لقد كانت المسألة الثقافية من أشد القضايا التي شغلت الساحة السياسية الموريتانية حساسية بعيد الاستقلال وقبله، غير أن التطور الجديد حدث إثر تغيير هام في ميزان القوي لصالح اليقظة الثقافية العربية التي انفتحت لأول مرة علي العالم الخارجي والفكر النهضوي العربي بالذات، ذلك أن المراحل الاستعمارية الأولي (قبل 1946) شهدت بوضوح احتضان الإدارة الاستعمارية للتجمعات الزنجية علي ضفة النهر، حيث خلقت منها المثقفين "المدرسين" والموظفين الأوائل. غير أن الإدارة الاستعمارية ما لبثت أن اختارت التعامل مع الأغلبية العربية التي بدأت تؤطر بقوة الساحة السياسية الداخلية.
وشيئا فشيئا بدأ ميزان القوي الإثني في الاختلال لصالح هذه الأخيرة التي دعمت سلطتها بقوة من خلال الحكم الوطني الاستقلالي الجديد. هذا في وقت شكلت فيه الايدولوجيا النهضوية العربية مصدر ردود الفعل الأساسية التي عبرت منها الانتلجنسيا الثقافية العربية المتعاظم دورها، والمتطلعة بطموح إلي خارج الحدود القطرية حيث يتم تشييد الأرضية الفكرية للمشروع النهضوي العربي. وبذلك سجلت هذه الأنتلجنسيا (منحدرو التعليم التقليدي وخريجو المعاهد العربية في المشرق) النخبة السياسية المعارضة التي لم تجد من رد علي النزعة الإقليمية الضيقة للنظام والرفض الرسمي العربي سوي التوجه إلي قوي اليسار الأيديولوجي العربي المناهضة للحكومات العربية وسياستها الوطنية، وبذلك جعلت من الهوية العربية للبلاد برنامجا سياسيا كاملا.
يقول بالانص: "لقد كانت الهوية العربية هي الرد الوحيد علي صدمة التحديث وتضامن الدول العربية مع السلطات المغربية، (....) ذلك أن مجتمع (المور) كان منقسما، في فترة الاستقلال، علي تيارات مختلفة –ليبرالية، تقدمية، تقليدية- تشهد جدال أجيال. ولكنهم تواجدوا جميعا، وقتها، في ما أسماه العروي "وجدانا تنويريا" استمر في الربط بين العروبة والدين الإسلامي، وبين اللغة التاريخية والآداب التقليدية. وفي سياق الاستقلال السياسي والتواجد مع "رعايا آخرين" غير عرب، يصبح هذا الوجدان التنويري مرتكزا لهوية (المور)".
والواقع أن مثل هذه المشاعر هي ما سيطر علي البرنامج السياسي المعارض الذي أطره القوميون العرب في موريتانيا، والداعي إلي ترسيم اللغة العربية وإحلالها في التعليم والإدارة محل اللغة الفرنسية. وهو المسعي الذي لم يكن أمام النظام إلا الخضوع له جزئيا من خلال إقرار الازدواجية وإجراء تعديل دستوري يجعل من اللغة العربية لغة رسمية في البلاد إلي جانب الفرنسية.
وقد كان من نتائج إقرار اللغة العربية في التعليم الثانوي أن عبر التلاميذ الزنوج عن احتجاجهم، فقاموا في 4 يناير 1966 بالإعلان عن الإضراب في كل من الثانوية الوطنية بانواكشوط وثانوية روصو معبرين عن رفضهم الانصياع للقانون الصادر بتاريخ 30 يناير 1965 الذي يجعل من اللغة العربية مادة إلزامية في التعليم الثانوي.
وعلي الفور، قام الموظفون السامون من الزنوج بتحريض مواطنيهم علي مساندة حركة الإضراب، ووزعوا منشورا اتهموا فيه النظام بالعمل علي "تعريب" موريتانيا عن طريق التعليم والوظيفة العمومية، وطالبوا باستقلال فدرالي.. هكذا إذن امتد الإضراب إلي المؤسسة الإدارية.
وكإجراء وقائي قررت الدولة عطلة للمؤسسات التعليمية مدتها خمسة عشر يوما. إلا أن المؤسسات افتتحت بعد ذلك في نفس أجواء التسمم العنصري، حيث أدي تمادي المضربين إلي غضب عارم في صفوف التلاميذ العرب أيضا.. ثمانية أيام فقط بعد ذلك، وبالضبط مساء الأحد 6 فبراير، قامت مشاجرة في الأقسام الداخلية للثانوية الوطنية بين التلاميذ العرب والزنوج، وكانت الحصيلة ستة جرحي من بينهم حالتان خطيرتان، وقد استخدمت في هذا الشجار السكاكين والعصي.
غير أن الحدث الأخطر جاء مع صبيحة الأربعاء 9 فبراير، حيث شملت الاحتكاكات كل أحياء انواكشوط التي شهدت أزمة حقيقية.
وقد حدث ذلك أثناء غياب رئيس الجمهورية وأغلب أعضاء حكومته في زيارة إلي مالي، ولم يعودوا إلا منصف النهار، حيث أصدر رئيس الجمهورية أوامر بتدخل القوات المسلحة. ولحسن الحظ، فلم يكن قد تم تصدير هذه الأحداث إلي بعض المدن الأخرى في الداخل. أما الحصيلة المعلن عنها فقد بلغت ستة (6) قتلي و70 جريحا من بينهم 20 حالة خطيرة، حسب الإحصائية الرسمية، وربما يكون الواقع أكثر من ذلك بكثير.
وللحيلولة دون تجدد الاحتكاكات اتخذت السلطة جملة من الإجراءات ربما كان أهمها قرار إغلاق المؤسسات التعليمية بقية تلك السنة، وطرد أكثر من عشرين تلميذا وموظفا من مختلف القوميات، وتعليق رواتب البعض، أو وضعه تحت الإقامة الجبرية التي أنهيت دون محاكمة فيما بعد خوفا من صدور ردود فعل جديدة. والواقع أن بعض الاحتكاكات البسيطة الأخرى تجددت في مايو 1967 وخلفت هي الأخرى ستة (6) قتلي، حسب الإعلان الرسمي.
ولكن.. من قاد هذه الأحداث الدامية؟ ولماذا؟ وما هي طبيعة التأثيرات التي خلقتها علي الساحة السياسية الوطنية؟ أسئلة عديدة لا يسمح هذا الإطار الموجه بإيفائها حقها، غير أن الأمر الأكيد هو أن هناك نوعين من المحرضين:
1- الإعلام الأجنبي، والفرنسي خصوصا، المقروء بعناية في موريتانيا من قبل المثقفين الزنوج
2- بعض المثقفين من فئة الموظفين البيروقراطيين في قمة السلطة الذين استغلوا الأزمة للظهور بحجم اكبر والضغط لتحقيق مكاسب شخصية، وهو الذين صنفتهم السلطة وأبعدتهم عن وظائفهم.
إن الغرض من هذا العمل هو تقصي نتائج هذه الأحداث المدوية علي الحركة الوطنية في البلاد.. فأين كانت منها حركة القوميين العرب؟
يقول دي شاسي، معتدا علي تصريحات بعض معارفه، أن الذين قادوا هذه الأحداث هم الذين وجدوا أنفسهم علي مائدة المفاوضات، حيث أدت إلي "التقارب وتأسيس جبهة أيديولوجية مشتركة مناهضة للامبريالية ومعارضة للسلطة".
ويتضمن هذا الاقتباس إشارة إلي الحركة الوطنية الديمقراطية التي تأسست بعد ذلك من منحدري حركة القوميين العرب، ومعني ذلك تلميحا إلي أن القوميين العرب ساهموا في الأحداث العنصرية هذه. بل إن المصطفي ابن بدر الدين يذهب بعيدا في اتهام بقية رفاقه في الحركة بقيادة وتأطير هذه الأحداث، إلا أن مثل هذا الاتهام يمكن أن يفهم في سياق المراجعة الإيديولوجية اللاحقة التي سعت إلي إبراز التناقض الظاهري بين الايدولوجيا القومية وما اعتبر "حقائق موريتانية".
إن كل المعطيات الموجودة تشجع علي القول بان حركة القوميين العرب كانت بعيدة عن الأحداث الدامية سنة 1966، ذلك أن هذه الأحداث لم تتم عن سبق إصرار وتدبير في الجانب العربي علي الأقل.
كما أن النتيجة المنطقية لها –لو تم تكييفها عقائديا- هي ازدهار الطرح العرقي، لا نكوصه كما حدث بالنسبة لحركة القوميين التي ازدهر طرحها التقدمي وتجذر خلال السنتين اللاحقتين واستقطب أنصارا ومناضلين من مختلف القوميات.
ولا يستساغ ما ذهب إليه دي شاسي بشان التفاوض الذي نتج عنه تأسيس الحركة الوطنية الديمقراطية 1969، ذلك أن هذه الحركة لم تعرف –علي الأقل حتى سنة 1971- وجودا لطرف التفاوض الآخر المتمثل في الزنوج، وإنما قيدت من منحدري حركة القوميين العرب نفسها.
هكذا إذن.. لا توجد علاقة بين هذه الأحداث وإعادة الصياغة التي شهدتها الحركة الوطنية سنة 1969، لان تلك المراجعة كانت متأتية من عوامل أخري داخلية وخارجية.
الدكتور سيد ابراهيم ولد محمد احمد
أستاذ وباحث بجامعة نواكشوط