في لقاء رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني بالصحافة قبل أيام طرح أحد المحاورين سؤالا يتعلق بالحراك الدبلوماسي الذي شهدته البلاد أسبوعا قبل لقاء الرئيس وعشائه للصحفيين، وما إذا كان ذلك الحراك صدفة أم هو نتاج نشاط دبلوماسي موريتاني، فرد رئيس الجمهورية بأن الوحيد من هذا الحراك مما يمكن وصفه بأنه كان صدفة هو قمة دول مجموعة الخمس بالساحل، ولعله كان يقصد أن تلك القمة واستلام موريتانيا للرئاسة الدورية لهذه المجموعة هو الوحيد مما لم يكن صدفة باعتبارها كانت مقررة ومحددة التاريخ..
ما لم يكن أيضا صدفة، بل كان بعيدا من ذلك خلال لقاء الرئيس وعشائه للصحفيين هو الغياب التام للحديث عن الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز شخصيا، وإن كانت حضرت أسئلة عن فترة حكمه كسؤال أحد المحاورين عن الوضعية المالية التي وجد الرئيس البلد عليها غداة استلامه للحكم، وهو السؤال الذي اقتضب في الرد عليه وأحال المستمعين بشأنه لحديث وزيره الأول أمام البرلمان، ولا ندري هنا لأي حديثيْ الوزير لأول أمام البرلمان يحيلنا الرئيس، هل لحديثة الأول في عرضه لبرنامج حكومته بتاريخ 5 سبتمبر 2019 والذي قال فيه إن حكومته وجدت أمامها الكثير مما هو جيد وستبني عليه وتطوره، وهو العرض الذي جاء بعد مؤتمر صحفي لوزير المالية الذهبي ولد ملاي الزين ومحافظ البنك المركزي الموريتاني عبد العزيز ولد الداهي يومها بشأن الوضعية المالية للبلد بتاريخ 27 أغسطس 2019، أي أقل من شهر على تنصيب رئيس الجمهورية، وأعلنا بالتفاصيل والأرقام عن الوضعية المالية للبلاد، فقدم محافظ البنك المركزي إحتياطي البنك من النقد الأجنبي الفائض عن المليار دولار، بينما قال وزير المالية إن الوضعية المالية على أحسن حال، وهما المسؤولان اللذان لا زالا يقودان نفس القطاعات المعنية بالوضعية المالية.
أم أن الرئيس يحيلنا لتصريحات الوزير الأول أمام البرلمان بتاريخ 29 يناير 2020 عن " الخزينة الفارغة " وهي التصريحات التي أثارت ضجة سياسية ومالية بما حملته من تناقضات ليس مع ما صرح به الوزير الأول نفسه أمام البرلمان قبل أربعة أشهر فقط، بل تناقضها الصارخ مع جدول العمليات الواضح على موقع الخزينة العامة للدولة في نفس يوم تصريحات الوزير الأول، وتكذيب تلك التصريحات أيضا لبيانات أهم مسؤولين ماليين في حكومته عن رصيد الخزينة والبنك المركزي، الشيء الذي لا يمكن تفسيره إلا بأن أصابع الخلاف المستجد بين الرئيس غزواني وسلفه الرئيس ولد عبد العزيز قد لعبت في تلك المعطيات والأرقام وفعلت فيها أفاعيل التشويه والإستهداف.. وإلا فكيف تفرغ خزينة ويفلس بلدا في أقل من أربعة أشهر بعد أن كانت وضعيته المالية على أحسن حال، خصوصا وأن مُقيِمي هاتان الوضعيتان الماليتان المتضاربتان هم من نفس الطاقم الحكومى، وزير أول ووزير للمالية ومحافظ للبنك المركزي؟!
الوزير الأول ولد الشيخ سيديا أيضا لم ينكر الأرقام المعلن عنها من طرف وزير المالية ومحافظ البنك المركزي، ولكنه عمد إلى النبش في أصولها ومصادرها معتبرا بعضها ودائع وليست ناتجة عن مجهود حكومى، بينما لم يختلف الوضع بالنسبة لرصيد الخزينة العامة يوم كان هو يتحدث قائلا بأن بها 37 مليار أوقية، محاولا إرجاع الفضل في ذلك لمجهود حكومته بينما كان نصف ذلك الرصيد دعما خارجيا، 30 مليون دولار دعم إماراتي، و11 مليون أورو دعم ميزانوي أوروبي، ونصفه الباقي من رصيد الخزينة الذي تركته الحكومة السابقة! ثم إن المجهود الحكومى يدخل فيه ذلك كله، تعبئة الموارد الداخلية من ضرائب ورسوم وإرادات، ثم الموارد الخارجية من قروض ومنح وودائع وهبات والتي لابد لتحصيلها هي الأخرى من مجهود حكومي وتخطيط وعلاقات دولية.. هذا فضلا على أنه تناقض وتلاعب بالعقول قدرة الدولة على دفع رواتب عمالها وموظفيها دون تأخير وعلى مدى سبعة أشهر بواقع ما يزيد على 150 مليار أوقية نهاية كل شهر، وتموين السوق بمختلف السلع الأساسية، بل وبفائض منها دون انقطاع لنفس المدة أيضا، وكل ذلك بخزينة فارغة وبلد فالس!
لكن دعونا من ذلك كله وتساءلوا معنا كيف يتم تعيين الوزير الأول لحكومة " الخزينة الفارغة " وزيرا أمينا عاما للرئاسة، ووزير ماليتها على أكبر وأعرق شركات البلاد المعدنية، ومدير " الخزينة الفارغة " وزيرا للمالية، والمحافظ المساعد للبنك المركزي وزيرا للإقتصاد والصناعة، وبقاء المحافظ في منصبه إلى غاية انتهاء مأموريته ليتم تعيينه على رأس وزراة الإقتصاد والصناعة، وتعيين مدير الضرائب في ديوان الوزير، وتخلفه في منصبه المديرة المساعدة له! أليس هذا هو الطاقم المسؤول عن فراغ الخزينة إذا كانت فارغة، وعن عمرانها إذا كانت عامرة؟!
ما كان غياب الحديث عن الرئيس السابق في عشاء القصر ولقائه الصحفي صدفة أبدا كما قلنا، إذ ليس من المعقول ولا المنطقي، ولا حتى من المتخيل أن يحضر ستة صحفيين لمحاورة الرئيس، القاسم المشترك الوحيد بينهم هو المواقف غير الودية المعروفة من الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ويكون أول ما دار في رأس كل واحد منهم عند إبلاغة الدعوة لمحاورة الرئيس هو أيهم يكون له السبق في طرح سؤال عليه حول علاقته بسلفه وحقيقة الخلاف بينهما، ويكون الشغل الشاغل للإعلام والرأي العام المحليين هو الرئيس السابق ورصد شؤونه، غادر ولد عبد العزيز، ووصل، والتقى، وقال لمقربين منه، وظهر في باص للنقل الحضري، وخضع لفحص كورونا في المطار، وتلقى ضربة موجعة، وعومل بإهانة.. ولا يتم طرح ذلك السؤال الذي كان الجميع يتوقع أن يكون هو أول سؤال يتم توجيهه لرئيس الجمهورية بعد أول فرصة يتحدث فيها للصحافة المحلية، إلا في حالة واحدة لا ثانية لها وهي أن يكون محاورو الرئيس تم إلزامهم بالإمتناع عن طرح أسئلة تتعرض للعلاقة بين الرئيس وسلفه، ولا شيء كذلك يبرر تسجيل اللقاء وعدم بثه مباشرة إلا هذه النقطة بالذات مخافة إخلال أحد المحاورين، أو أحد الحضور بذلك الإلتزام فيقع الحرج مما لا يريد الرئيس الحديث عنه، أو لا يراه بذلك الحجم، أو لا يريد فتح الباب لاستغلاله وتعميقه..
فقد أجرى رئيس الجمهورية منذ تسلمه السلطة مقابلتين إحداهما مع صحيفة لموند الفرنسة، ولأنها صحيفة حرة لا تأثير لسلطة على صحفييها فقد سألته عن طبيعة علاقته بالرئيس السابق وقال في ذلك ما قاله، والثانية كانت مع صحيفة الاتحاد الإماراتية، وهي صحيفة تابعة للدولة وغاب في تلك المقابلة الحديث عن العلاقة أو الخلاف بين الرجلين نتيجة للعلاقات الوثيقة التي تربط ولد عبد العزيز بحكام الإمارات، وكونه هو نفسه المؤسس للعلاقات الاستراتيجية بين موريتانيا وكل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والتي سار عليها من بعده رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني.
حيث كانت أولى زيارات دولة له خارجيا زيارته لهذين البلدين، مجسدا بذلك إدراكه، كسلفه، أين توجد مصالح موريتانيا خليجيا، وهو ما عبر عنه أيضا في لقائه الصحفي صراحة من خلال حديثه عن الانطلاق في العلاقات بين موريتانيا وبلدان الخليج من مصالح موريتانيا، وضمنيا من خلال إشارته إلى أهمية الندية والإحترام المتبادل في هذه العلاقات، ملمحا إلى غياب تلك المبادئ لدى الطرف الخليجي الآخر في الأزمة الخليجية، والرئيس وإن كان جديدا على القصر والعلاقات الخارجية للدولة، إلا أنه لم يكن غريبا على هذا الملف، فنُذكر بأنه هو من استدعى في مكتبه السفير القطري في نواكشوط عندما كانت العلاقات بين البلدين قائمة وهو قائد لأركان الجيوش، وما ذلك الاستدعاء إلا لأمر خارج عن المألوف عندما يُستدعي سفير من طرف قيادة الأركان في بلد وليس من طرف وزارة خارجيته كما جرت الأعراف.
الخلاف مع الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، بغض النظر عن حقيقته وطبيعته ومآلاته، ورقة مهمة في إطار شعار الهدوء والانفتاح الذي يرفعه النظام الحالي، فذلك الخلاف حادا كان أم مزمنا، ظاهريا أم عميقا، هو الذي أنسى المعارضة التقليدية كل مواقفها ومطالبها وشروطها السابقة، وكلما أستُهدف ولد عبد العزيز كلما تقلَّم المزيد من أظافر المعارضة وابتل المزيد من ريشها، وكلما ثقل سمعها وضعُف بصرها وانعقد لسانها، وبالتالي خفت صوتها بما يخدم شعار الهدوء، حتى وإن كانت شعاراتها القديمة حول الحوار الجدي الشامل، والتغيير الجذري، والديمقراطية الحقيقية، والقطيعة مع الماضي لا يزال تحقيقها بالطريقة التي تنادي بها يُراوح مكانه، ولم يكن هذا هو حال المعارضة كأحزاب من حيث استثمار النظام للخلاف مع مع ولد عبد العزيز كمقاربة للإحتواء، بل أصبح أيضا هو حال أقلامها التي كانت الصحف والمواقع والمنابر تعج بالهجوم على الرئيس السابق وهو في السلطة، وبالحديث حول نفس الشعارات والأهداف، الحوار الجدي الشامل، والتغيير الجذري، والديمقراطية الحقيقية، والقطيعة النهائية مع الماضي.. فاختفت تلك الإقلام، ومن لا يزال يظهر منها تجده ( يطَّمَّصْ ) لما يلوي عليه في مواقفه الجديدة لاجئا للشكليات والثانويات كمُسوغ لانعطافته!
وعلى أية حال فسهلة هي تحديات موريتانيا ومشاكلها إذا كان خلاف بين رئيس سابق وآخر لاحق كفيلا بحلها، وضحلة هي كذلك وهزيلة ومُبتذلة مواقف و" نضالات " قادة معارضتها ونُخبها إذا كان ذلك الخلاف أيضا كاف لاحتوائها.
محمدو ولد البخاري عابدين