لم يعد خفياً أن الرئيس السابق كان يسعى للتحكم في خيوط اللعبة من خلال أذرع تأخذ عدة أشكال وتتموقع طبقاً لمعرفة الرجل بأسرار دولة خابرها أكثر من ثلاثة عقود، بدا ذلك واضحاً من خلال تعييناته في الوقت الضائع، فليس اختيار مدير ديوان مقربمنه لشغل منصب سفير موريتانيا في فرنسا سوى جزء من سيناريو له أبعاده الداخلية والخارجية.
لقد كانت كل المؤشرات توحي بأن ولد عبد العزيز قدبدأ الاستعداد مبكراً لمعركة طويلة الأمد، ستعتمد في نظره على الشق السياسي، على الأقل في الظاهر، ليكون بمثابة كلمة المرور للعودة من النافذة، لكن رفيق الدرب كان على دراية تامة بزميله الذي عايشه لعقود، وكان من الطبيعي والحالة هذه أن تأخذ المواجهة بين الرجلين أشكالاً أخرى بعيدةًعن الأنماط التقليدية التي اعتادها العسكريون لتصفية حساباتهم.
كانت إقالة ضباط من الحرس الرئاسي هي أول الرسائل القوية من ولد الغزواني لإحداث قطيعة بين القصر الرمادي ومن كان بالأمس القريب يعتبر نفسه الوريث الشرعي لكل كراسيه، والحقيقة أن خطوة كهذه، رغم كونها أجّلَت أحلام عزيز بالعودة، إلا أنها جعلت المواجهة بين الرجلين تأخذ عناوين أخرى أكثر حدة، وأكثر تهديداً لأمن البلد، فالسّماح بعودة رجليْ الأعمال بوعماتو ولد الشافعي إلى الوطن، وتكوين لجنة برلمانية للتحقيق في ملفات فساد العشرية، عجلت باستخدام عزيز لأوراقه الاحتياطية في المواجهة.
ويُعد تصريح البرلماني والحقوقي بيرام الداه اعبيد في جنيف واتهامه لموريتانيا بأنها دولة تمارس نظام الميز العنصري أول خطوة تصعيدية من قبل عزيز، خصوصاً وأن المراقبين للشأن الموريتاني يطرحون الكثير من نقاط الاستفهام حول العلاقة التي تربط عزيز ببرام، فسبق لولد اعبيد أن أنقذ نظام ولد عبد العزيز من ارتداد هزات الربيع العربي، حين خطف الأنظار في 27 ابريل 2012 من خلال حرقه لمجموعة من كتب الفقه المالكي، وحول بذلك كل عناوين الغضب التي فرضتها المرحلة ضد نظام عزيز إلى شخصه، وبذلك استطاع أن يمنح الرئيس وقتها فرصة لإعادة ترتيب أوراقه ليظهر بمظهر الناسك والحامي لحمى الإسلام في هذه الربوع.
ملف الشرائحية كان الفزاعة التي استخدمها الرئيس السابق في محاولة منه لامتصاص موجات الاحتجاج التي شهدتها موريتانيا خلال ما سُمي بالربيع العربي، ولا يستبعد أن يكون الرجل قد حرك خيوطاً كانت هادئة في محاولة منه لتشويه نظام غزواني في المحافل الدولية.
المثير للاستغراب هو تزامن الأسلوب الحاد لبيرام اتجاه النظام الحالي مع عودة ولد الشافعي وولد بوعماتو، ذلك أن الداه اعبيد سبق أن أشاد في تصريحات سابقة بنظام غزواني وبتفهمه للمشاكل المطروحة. ولايخلو هذا الصراع من عوامل أخرى سبق لمسؤول أميريكي توضيحها، حين قال: "إن دول الساحل عاجزة عن مواجهة المشاكل الأمنية وحدها"، في إشارة واضحة للتقليل من دور المستعمر السابق في حماية المنطقة، والعارفون بالشؤون الإستراتجية يدركون جيداً ماذا تعني مكافحة الإرهاب في حوض تاوْدَنِي فقط، ومادلالة استخدام الملفات الحقوقية في المناطق الغنية بالثروات والتي لاتمتلك الامكانيات المادية والبشرية لاستغلاها.
وأياً كانت العناوين التي يتصارع الرئيس الحالي وسلفه تحتها، فإن المرحلة التي تمر بها موريتانيا تتطلب الكثير من الحكمة والتعامل بحذر مع جميع الحساسيات التي تُثار، عن قصد، بين الحين والآخر والتي لن تخدم النظام السابق ولا الطبقات المهمشة، بقدرما ستشكل خطراً حقيقياً على الأمن القومي لبلد يواجه أطماعاً متزايدة من قبل شركات كبرى، فنحن أمام احتمالين لا ثالث لهما، فإما التعايش بسلام والاستفادة من موارد تسع الجميع، أوالدخول في دامة صراع داخلي سيفقدنا كل شيء...
د. أمم ولد عبد الله