مما يثلج الصدر ويدعو للإعتزاز والفخر أن يتم تكريم بلادنا من طرف منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة، باعتماد أنواكشوط عاصمة للثقافة الإسلامية برسم السنة الجارية 2023.
والحقيقة هي أن منظمة الإيسسكو قد تبنت منذ سنة 2001 برنامجا يسمى "عاصمة الثقافة الإسلامية" يسند سنويا إلى ثلاث مدن إسلامية عريقة واحدة عن كل من المناطق الإسلامية الثلاث: العالم العربي وأفريقيا وآسيا، و تضاف إليها عاصمة البلد الذي يستضيف المؤتمر الإسلامي لوزراء الثقافة الذي ينعقد كل عامين والذي سينعقد فعلا هذه السنة في انواكشوط. ولعل هذا المعيار الأخير هو الذي بموجبه جاء قرار اعتماد أنواكشوط ضمن هذه الصفة إلى جانب ثلاث عواصم اسلامية أخرى هي بنغازي في ليبيا، وسلاغور في ماليزيا، ومقديشو في الصومال.
ولكن ولكن.. إذا وضعنا جانبا -ولو للحظة- هذا الشعور العارم بالزهو والإرتياح والتفاؤل المشروع، أليس حريا بنا أن نتساءل بكل جيدة عن ما الذي أعددناه نحن كبلد وكدولة وكمجتمع للنهوض فعليا بحمل هذا التشريف العظيم الذي ألقي على عاتق بلادنا؟ ولا شك بأن هذا التساؤل يأخذ أبعادا جدية أكثر إذا تذكرنا بأن بلادنا سبق لها أن أعتذرت رسميا عن نفس هذا التشريف قبل إثنتي عشر سنة، بعد أن قبلت التحدي وعملت طيلة ثمانية أشهر من الإستعدادات لتنفيذ دفتر الإلتزامات الخاص بالتظاهرة سنة 2011 ، ولكن في الأخير، عبرت الحكومة الموريتانية آنذاك عن تخليها عن المضي قدما في هذا المشروع بسبب عدم الجاهزية معللة قرارها بعدم استعداد موريتانيا للحدث بشكل عام بسبب غياب البنى الثقافية و المنشآت العامة القادرة على احتضان الإحتفالية..
وإذا تجاوزنا جدلا معضلة غياب البنى التحتية الثقافية- وهي معضلة حقيقية، لأن الثقافة بمفهومها العالم أو الكلاسيكي، مرتبطة في الصميم بوجود المسارح والأوبيرا، والمكتبات و دور النشر، وقاعات السينما، والمعالم والمزارات والمتاحف والمعارض والنوادي والمقاهي والمطاعم الثقافية، إلخ. - فأين هو المحتوى الثقافي وأين هي المنتجات الثقافية المقنعة التي أعددنا لقرى الضيوف في المجالات الثلاث: التربية والثقافة والعلوم؟
وعلى سبيل المثال: كم كتابا جديدا نشرنا خلال السنة الماضية؟ وكم مسرحية كتبت وجرى تمثيلها على الخشبات؟ وكم مسلسلا أنتجنا؟ وكم فلما أخرجنا؟ وكم لحنا جديدا ابتكارنا؟ وكم حققنا وطبعنا من الأربعين ألف مخطوطة المحفوظة في الخزائن الأهلية؟ وكم أنشأنا من "سحابة معلوماتية" cloud computing على الأنترنت في مجالات التربية والثقافة والعلوم لكي يستفيد شبابنا وتلاميذنا وطلابنا من مزايا الطرق السيارة للشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الإجتماعي، بدل أن يتسكعوا في أزقتها الهامشية ويعلقوا في أوحالها ومستنقعاتها، متدثرين في فقاعات من التنابز والسباب وسقط القول؟
وإذا ما جئنا إلى الثقافة ذاتها ، هل لدينا مفهوم مبني علميا للثقافة؟ وهل نتحدث عن ثقافة أو ثقافات؟ ما مكانة التعدد الثقافي بمعناه الواسع في مشروعنا الذي سنقدمه للضيوف؟ الثقافة لم تعد مقتصرة على الشعر والنثر والموسيقى والثقافة العالمة فقط.. بل هناك عوالم الثقافات الجديدة التي يدخل في نطاقها الغناء والرقص والمدح والردح، وبندجه والخط والرسم على الجدران، ولغن، والنيفارة وام ازغيبه، والتبربير، وهيري هيري، ولعب الطبل، واكرور وظامت، واخبيط الشاره، ولز الخيل والحمير، والألعاب والوجبات التقليدية، وجميع أشكال الفلكلور الشعبي..
ثم أين هي مكانة ودور المثقفين والمبدعين والأدباء والكتاب والناشرين والممثلين، والصحفيين، ونجوم الموسيقى والغناء والطرب، والجمعيات الثقافية الأهلية ومنظمات المجتمع المدني في التظاهرات المرتقبة؟
هل نحن فعلا جاهزون لرفع التحدي؟ ذلك ما أتمناه حقا.. ولكن..
كان يقال بأن الثقافة هي كل ما يضيفه الإنسان من جماليات على الطبيعة البكر، وأنها هي عنصر الجمال زائد عنصر الذاكرة.. لكن الثقافة اليوم قد أصبحت صناعة واقتصادا ثقافيا له منتجات وسوق، ومستهلكين ورواج، وتنافس.. وله واستراتيجيات، واستثمارات وخطط وبرامج عمل وفاعلين متخصصين ودعم وتحفيزات..
الثقافة لذاتها ؟ أم الثقافة من أجل إلتزام معين؟ جدل قديم متجدد.. على كل حال، ربما قد يشكل تغليب البعد الجمالي على البعد المعرفي النقدي "خيانة" للثقافة نفسها..
أنا من جيل تعب كثيرا -بلا جدوى- من أجل الثقافة في هذا البلد، لكنني أخشى أن تكون الثقافة تلفظ أنفاسها الأخيرة.. ومع أني لا أحب تلك الجملة الشهيرة لوزير الدعاية النازي غوبلز : "عندما اسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي" ، ولكن بما أن الثقافة مهددة بالتخلي عن وظيفتها النقدية المعرفية التي ازعجت ذلك النازي ذات يوم، فأنا المرابط الأعزل عندما اسمع عِبارة "ثقافة" فإنني أتحسس نعلي ..