدة المعروفة بأن العلم "ربيب الحضارة وسليل العمران" وأنبتت ما عرف بالبداوة العالمة. بدأ أحمدو رحلته العلمية بحفظ القرآن الكريم كعادة أضرابه في هذا القطر ثم درس بعض العلوم المحضرية السائدة مثل النحو والفقه واللغة والسيرة.
ثانيا: بداية الانخراط في الشأن العام
تطورت مسيرة الفتى المنحدر من البادية العالمة أحمدو ولد حرمة بشكل كبير ليصبح فيما بعد أحد صناع التاريخ محليا وعربيا وإفريقيا، حيث خرج على المألوف ودخل المدرسة الفرنسية سنة 1925م والمثير في هذه المسألة أن أهل هذه الأرض كانوا يرفضون دخول مدرسة الاحتلال الفرنسي حرصا على دينهم وعلى هويتهم الثقافية في سياق ما عرف بالمقاومة الثقافية.
لكن الفتى أحمدو دخل المدرسة لا ليستلب وإنما ليقاوم ويشارك في تأسيس وبناء وطن وفي قيادة جهاد أمة، وبعد إكماله المراحل التعليمية في السنة الدراسية 1934 و 1935 في مدرسة أبناء الأعيان بالمذرذرة عين بعدها الزعيم أحمدو معلما للغة الفرنسية في مدرسة بتلميت إذ كان يدرس فيها أبناء الأمراء و الأعيان .
وبعد مرحلة التدريس عمل مترجما في مناطق مختلفة من البلاد مثل: تجكجة، أطار، امبود، لعيون، بير أم اكرين، نواكشوط، وكان معروفا خلال هذه الفترة بقربه الشديد من السكان المحليين ورفضه لظلم وغطرسة الحكام الفرنسيين وسوء معاملتهم للمواطنين، مما أكسبه علاقات واسعة مع فئات عريضة من سكان المناطق التي عمل فيها شكلت فيما بعد نواة لمشروعه السياسي الذي بدأه في عام 1946م.
ثالثا: الجهاد السياسي 1946 - 1956
لم تكن محطتا التدريس والتوظيف سوى مرحلة عابرة انتقل بعدها الزعيم أحمدو إلى رحاب العمل السياسي المقاوم للاحتلال لكن بذكاء وحكمة وشجاعة، حيث تقدم الزعيم للانتخابات التشريعية التي نظمت في 10 نوفمبر عام 1946 وفاز فيها على منافسه ايفون رازاك بأغلبية 63 بالمئة من الاصوات.
خلال هذه الانتخابات حظي الزعيم أحمدو بدعم الاشتراكيين السنغاليين لما لمسوا فيه من توجه وإصرار لمواجهة المستعمر، هذا فضلا عن الدعم الواسع الذي لقيه في مختلف مناطق موريتانيا نتيجة السمعة الطيبة التي أثمرتها فترة عمله في تلك المناطق.
أحمدو من داخل البرلمان الفرنسي:
لم يدخل الزعيم أحمدو البرلمان بحثا عن سمعة أو مكاسب شخصية وإنما دخله خدمة لبلده ولمنطقتي شمال وغرب إفريقيا وحركة التحرر في العالم، ولذلك فقد بدأ رحمه الله المعركة الحقيقية في خدمة المواطنين وتوحيد البلاد والوقوف في وجه ظلم المحتل الغاشم من داخل قبة البرلمان الفرنسي.
وكان أول قرار اتخذه بعد انتخابه ممثلا للشعب الموريتاني هو إبعاد جميع الحكام الفرنسيين الذين عرفوا بظلمهم وإهانتهم لأبناء بلده.
وفي هذا الصدد يقول أحد الباحثين في تدوينة له على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: "من المعروف أن الانسان قد جبل على حب من اتصف بالإحسان فالحسن تنجذب إليه النفوس بدون رؤية ولا تعقل وانما بالعفوية و الفطرة و كذلك الإحسان يجعل العدو صديقا و البعيد قريبا ولقد كان أحمدو بن حرمه خلال تجربته السياسية يجسد الخصلتين وهما بلا شك الطريق السالك نحو السيادة و المجد؛ فالسياسة كما قيل: "إما مزايا أو عطايا"، وقد سجل التاريخ لهذا الزعيم مواقف وانجازات تكل الألسن دون تعدادها وتقف العقول عاجزة عن إدراك كيفية تحقيقها في ذلك الوقت، ومنها على سبيل المثال للحصر:
- إلغاء بعض الاجراءات الاستعمارية المجحفة بالسكان مثل (العمل القسري)
- إلغاء الضريبة التي يتعين على كل شخص بذاته دفعها
- الضيافة الاجبارية للجنود
- التسخير القسري بكل أشكاله
- فك الأسرى من أيدي المتغلبين المتسلطين المحتلين
ومن أهم إنجازاته أيضا إعادة ترسيم الحدود مع مالي الذي كانت نتيجته إعادة ضم الحوضين الشرقي والغربي إلى موريتانيا، وذلك في يناير 1948 على عهد حاكم موريتانيا الفرنسي الطاغية كريستين لكري.
وفي هذا السياق فقد كان شغل النخبة السياسية المقاومة التي يتزعمها أحمدو ولد حرمة، هو تحرير كامل المنطقة الممتدة من نهر النيجر إلى حدود موريتانيا جنوبا وإلى واد نون شمالا، وقد وقفوا بحزم ضد سعي المحتل الفرنسي إلى تقسيم المنطقة على شكل دويلات وكيانات صغيرة يسهل التحكم فيها وظل إصرارهم على هذا الموقف يشكل مصدر إزعاج لفرنسا ولمشروعها لبلقنة المنطقة.
الزعيم أحمدو وقضية فلسطين:
سجل التاريخ موقفا مشرفا للزعيم أحمدو ولد حرمة عندما وقف تحت قبة البرلمان الفرنسي ضد تقسيم فلسطين، وذهب أبعد من ذلك عندما هدد بالعودة إلى موريتانيا ليعلن منها الجهاد في حال عدم تخلي فرنسا عن دعم الصهاينة.
ونورد فيما يلي فقرات من مداخلته في البرلمان الفرنسى خلال استجواب وزير الخارجية الفرنسي في العام 1948 كوست فلوري بشأن موقف الحكومة الفرنسية من القضية الفلسطينية وهي منقولة حرفيا من محاضر مداولات البرلمان المنشورة في الجريدة الرسمية؛ حيث يقول الزعيم: "بالنسبة للقضية الفلسطينية أقول للسيد كوست فلوري إنه كان صادقا تماما أن دافع عن قضية الصهاينة، وهذا هو واجبه إن كان صهيونيا ولا أجد فيه غضاضة. (ضحكات) ولكن أنا مسلم وأدافع عن مواقف المسلمين في العالم أجمع، إنني جد متعجب أن السيد كوست فلوري قال إنه يجب أن يسمح ليهود أوربا بالهجرة إلى فلسطين، في رأيي فإنه هنا يخدم قضية معادية لليهود، لماذا يود أن يرسل اليهود إلى فلسطين؟ أليسوا مواطنين سعيدين في أوربا؟ ألا توجد دولة متحضرة؟.
ويضيف: (لماذا يخاف اليهود إذا بقوا في أوربا والحال أن النازية لم تعد موجودة؟
إن السعي لإرسالهم إلى فلسطين هو في الحقيقة قيام بنوع من التمييز العنصري ضدهم)
ويضيف أيضا في مداخلته:
(السيد كوست فلوري يريد أن تتخلى فرنسا عن يهود أوربا عن طريق إرسالهم إلى بلد يبدو أنه لا يسكنه إلا بعض المسلمين المتوحشين وحيث لا توجد إلا صحاري قاحلة حسب اعتقاده، إذا لماذا يرسلون هنالك؟ احتفظوا بهم هنا ... إننا نرى أن الإسرائيليين المهجرين إلى فلسطين لهم الحق في المطالبة بأن يكونوا في أوطانهم ودولهم خارج فلسطين.
ويضيف المجاهد أحمدو حرمة محذرا الفرنسيين وناصحا لهم قائلا:
(إننا نحن النواب المسلمون رهينون بالرأي العام الإسلامي، إننا متعاضدون في كلما يمس الشعوب الاسلامية، ومن أجل ذلك فإننا نطلب الآن من الحكومة أن تحاول الرجوع إلى سياسة فرنسا التقليدية فيما يتعلق بالدول الإسلامية، تلك السياسة التي اتبعت مدة قرون والتي لا مبرر للعدول عنها اليوم، بل بالعكس يجب أن تتم تقويتها نظرا للوضعية الدولية الحالية، ففضلا عن العلاقات الثقافية والودية وعن الارتباطات العاطفية التي تقوم بين فرنسا والدول الاسلامية في المشرق فإن المصلحة تستلزم اليوم أن يكون هناك تواصل مع هذه الدول وأن لا يتم خذلانهم في قضايا مثل قضية فلسطين).
وهكذا أقام الزعيم أحمدو هذه المرافعة القوية والشجاعة احتجاجا على اعتراف فرنسا بإسرائيل دفاعا عن فلسطين وقضايا الأمة العادلة. وفي سياق احتجاجه استقال من الفرع الفرنسي للدولية العمالية، ولم يمر هذا الموقف دون لفت انتباه، فقد سلطت صحيفة لموند الفرنسية الضوء عليه في عددها الموالي.
كما لم يغب هذا الموقف المشرف عن الذاكرة الفلسطينية فقد أشاد سفير فلسطين في موريتانيا بهذا الموقف خلال ندوة أقامها مركز شنقيط للدراسات بمباني المعهد العالي للدراسات والبحوث الاسلامية بنواكشوط حول شخصية الزعيم أحمد ولد حرمه حيث يقول:
"وقف أحد أقطاب السياسة الموريتانية وهو أحمدو ولد حرمة سنة 1948، عند قيام دولة الاحتلال في فلسطين، وقف في البرلمان الفرنسي وموريتانيا ما زالت تحت الاحتلال الفرنسي، وقف ليقول بعد أن جمع حوله بعض المندوبين الأفارقة: لو اعترفتم بإسرائيل فإننا سننسحب من هذا البرلمان".
هذا الموقف ينم عن إيمان وشجاعة الزعيم أحمدو ولد حرمة، فهو لم يتصرف بصورة فردية بل تحرك باسم الأفارقة بعد أن حصل على دعمهم لهذا الموقف، وهذا يوحي بحكمته وهو يعرف أيضا أن فرنسا خرجت مثخنة بالجروح بعد الحرب العالمية الثانية، وبعدما كانت أراضيها محتلة من طرف ألمانيا، وهي في الوقت نفسه تواجه ملف المستعمرات وهو ملف معقد فكان تهديد الزعيم أحمدو بالخروج من البرلمان بمثابة رسالة قوية لفرنسا التي تواجه هذه الظروف الصعبة.
جاءت نتائج موقف الزعيم الشجاع أن ألغت فرنسا إرسال ثلاث سفن من ميناء شيربورغر كانت محملة بالمساعدات العسكرية لإسرائيل.
بعد هذه المواقف التي تتسم بالشجاعة والقوة، كان من الطبيعي أن تسعى سلطات الاحتلال إلى التآمر ضد الزعيم أحمدو حتى لا يفوز بمأمورية أخرى في البرلمان وهذا ما حصل في انتخابات 1951 و1956 حيث تم تزوير الانتخابات البرلمانية لصالح منافسه سيد المختار ولد يحيى انجاي.
وفي هذا السياق يقول الوزير و السياسي المخضرم شيخنا محمد لقظف : "حرمه ولد بابانا هو أول من عرف أن معاملات فرنسا الاستعمارية سوف تتغير، وهو كذلك أول من اتضحت له الرؤية قبلنا كلنا في موريتانيا و عمل على أساس ذلك واتصل بحزب كبير ( الحزب الاشتراكي الفرنسي) بواسطة النائب لمين كي السنغالي، وقد ساءت علاقته بذلك الحزب بسبب دعمهم لإسرائيل فرض مصافحتهم وترك الحزب. وجوابا على سؤال حول سبب نجاح الزعيم حرمه في أول انتخابات له كنائب عن موريتانيا في البرلمان الفرنسي، يقول شيخنا ولد محمد الأغظف: "لقد نجح حرمه بعاملين:
الأول: أنه ترشح ضد رازاك غير المسلم وحرمة مسلم ومعروف عنه التقى.
أما العامل الآخر: أن الانتخابات تزامنت مع سقوط تلك المعاملات السيئة التي كان المستعمر يواجه بها الشعب، مثلا عند مرور أي فرنسي يجب على الجماعة التي يمر بها أن تقف كلها وتؤدي التحية وغيرها من المعاملات التي يعتبر تقليصها من إيجابيات حرمة في صراعه ضد الإدارة الفرنسية، هذان العاملان هما من خلقا أكبر تعاطف مع حرمة وقد صوت الشيوخ في تلك المرة له.
و ردا على سؤال آخر حول الأسباب التي أدت إلى عدم نجاح حرمة في المرة الثانية خاصة أن المرشح ضده ليس موريتانيا أيضا؟ كان الجواب:
كان عدم نجاح حرمه بسبب التزوير مثلا، لقد وضع مكتب اقتراع أولاد بو حمد وهي قبيلة مساندة لحرمة تسكن في أمورج وفي باسكنو عند خصومها في تلك الفترة الذين صوتوا لمرشح الإدارة فكان وضع المكتب في مكان تعرف الإدارة مسبقا أن أولاد بو حمد لن يذهبوا إليه، أما مظهر التزوير فهو المتعلق بإعلان وفرز النتائج فقد وصلنا و أنا مترجم حاكم اكجوجت و من مساندي ول يحيى انجاي، مراسلة لاسلكية من اندر قبل وقت الإفطار ونحن في شهر رمضان تقول إنه حسب النتائج المتوفرة من موريتانيا فقد نجح أحمدو ول حرمه، وبعد ست أو سبع ساعات وصل تلكرام آخر يقول إن الفائز هو سيدي المختار ول يحي انجاي، وردا على سؤال أخر عن سبب هذا التدخل الفاضح ضد حرمة؟ كان جواب شيخنا ولد محمد الأغظف:
أولا : لأنه يعادي الاستعمار.
ثانيا: هو متشدد من الناحية الدينية، كما أنه عندما لاحظ طريقة يمكن من خلالها أن يرفض الموريتانيون استبداد الفرنسيين نشط فيها وحقق الكثير.
لقد كانت معاملته مع الفرنسيين جريئة جدا على سبيل المثال حادثة بير أم كرين، إذ كان بعض الحكام هناك أوعزوا إلى حرمة وهو ترجمان أنهم يفضلون أن يستضيفهم للشاي في بيته فوافق، لكن الفرنسيين أتوه في هيئة غير لائقة من حيث الملبس كما اصطحبوا معهم أشخاصا ليس من اللائق قدومهم معهم، فاعتبر أحمدو رحمه الله أن هذا يمثل تحديا، وهو فعلا تحد لأحد مثله ملتزم فطردهم ورمى بحضورهم ما كان قد حضره لاستضافتهم، وذلك ليس سهلا في تلك الفترة وليس في متناول أحد.
وفي رده على السؤال: ما الذي يمثله لكم حرمة بصفة عامة؟ قال الوزير المرحوم شيخنا ولد محمد الأغظف: "في الحقيقة أن حرمة يمثل لموريتانيا رجلا على أكبر مستوى من الناحية التقليدية ومن ناحية دخوله بسرعة ضد المستعمر أمام الموريتانيين حتى شجعهم وعلمهم أن الاحتلال لا بد راحل ولا بد أن يعترف كل شخص بشخصيته ويفرض نفسه، وهو رمز كبير لهذا البلد ... رمز كبير لهذا البلد".
كما يقر الحاكم الفرنسي غابرييل فيرال في كتابه "طبول الرمال" بحصول التزوير في مدينة كيفة، ويعبر عن انطباعاته عن الزعيم حرمه بالقول: لم يسع حرمة أبدا لربط علاقات ودية مع الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، بل ظل يرى فيها العدو الذي تجب مقارعته.
أما والي موريتانيا بيير ماسمير الذي أشرف على تزوير انتخابات 1951 فقد أشاد في مذكراته بعمق فكر الزعيم حرمة الاستقلالي ورأى فيه سبب انقلاب الإدارة الفرنسية عليه: وأشار إلى ذلك بقوله: "حرمة ول بابانا لم يقاوم الإدارة الفرنسية إلا من أجل استقلال بلاده".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد تعرض الزعيم لمحاولتي اغتيال في سانلوي وفي باريس حيث أطلعته جهة استخبارية عربية على مخطط الاغتيال، وسعت السفارة المصرية في باريس لإعداد خطة لإخراجه عبر سويسرا بتغطية من المخابرات المصرية التي كثفت جهودها للإسراع في تنفيذ خطتها قبل أن تكتشفها الاستخبارات الفرنسية التي كانت تتابع عن كثب، كما ورد في تقاريرها فيما بعد أنها كانت تتابع نشاطات حرمة وتحركاته في باريس.
و كذلك بعد أن نشرت جريدة لموند في أحد أعدادها صورا لرجال يمتطون الإبل ويحملون بنادق في مناطق من موريتانيا و الصحراء واقترح صاحب التحقيق ضرورة اعتقال حرمة ولد بابانا، وكان هذا المقال هو سبب تعجيل خروج الزعيم حرمة من باريس باتجاه جنيف حيث أثار شكوكا لدى المخابرات المصرية بإمكانية كشف المخابرات الفرنسية لخطتها من أجل إخراج حرمة من فرنسا فبادرت بإخراجه إلى جنيف التي استقبله فيها السفير المصري و كان على موعد مع الزعيم الجزائري فرحات عباس الذي وقع معه اتفاقا بشأن الكفاح المسلح بين حركات التحرير في البلدين.
ومن جنيف توجه الزعيم حرمة إلى القاهرة وكان في استقباله ضابطان من الاستعلامات المصرية هما فتحي الديب ومحمد فائق، حيث استقبله ورحب به الرئيس جمال عبد الناصر ومنحه حق اللجوء السياسي ووصفه بالبطل القومي.
من مظاهر المواجهة بين الزعيم أحمدو وفرنسا
لم يقبل الزعيم أحمدو أبدا أن يكون مهادنا لفرنسا كما ذكرنا، بل ظل متشبثا بمعارضته لها والسير في خط رفض وجودها في موريتانيا وفرض سيطرتها على السكان والتضييق عليهم في أرزاقهم ومحاولة صدهم عن دينهم وأخلاقهم، وقد اشتهر عنه إظهار العزة والكبرياء في وجه الفرنسيين ومحاولة الحط من قدرهم، وتشجيع السكان على احتقارهم، فكان مثلا يركب في مقدم السيارة في حين يركب الوالي الفرنسي في الخلف وكان الوالي لا يستطيع أن يركب قبله ولا أن ينزل قبله وكان يخفض الصوت في حضرته؛ وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على هيبته وقوته، وهذه حالة نادرة لم يتعود عليها المحتلون.
ولما قررت فرنسا المحتلة قيادة عملية تزوير الانتخابات لإسقاطه أعادت الحكام الذين تمكن الزعيم من إبعادهم لمنازلته في الانتخابات الثانية، وهم الذين أشرفوا على أول انتخابات مزورة تجرى في القارة الإفريقية عام 1951 بموريتانيا وبشهادة الولاة والحكام الفرنسيين أنفسهم كما نصت على ذلك وثائق الأرشيف الفرنسي ومراسلات الحكام في تلك الحقبة التي تم رفع السرية عنها وأصبحت في متناول الباحثين.
ورغم معارضة فرنسا الشديدة للزعيم أحمدو وتهديدها له ولأنصاره، فقد ثبت معه كثير من أبناء بلده خاصة العلماء الذين أعلنوا تأييدهم له وأفتى بعضهم خلال انتخابات 1951 و1956 في موريتانيا بجواز الفطر للناس حتى يتمكنوا من تأدية واجبهم الانتخابى بالتصويت لصالحه.
من مواقف العزة والكرامة والغيرة على العرض والشرف.
اشتهرت عن الزعيم أحمدو ولد حرمة ولد بابانا عدة مواقف بطولية في مقارعة الاحتلال تدل كلها على إخلاصه وصدق نيته في الجهاد، ومن هذه المواقف على سبيل المثال لا الحصر:
- حادثة أطار: وقعت هذه الحادثة قبل أن يصبح الزعيم أحمدو نائباً؛ حيث دعي من طرف الإدارة الفرنسية إلى حفل عشاء في أطار؛ وقام أصحاب الدعوة الفرنسيين باستخدام فتيات موريتانيات للرقص؛ فما كان من الزعيم حرمة إلا أن استشاط غضباً وقام بتكسير الأواني وتحطيم الطاولات وإفساد الحفل احتجاجا على الاستهانة بالمشاعر الدينية للموريتانيين وغيرة على كرامة بنات موريتانيا. وقد أثابه الله على هذا الموقف بنصر كبير، حيث قرر المجلس التأديبي الذي عقد من أجل معاقبته نفيه إلى النيجر، وفي طريقه إليها مر بالسنغال والتقى بالنائبين في البرلمان الفرنسي لامين كي وليبول سيدار سينغور اللذين أخبراه بسعي فرنسا لتوسيع دائرة تمثيل المستعمرات في البرلمان وناقشا معه إمكانية ترشحه لمنصب النائب عن موريتانيا وهو ما تحقق بالفعل.
- الصلاة في وقتها:
حكى السيد محمد المختار بن القاضى من اهل كرو_ المقيم في نواكشوط _ أنه رافق النائب أحمدو ولد حرمه ولد بابانا في رحلة الى بوجومبورة لحضور اجتماع لنواب وسياسيين أفارقة يترأسه الجنرال ديكول، ويضيف السيد محمد المختار: "عقد الاجتماع في قاعة كبيرة ملحقة بكنيسة المدينة، وكان النائب أحمدو ينظر بين الحين والآخر إلى ساعته التي في معصمه، وعندما تأكد أن صلاة الظهر حان وقتها غادر مقعده، وأشار علي أن ألتحق به وكنت أجلس في المقاعد الخلفية أحمل محفظته، ففتحتها وأخرجت منها سجادة أمرنى أن أفرشها في أقصى ركن من القاعة، وكبر للصلاة، فأوقف الجنرال الاجتماع ودار بالكرسي الذي يجلس عليه وأعطى الجلوس بظهره وأخذ يراقب صلاة النائب أحمدو، حتى انتهى ، فأخذت السجادة وطويتها ، واتجه هو إلى طاولة الاجتماع ، فما أن اقترب منها حتى وقف الجنرال دكول وقدم له التحية العسكرية وقال:لأول مرة يسجد لله في هذ البقعة ".
رابعا : مرحلة الدعوة إلى الله 1974 - 1977
بعد مراجعة موريتانيا للاتفاقيات مع فرنسا ورحيل آخر جندي فرنسي من أرضها، وضع الزعيم أحمدو ولد حرمة السلاح واعتزل العمل السياسي حيث يمم وجهه شطر مكة المكرمة مهاجرا إلى الله ومجاورا لبيته، وأعلن تفرغه للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وقد حقق الله له هذه الغاية فهدي إلى الإسلام على يديه خلق كثير، ومن بين هؤلاء عدد كبير من الشخصيات الإفريقية التي شغلت مناصب سامية في بلدانها.
وقد جاب الزعيم أحمدو ولد حرمة العالم ضمن وفود وبعثات رابطة العالم للدعوة إلى وحدة المسلمين وتضامنهم وضرورة التمسك بقيم الإسلام وأخلاقه، وكذلك للاطلاع على أحوالهم. وظل طيلة تلك الفترة يبث برامج دعوية باللغة الفرنسية موجهة إلى الناطقين بالفرنسية خاصة في إفريقية.
وكان رحمه الله يتوجه خمس مرات في الأسبوع إلى مدينة جدة لتقديم برنامج "الإسلام دين ودنيا " باللغة الفرنسية من الإذاعة السعودية الموجهة الى الناطقين بالفرنسية في العالم.
وفي العام 1973 اعتنق رئيس جمهورية الغابون ألبير برنار بونغو الإسلام، وأبلغ الزعيم أحمدو ولد حرمه من طرف الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي أن الملك فيصل سيستقبله شخصيا وأنه وافق على اختياره لمهمة افتتاح مكتب إقليمي لرابطة العالم الإسلامي يكون مقره في العاصمة الغابونية ليبريفيل من أجل نشر الإسلام في تلك المنطقة البالغة الأهمية والحساسية والاطلاع على أحوال المسلمين ومتابعتها، وكان من ضمن ما قاله الزعيم أحمدو للملك فيصل خلال استقباله له: "ما كنت أنوي أبدا أن أغادر الحرمين الشريفين، إلا أني لا يمكن أن أتأخر عن القيام بواجب الدعوة إلى الله ونشر الإسلام، وعليه فإنني أقبل هذه المسؤولية والشرف لي أن أقوم بها، وأسأل الله أن يعينني على القيام بها ".
وكان الشيخ أحمدو ولد حرمه ولد بابانا قد زار جمهورية الغابون العديد من المرات، والتقى بالرئيس بونغو في جلسات نقاش مطولة حول الإسلام، كما قدم له أشرطة لدروس ومحاضرات كان يقدمها عبر أثير إذاعة جدة باللغة الفرنسية.
وبسبب هذه العلاقة بين الزعيم أحمدو ولد حرمه ولد بابانا وبين الرئيس الغابوني تم انتداب الزعيم ضمن وفد إسلامي كبير إلى جمهورية الغابون لحضور مراسيم إعلان إسلام الرئيس “البير برنار بونكو" الذي تسمى لاحقا باسم عمر إثر اعتناقه الدين الإسلامي.
أعلن الرئيس الغابوني اعتناقه للإسلام في مراسيم مهيبة بحضور وفود من الكثير من الدول الإسلامية، وألقى الشيخ أحمدو ولد حرمه ولد بابانا بهذه المناسبة خطابا مؤثرا باللغة الفرنسية باسم وفود الدول الإسلامية المشاركة في هذا الحدث الكبير.
وبعد اعتناق الرئيس الغابوني للإسلام وقدوم الشيخ أحمدو إلى الغابون دفع الرئيس بونغو بأغلب أعضاء حكومته وكذا قادة الجيش لاعتناق الإسلام وبنى مسجدا جامعا بالعاصمة الغابونية ليبرفيل وآخر في مدينة بورجنتيل ثاني كبرى مدن الغابون وفتح مدارس لتعليم أبناء المسلمين واكتتب لذلك الدعاة. وعين بمرسوم رئاسي الزعيم أحمدو ولد حرمة مستشارا خاصا له للشؤون العربية والإسلامية وهو ما مكن الرئيس بونغو من الانفتاح على الدول العربية والإسلامية حيث هيأ له الظروف لزيارة دول الخليج العربي وبعض الدول العربية الأخرى، ولما وصل الرئيس عمر بونغو إلى المملكة العربية السعودية، أمر العاهل السعودي المرحوم الملك فيصل أن يكون الشيخ أحمدو ولد حرمه ولد بابانا مرافقا للرئيس خلال أدائه لمناسك الحج، في هذه الظروف ارتفع عدد المسلمين الذي كان ضئيلا وانضمت الغابون بفضل جهود الشيخ أحمدو ولد حرمه الى منظمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي) ومثلها في عدة مؤتمرات لوزراء خارجية الدول الإسلامية، ودافع عن قضايا المسلمين.
وقد ألقى الزعيم أحمدو في مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي المنعقد بجدة من 12 إلى 15 يوليو 1975 الموافق 1395ه خطابا تاريخيا باسم جمهورية الغابون ومن أهم ما جاء فيه:
"سمو الأمير الرئيس أيها السادة الكرام باسم رئيس الجمهورية الغابونية الحاج عمر بونغو وباسم وفدها يشرفني أن أتقدم للمملكة العربية السعودية ملكا وحكومة وشعبا بفائق شكرنا للحفاوة وحسن الضيافة البالغين اللذين غمرتنا بهما كما نشكرها على ما تقوم به دائما من نصرة ودعم الأمة الإسلامية في أرجاء العالم وخاصة دول المواجهة والشعب الفلسطيني المظلوم.
سمو الأمير الرئيس: إن تطبيق الشريعة الإسلامية والتمسك بالسنة النبوية والفخر بذلك والاعتزاز بالتمسك بها لأقوى دليل على أن الأمة الإسلامية لم تزل بخير ولله الحمد، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه بعض الصحاح: "لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي وعد الله"؛ ويقول الله سبحانه وتعالى “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" صدق الله العظيم. وإننا لنبدي ابتهاجنا بانضمام الجمهورية العراقية إلى مؤتمر الدول الإسلامية ونشكرها على ملء الفراغ الذي كان موجودا في صفوفنا، فمرحبا بك أيها العراق، كما نرحب بوفد نيجيريا كمراقب في مؤتمرنا ونترقب بدورنا أن يكون عضوا كاملا في مؤتمرنا القادم إن شاء الله.
سمو الأمير الرئيس: إن وفد الغابون ليؤيد موقف المؤتمر بطلب جلاء الاستعمار الإسباني عن الصحراء الغربية العربية ونحمد الله على الوفاق التام الذي حصل بين الدولتين الشقيقتين المغرب وموريتانيا ووحدة وجهة نظرهما في قضية القدس السليبة؛ إن من الأسباب الأساسية لإنشاء مؤتمر الدول الإسلامية -إذا لم تخني الذاكرة-هو إحراق اليهود للمسجد الأقصى وتدنيس القدس الشريف، وكان إذ ذاك مؤتمر القمة الإسلامية جد متحمس لإنقاذ القدس من رجس الصهيونية وتحريره، فهل لا زال ذلك الحماس قائما؟ لا أدري! لقد صارت قضية القدس في نظري تتلاشى شيئا فشيئا حتى كأنها لم تكن القضية الأساسية، إلا أن الواقع لا يرتفع، فتحرير القدس هو كل شيء بالنسبة للأمة الإسلامية، ويجب أن يؤخذ بالجدية، يجب أن يكون تحرير القدس هو القضية الجوهرية، فتحرير القدس الشريف هو تحرير فلسطين، ويجب أن تكون القدس هي عاصمة فلسطين المنتظرة، وتحرير القدس هو جلاء اسرائيل عن سيناء وتحرير الجولان وجلاؤها عن المنطقة المحتلة من فلسطين وتحرير القدس هو استرجاع الأمة الإسلامية لعزتها وكرامتها وغسل العار عنها.
سمو الأمير الرئيس: إنّ كل دولة إسلامية يجب أن تجعل نصب عينيها قضية القدس كقضية جوهرية بالنسبة اليها، فقضية القدس ليست قضية دولة اسلامية معينة ولا قضية مجموعة من الدول وإنما هي مسألة حيوية وجوهرية بالنسبة للأمة الإسلامية والدولية، الصهيونية تدرك ذلك كل الادراك، فهي تقول في كل مناسبة وبلا مناسبة إنها لا تقبل مناقشة ولا مفاوضات حول القدس و أنها ستبقى عاصمتها الأبدية، فإسرائيل تدرك أنها لا تزال قاهرة وغالبة للأمة الإسلامية ما دامت تحتل مقدساتها و تتصرف فيها كيف تشاء.
و يضيف في مكان آخر من خطابه حول إسرائيل و تحدياتها:
"سمو الأمير الرئيس: إننا نكثر من ذكر تحديات إسرائيل للمجتمع الدولي أكثر من اللازم حتى صرنا بمثابة الواشي بين الدويلة الصهيونية والمنظمات العالمية، و في الحقيقة أن إسرائيل لم تتحد المجتمع الدولي اكثر مما تحدتنا نحن، فإسرائيل هاجمت مطاراتنا و دمرت أسطولا جويا كاملا و كأن شيئا لم يكن واكتفينا بشكاوي من اسرائيل لدى مجلس الأمن الدولي، و إسرائيل هاجمت زعماءنا و قادتنا في غرف نومهم خيانة و جبنا وغدرا، وإسرائيل قتلت مئات الاطفال في مدارسهم و كأن شيئا لم يكن" انتهى الاستشهاد.
زهده في الدنيا رحمه الله
حكى مدير الكتابة الخاصة للعاهل المغربي المرحوم الحسن الثاني، السيد عبد الحق مرسيل رحمه الله، أن الملك أمره بأن يقتني سيارة للزعيم حرمه ولد بابانا، قال: فاتصلت به وأبلغته بأن لدي تعليمات ملكية سامية بأن أقتني له سيارة، فأجابني بأنه لا يحتاج إليها، لأن السيارة التي لديه مازالت تفي بالغرض، فقط تحتاج إلى إصلاحات طفيفة لكن لا تحتاج إلى تبديل، وعلق بالقول: لم أعرف رجلا بهذه القناعة والعفاف خلال عملي الطويل، للأمانة أين هم أمثال الزعيم حرم ولد بابانا الآن.
وفي نفس السياق شهد قيدوم الإعلاميين المغاربة المرحوم مولاي مصطفى العلوي مدير أسبوعية الأسبوع الصحفي الشهيرة والذي كانت له علاقة خاصة ومعرفة بالزعيم، وقال في شهادته عنه: "الزعيم حرمة لم يكن يهتم بالماديات" اهـ
عبادته ومواظبته على تلاوة وحفظ كتاب الله
وقد عرف عن الزعيم أحمدو ولد حرمة منذ شبابه التمسك بالدين الإسلامي الحنيف وحرصه على أداء واجباته الدينية ولو تطلب منه ذلك التضحية بعمله، وقد تعهد بحفظ القرآن الكريم والمداومة على قراءته وهو الأمر الذي واظب عليه إلى أن توفي.
يروي السيد الداه بن محمد عبد الرحيم بن الطلبه نقلا عن المرحوم ادّ ولد الزين أنه نزل مع أحمدو في فندق في باريس ذات مرة وفي الصباح جاءته فرنسية كانت في شقة مجاورة لهما وقالت له: انصح صاحبك هذا بترك الغناء آخر الليل.. فلما ذكر ذلك لأحمدو قال له إنها طرقت عليه الباب عدة مرات وهو يرتل القرآن تطلب منه أن يتركها تنام .
ولم يكن ينام من الليل إلا ثلاث ساعات حيث يحرص على ختم القرآن مرتين في الأسبوع تهجدا وقراءة.
ومن الشهادات الكثيرة له بالمواظبة على التلاوة ما حكاه الزعيم اليساري المغربي محمد بن سعيد آيت يدر أنه سافر معه سنة 1958م في سيارته من مدينة اكليميم في الجنوب المغربي باتجاه الرباط، وبعد انطلاق السيارة مباشرة بدأ الزعيم تلاوة القرآن بسورة الفاتحة ولم يتحدث مع رفاقه طيلة الطريق وعند الوصول إلى مدخل مدينة الرباط ختم القرآن كاملا بتلاوة سورة الناس.
وقد كان الزعيم أحمدو مواظبا على الورد التجاني معتزا بانتمائه لهذه الطريقة المباركة التي كان يصفها بأنها طريقة العلماء ويقول إن أهلها يعبدون الله على علم .
دعوة لإنصاف الزعيم حرمة ولد ببانا:
رغم كل الجهود الجبارة التي بذلها الزعيم أحمدو ولد حرمة في سبيل تحرير بلاده موريتانيا وتطهيرها من دنس الاحتلال الفرنسي الذي حاول طمس هويتها الإسلامية والعربية، ورغم دفاعه عن عزة وكرامة مواطنيها، فقد ظل عدد من سياسيي ومثقفي هذا البلد يتحفظون أشد التحفظ من الاعتراف له بالفضل ويتجنبون الحديث عنه في وسائل الإعلام كشخصية محورية في التاريخ الحديث لموريتانيا رفع ذكرها في المحافل الدولية وسجل باسمها انتصارات في طريق رفض الظلم والدفاع عن الحريات في عموم الكرة الأرضية.
وللأسف الشديد فقد اختار هؤلاء الحكم على الزعيم من خلال الآراء التي كتبها بعض مناوئيه ممن لم يتصفوا بالمهنية والنزاهة الفكرية، ويكفي من الأدلة على ذلك ما كشفت عنه الوثائق الفرنسية التي نقلت بقدر كبير من المهنية والموضوعية في تقاريرها السرية ووثائق حكامها في الغرب الإفريقي الكثير من أخبار هذا الرجل باعتباره أكبر معارض للاحتلال الفرنسي وأكبر رافض لسيطرته الفكرية والثقافية على موريتانيا وعلى محيطها العربي والإفريقي. ولم يستطع هؤلاء رغم كل شيء محو أفضال الزعيم وصورته الناصعة الجميلة من الذاكرة الشعبية الوطنية حيث ظل حاضرا رغم البعد ومؤثرا رغم القيود ومحبوبا رغم حملات التشويه.
وفي مقابل هؤلاء فقد ظهرت أصوات عادلة تطالب بإنصاف الزعيم وتدعو إلى إعادة الاعتبار له وتثمين عطائه السياسي والعلمي والمعرفي ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر:
- الوالد الشيخ محمد النحوي:
يقول جدنا الشيخ محمد (الراجل) بن النحوي مشيدا بالزعيم أحمدو حرمة:
على أحمد المفضال أسني تحية،، أماطت لثاما عن أقاح وحيت
وترفل في مرطى حرير منطق،، إذا برزت لنا يوما بالعشية
لشياد أركان السيادة بعدما،، تقاصر عن إدراكها كل صيت
فألقيت إسلاما أبيح حريمه،، فأحييت منه أركان كل ميت
- الأديب احميد محنض الذي يقول في مدح الزعيم أحمدو حرمة
معلوم اجدودك صرتك ياللّ سيرتهم جرتك
معلوم انت لا ظرتك عينينُ لا معيانه
ؤ دينك زينُ بامروتك عاطهالك ملان
وان فاخوالي مول هم واشكال اهل ببان
ؤ حج كاست لاخوال كم اللَّ ماهِ حشمانه
- الوزير والعالم والسياسي الكبير الحضرامي ولد خطري: الذي صرح في أكثر من مناسبة وفي وسائل إعلام وطنية ودولية منها قناة الجزيرة القطرية أن التاريخ الموريتاني الحديث لم يظلم أحدا مثلما ظلم الزعيم أحمدو ولد حرمة
- الإعلامي والكاتب الصحفي المقتدر محمد الحافظ ولد محم: كان أول من كتب عن سيرة الزعيم حيث أعد رسالة تخرجه من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية عن حياته وجهاده.
- الإعلامي خطري عبد الرحمن : الذي كتب في مناسبة سابقة ما نصه:
(لا أعتقد أن الزعيم أحمدو ولد حرمة ولد ببانا قد حصل على حقه ولا حتى على الحد الأدنى من الاهتمام والعناية والتدوين والإنصاف؛ ولأن الحديث عن إعادة كتابة التاريخ يستحوذ هذه اﻷيام على اهتمامات الجهات الرسمية ويأخذ حيزا كبيرا من البرامج التلفزيونية والإذاعية؛ ومن الندوات والمؤتمرات والمحاضرات؛ فإن الأمر يشكل مناسبة لأصحاب النيات الحسنة لإعادة الاعتبار إلى هذا الزعيم الوطني الذي كافح وناضل من أجل استقلال موريتانيا. فالزعيم حرمة يعود له الفضل في الكثير من المكاسب التي تحققت للشعب الموريتاني في عهده؛ مما ضاعف حنق الوجهاء والأمراء وزعامات القبائل فتحالفوا مع الإدارة الفرنسية للتخلص منه من خلال تزوير الانتخابات التشريعية للحيلولة دون التجديد له؛ حفاظا على مصالحهم وامتيازاتهم مع المستعمر التي باتت مهددة بتعاظم دعوة الرجل وتزايد أنصاره المنادين برحيل الفرنسيين) .
عودة العائلة إلى موريتانيا
يقول الدكتور عبد الرحمن حرمة ببانا:
اتخذ الوالد أحمدو ولد حرمة ولد بابانا قرارا سريعا أن يعيد العائلة باتجاه المغرب تمهيدا لإعادتها إلى موريتانيا، ولم يكن الأمر بالسهل، إذ كنا للتو انتقلنا من قصر بشارع منصور للسكن في آخر بشارع الزاهر بمكة المكرمة، وما تطلبه ذلك من تكاليف مالية جد باهظة، والأبناء والبنات يدرسون في مدارس مكة المكرمة، والأبناء الكبار يشتغلون في إدارات ومؤسسات بمكة المكرمة وجدة؛ وانتقال عائلة بهذا الحجم أمر يستدعي الكثير من التدبير والتنظيم والترتيبات.
حسم الوالد أمر عودة العائلة نحو المغرب عام 1973 وهيأ رحلة خاصة لذلك، وبقيت أنا وبعض الأبناء معه في مكة المكرمة حيث كان من المقرر أن يؤدي فريضة الحج في ذلك العام مع الرئيس عمر بونغو، وبعد الوقفة مباشرة غادرنا باتجاه الرباط للالتحاق بالعائلة وتهيئة انتقالها من المغرب إلى السنغال استعدادا للعودة إلى موريتانيا التي تمت بالفعل سنة 1977 م.
موريتانيا الهم الدائم للزعيم حرمة
خدم الزعيم موريتانيا وهو في أرضها وخدمها من مقعده في البرلمان الفرنسي وخدمها وخدم مواطنيها وهو في المغرب وفي السعودية وفي الغابون وفي السنغال.
وبعد عودته إلى البلاد وبعد توقفه عن العمل السياسي ظل مهتما بخدمة موريتانيا لذلك لم يتأخر عن التوسط بينها المغرب بعد انقلاب 1978 فقد أوفدته اللجنة العسكرية في مهمة رسمية مرتين إلى المغرب في شهر أغسطس 1978 ونجح في تجنيب البلدين صداما عسكريا، إذ كان البلدان يواجهان مسألة انسحاب الجيش الموريتاني من إقليم واد الذهب وكذلك مسألة القوات المغربية التي كانت منتشرة في الأراضي الموريتانية قبل الانقلاب.
عودته للوطن ووفاته رحمه الله :
لقد كان السيد احمد ولد حرمة مرتبطا بوطنه الأم وحريصا على العودة إليه على الرغم من العراقيل التي وضعت أمامه حيث كان محكوما عليه بالإعدام مرتين ووجد خلال مقامه بالمغرب وفي السعودية من الظروف والامتيازات والإمكانيات ما يجعله يتسلى عن الوطن.. لقد كان الملوك والأمراء حريصون على بقائه في بلدانهم لكنه كان يترقب اليوم الذي يسمح له بالعودة إلى وطنه.
وعندما سنحت له الفرصة من خلال العفو عنه بادر بالعودة إلى موريتانيا لأول مرة بعد هجرته سنة 1974 وشيد منزلا في تمبيعلي محققا بذلك أمنية صاحبته طيلة هجرته كما استقر في نواكشوط وشيد بها منزلا كبيرا سنة 1976 وهو المنزل الذي تقيم فيه أسرته إلى اليوم..
وفاته
توفي الشيخ المجاهد الزعيم أحمدو حرمة يوم السبت 12 شعبان 1399هـ الموافق 7 يوليو 1979 ،
وكان يتلو القرآن الكريم وهو في لحظاته الأخيرة وبحضور العشرات في غرفته قبل أن يسلم الروح إلى بارئها.
ودفن في مقبرة حاضرة تمبيعلي (بقيع الكبله كما وصفها العلامة باب ولد احمد بيب ) حيث يوجد آباؤه وأجداده رحم الله الجميع رحمة واسعة وبارك في عقبه.
يقول العلامة المؤرخ المختار ولد حامد في رثاء الزعيم أحمدو:
أسبل سحائب من رحماك مولانا :: ومن رضاك على حرمه بن بابانا
ونضرة وسرورا لقه وله :: فاجعل مُبوّأه بالنور ملآنا
بوئه في جنة الفردوس منزلة :: مملوءة عُربا حورا وولدانا
يُسقى الرحيق ويسقى الزنجبيل بها :: وسلسبيلا وأعسالا وألبانا
وفاكها يطعم المرحوم فاكهة :: طلحا نضيدا وتفاحا ورمانا
عرفتُ من أحمد الإيمان خالصة :: ومنه أعرف إسلاما وإحسانا
في برلمان فرنسا كان وهْو به :: فذًا يؤدي صلاة وقتها حانا
والصوم في رمضان الفرض يكمله :: كالصوم في رجب نفلا وشعبانا
وكان شفعُ زكاة المال وافرة :: له ببذل زكاة الجاه دَيدانا
إذ كان للخائف المرعوب ملتجأ :: ردءا وللقانع المعتر معوانا
وكان يعتاض من لهو الحديث ومن :: لغو الكلام أحاديثا وقرآنا
مطالعا في كتاب الله آونة :: وفي المسانيد تارات وأحيانا
كان الزعيمُ عميد القوم أحمدهم :: سعيا وأرجحهم في الفضل ميزانا
وكان أحسنهم هديا وأفصحهم :: قولا فتحسبه قسا وسحبانا
ما كان ما كان من قول يساقطه :: إلا جمانا وياقوتا ومرجانا
كانت سريرته الطيبى وسيرته :: فينا مثالا قليلا مثله الآنا
وكِلمة هي في الأبناء باقية :: نرى لها في وجوه القوم عنوانا
هم نسخة منه طبق الأصل تحكمه :: كالماء إن يَسقِ أصلا يُرو أغصانا
فالله يأجرهم فيه ويُخلفه :: فيهم ويلهمهم صبرا وسلوانا
الخلاصة:
كخلاصة لهذا العمل يمكن أن نقول إن الزعيم رحمه الله هو رجل لم يعطه بلده حقه من الاعتراف له بالجميل وتثمين التضحيات رغم كل الصفات الحميدة التي حباه الله بها:
فإن سألت عن القادة فالزعيم أحمدو من أشجعهم وأقواهم وإن سألت عن الدعاة فهو من أصدقهم وأثبتهم وإن سألت عن الزهاد والعبَّاد فهو الناسك المخبت كأنه الفضيل بن عياض أو عبد الله بن المبارك.
يستحق الشيخ الزعيم أحمدو ان يكرم وتدرس سيرته جهادا ودعوة وخدمة للبلد للأجيال الصاعدة،. يصدق عليه رحمه الله ما قال الشاعر:
إذا غمرت في شرف مروم،، فلا تقنع بما دون النجوم.
ملاحظة:
استفدت كثيرا في إعداد هذا النص من صفحة أستاذنا الإعلامي الدكتور عبد الرحمن حرمة ببانا ومن مقالات أخرى مثل مقال الأستاذ محمد الحافظ محم ومقال الدكتور محمد الحنفي دهاه.
ولا يفوتني في ختام هذا النص أن أقدم الشكر الجزيل للوالد الشيخ الدكتور عبد الرحمن حرمة على تفضله بالمراجعة والتدقيق وتصحيح التواريخ والمعلومات وكذلك على الإضافات المفيدة نوعا وكما والشكر موصول كذلك لأخي الفاضل الدكتور يوسف حرمة على التنسيق والترتيب وتزويدي ببعض مما كتب عن الزعيم أحمدو رحمه الله.
اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء
رب اغفر لي ولوالدي ولوالديهم ولجميع المسلمين
والصلاة والسلام على الحبيب الشفيع سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.