إن السلطة للشعب لا خلاف على ذلك على الأقل من الناحية النظرية، وغايتها تعظيم المصلحة الجماعية مع التقيد بأخلاقية الأفعال المؤدية إلى ذلك، وهو ما يقتضي اعتبارات متشعبة لا يسع الموضوع الدخول في تفاصيلها، وهي من زاوية أخرى تتويج مسار رجل -أو امرأة- عبر اختيار الشعب، انتقاء له أو اعترافا بتكلل مساره إليها، ويبدو أنها عندنا مازالت أقرب إلى الثانية من الأولى أي أن الشعب إنما يعترف عبر الاقتراع بتكلل مسار صعود رجل إلى السلطة، فالانتخاب الرئاسي لايزال أقرب إلى المصادقة من الاختيار.
يمضي السياسي عمره يهيئ نفسه للحظة الوصول إلى السلطة فيجمع مؤهلاتها ومعطياتها ورجالها، أما العسكري فيمضي عمره في تطوير حسه الأمني مكرها على التكتم على طموحه الرئاسي، وحين يصل إلى السلطة يجد نفسه مبهوتا عاجزا حتى عن تشكيل فريق حكومي مقنع قادر على مساعدته على تصور وتنفيذ مشروع تنمية. في التناوب الأخير، حدث تحول جوهري فقد أصبح العسكريون -جزاهم الله خيرا-! يتناوبون على السلطة عبر الاقتراع، وذلك وإن لم يجنبنا ضعف أدائهم فهو على الأقل يجنبنا ما يترتب على التغيير غير الدستوري من أزمة وعقوبات.
الصحي أن يتناوب السياسيون على السلطة، لكن حالتنا المرضية تبدو مزمنة لا يلوح لها علاج، فمنذ1978 تكررت التجربة بما فيه الكفاية لنتبين جميعا أن مسار الوصول إلى السلطة مسار عسكري، ولندرك عجزنا كأمة عن تقديم التضحيات الضرورية للوقوف في وجه ذلك، فعلينا واقعية أن نخفف من أثره التنموي. علينا أن نضمن أن تسلك هذا المسار خيرة العقول -على أمل أن لا يتم اغتيالهم خلال التكوين رعونة أو سادية كطالب الأكاديمية- وعلينا أن نرصفه بالمؤهلات العلمية والاقتصادية والفكرية لأن إشكالية التنمية، رغم أهمية البعد الأمني، ليست مجرد معادلة أمنية .
لا يمكن أن تسير الدول اليوم بمنطق الخليفة العباسي، يعطي صفقة لهذا ومنصبا لذاك ويوزع صدقات على هؤلاء لأنه المتفضل، عطوف على المحتاجين ولا يرد سائلا، لا يفرق في ذلك بين ماله ووسائل الدولة، ما هكذا يتم تسريع التنمية. إن التنمية تقتضي إدراك آليات توسعة إطار العملية الإنتاجية وأن يعيش الناس من الثروة التي يخلقون من خلال مشاركتهم في العملية الإنتاجية والخدمات المرتبطة بها، ويجب أن ترصد الوسائل لذلك عبر خطة محكمة، كما يجب ألا نقبل أن تخلق الإجراءات الاجتماعية رغم أهميتها بيئةالركون إلى "الاستعانية". لسنا بحاجة إلى حاكم متفضل يلهج بالثناء عليه كل من لقيه لأن حاجتهقضيت، لم يعد هذا عصر الحاكم المتفضل.
إذا كان العسكريون هم من سيقودون سفينتنا -وذلك حتى الآن ما تشهد به بينة التجربة- فعلينا أن نؤهلهم لذلك خلال مسارهم العسكري، لأننا إذا حاولنا رفدهم بالمؤهلات بعد الوصول إلى السلطة فقد لا نتمكن من ذلك لأن الآمر يصعب تعليمه، وحتى وإن أمكن، فإننا سنفقد سنوات تعليمه جمودا أو ارتجالية، ولا يمكن من كل عشرية أن نفقد ثلاث سنوات أو أربع في تكوين رأس السلطة. علينا أن نعطي التكوين العلمي والاقتصادي والفكري للضباط عناية على قدر احتمالية قيادتهم لمستقبلنا، وأن نختارهم من خيرة عقول أبنائنا، لأن التنمية تتطلب ذلك وتستحقه، ولأن مستوى من العلم ضروري للفهم والتمييز والترجيح، والترجيح جوهر دور صاحب القرار. دون علم يثمر العقل شيص الرأي، ليرفعه التملق حقيقة مطلقة، لا يشكك فيها إلا حاسد أو خائن !!
وفق الله وأعان
د. م. شماد ولد مليل نافع