مدينة شنقيط من مدائن هذه البلاد التي تحتفظ بخزان نادر من المخطوطات التي طبعت أصولها في مغربنا ومشرقنا العربيين، ولم يستطع محققوها أن يصلوا إلى هذه النسخ بسبب قلة التواصل، وعدم التعريف بالمكتبات التي تضم تلك النفائس. ولقد كنت دائما وبسبب شغفي بالتراث العربي والإسلامي، أطالع معظم تلك الكتب التي تصدر خارج الوطن، فتبقى ذاكرتي منشغلة بما أطالع، فلا أبقى طويلا حتى أكتشف أن أصلا من تلك الأصول قد ذكر في مكتبة من مكتبات بلاد شنقيط، أو مدينة شنقيط ذاتها، فأذهب أطالع فيه فإذا بنسخة نادرة من تلك المخطوطة توازي أو تزيد على الأصول المحققة، وهذا ما وقع لي مع مخطوطتين من كتابين نادرين، صدرا منذ فترة في مشرقنا العربي، وأقصد بالذكر: الغريبين في القرآن والحديث، لأبي عبيد أحمد بن محمد الهروي المتوفى 401هـ، وهو بتحقيق ودراسة أحمد فريد المزيدي، ومحاسن النساء، لأبي جعفر أحمد بن أحمد السلمي الأندلسي، المتوفى سنة 747ه، بتحقيق عبد البديع مصطفى عبد البديع.
وكان اكتشافي لهذين النصين يعود إلى فترات من بحثي الدائم عن نوادر المخطوطات في مكتبات شنقيط، فالنص الأول وقفت عليه في هذه السنة أثناء عطلتي الصيفية في المدينة في مكتبة شخصية، هي مكتبة دحان بن سدي أحمد بن دحان، وهي مكتبة غير مكتشفة ترقد فيها مخطوطات نادرة من بينها، هذا النص الذي نتحدث عنه. فلقد كنت في صبيحة أحد الأيام أتحدث معه عن التراث الشنقيطي حين أخبرني أنه يمتلك نسخة من مخطوط لا يعرف اسمه بسبب رداءة الحفظ والحالة السيئة له، حيث أكلت الأرضة بعض جوانبه، وضاعت ورقته الأولى والأخيرة، فما كان مني إلا أن عكفت عليه بعض الوقت لأنقل منه نصا أو نصين، لأبحث عنهما في مصادري الخاصة. ولما عدت إلى المنزل، نظرت في الموضوع، فإذا هو يخبرني أن ما أبحث عنه هو كتاب الغريبين في الحديث، وأنه مطبوع ومحقق في ستة أجزاء، وأن هذه النسخة جديدة لم تكن من بين الأصول التي ذكرت في التحقيق. فمن هنا عرفت أن هذه الأصول التي تمتلكها بعض هذه المكتبات، هي نسخ فريدة لأصول مطبوعة تجب معاينتها والتأكد من أهميتها، وما قد يكون بها من جدية وطرافة، وزيادة ونقص.
ونضيف هنا إلى أن هذه المخطوطة لكتاب: الغريبين، تعتبر نادرة بحكم أنها لعالم من علماء القرن الرابع الهجري، فوجودها يعزز مخزون مكتبات شنقيط من التحف النادرة التي تعود إلى القرون الأولى للثقافة العربية. والنسخة مع هذا وذاك منسوخة بخط النسخ، مع تلوين بعض الآيات والأحاديث النبوية الشريفة.
أما النص الثاني فهو كتاب نادر لأحد علماء الأندلس، وقد جلبت نسخته في سنوات مضت، ولم تكن وسائل البحث قد تقدمت، فطالعته في شكله، ولم أتبين ساعتها مقدار أهميته وندرته، وذلك بسبب عدم معرفة اسم المؤلف، غير أن المادة نادرة بحكم ما تضمنته المخطوطة أو الباقي منها من أشعار وطرف، وأدب وظرافة، عن موضوع النساء وما يتعلق بهن. وبسبب ذلك الجهل أعدت الكتاب إلى مالكه، غير أنه استهواني، وبقي في ذاكرتي، حتى تيسر لي أن أعود إليه هذه السنة بشيء من البحث والتنقيب، فأعرته من صاحبه إمام مسجد شنقيط، الفقيه ابَّ بن المد، وعكفت عليه حتى نقلته من أصله، ثم راجعت مصادري، فإذا بي أكتشف أن الكتاب مطبوع هو الآخر، ومحقق، غير أن بعض الزيادات تتوفر في نسختي، وهي خارجة عن الأصل المطبوع أو على الأصح ما راجعته من الكتاب على النسخة العنكبوتية. كل هذا وذاك يفيد القارئ بأن مكتبات شنقيط غير مكتشفة، وتحتاج إلى متخصصين في البحث عن الأصول النادرة، حيث أن كثيرا من مصادر التراث المطبوعة في خارج الوطن تتوفر لها أصول في مكتباتنا العامرة مثل مكتبات ولاتة وتيشيت ووادان، وقد وقفت على بعض منها.
إن مثل هذه البحوث، وفي هذه السنة الموسومة بسنة: انواكشوط عاصمة للثقافة الإسلامية لتعتبر شاهدا حيا على عمق ثقافة هذه البلاد، وبما كانت تمتلكه في أعصرها الخالية من المخطوطات النادرة التي جلبتها أياد أمينة وأودعتها خزائنها، ونهل منها القاري الشنقيطي في تلك الأزمان