فى سنة 1965 بالذات كان ينتابنا قلق كبير كلما اقترب 18 أكتوبر تاريخ افتتاح المدارس الثانوية. فلماذا؟ لأن هذا الافتتاح يعنى دخول القانون الذى صادقت عليه الجمعية الوطنية بالإجماع يوم 12 من يناير من تلك السنة حيز التنفيذ. ويقضى ذلك القانون بإعادة تنظيم التعليم الثانوي وبوجوب تعلم اللغة العربية إلى جانب اللغة الفرنسية ابتداء من السنة الأولى من الإعدادية.
فقد نصت المادة العاشرة من ذلك القانون على أن "يتم تعليم اللغة الفرنسية وتعليم اللغة العربية بصورة إلزامية فى مؤسسات التعليم الثانوي". وكنا نعلم من مصادر عدة أن بعض الأطر الناطقين بالفرنسية من الزنوج، والمدرسين منهم على وجه الخصوص، قد انتهزوا فرصة العطلة الصيفية لتعبئة التلاميذ من بنى جلدتهم ضد تعليم اللغة العربية ولإعدادهم للقيام بالإضراب وتنظيم المظاهرات عند الافتتاح. وقد أشرت فيما سبق إلى أسباب هذا الموقف ولن أعود إليها الآن، ولكننى فى المقابل سأسرد الأحداث التى وقعت فى النصف الأول من سنة 1966 بصورة تفصيلية أحيانا لعل ذلك يسهل فهمها.
وهكذا بدأت سنة 1966 تحت شعار الاضطرابات المدرسية. ففى 4 يناير بدأ جميع التلاميذ الزنوج فى نواكشوط وروصو إضرابا ضد إلزام تعليم اللغة العربية فى التعليم الثانوي، فدعوت إلى اجتماع مشترك بين أعضاء المكتب السياسي الوطني والحكومة، وأقر المجتمعون أن يوجه وزير التهذيب آنذاك بكار ولد سيدى هيبه نداء عبر الإذاعة، وهو ما فعله فى اليوم الموالي. وقد طلب من الطلبة العودة إلى فصولهم مهددا إياهم بالطرد إذا لم يعودوا للدراسة من الغد. ثم مددت فترة السماح إلى يوم 10 من يناير.
وفى يوم 6 من الشهر نفسه، وزع منشور مطول تحت عنوان "بيان التسعة عشر" أعلن فيه 19 موظفا ساميا كلهم من منطقة النهر أنهم "يساندون إضراب التلاميذ الزنوج من أجل سد الطريق أمام التعريب القسري ومن أجل فرض تعديل قوانين 30 يناير 1965 لأن الازدواجية ليست سوى خدعة لإقصاء المواطنين السود من كل شؤون الدولة…".
وفى اليوم نفسه امتد إضراب التلاميذ السود إلى كيهيدى، فاجتمعت الكتلة البرلمانية للحزب لتدارس الوضع.
وفى 8 من ذلك الشهر، أصدر 31 موظفا زنجيا بيانا فى نواكشوط "يساند إضراب التلاميذ وبيان ال 19"، ويدعو المسؤولين من كل المستويات إلى إيجاد حل فوري لهذه المشكلة التى طالما أجل حلها.
وفى يوم 10 يناير التحق التلاميذ السود فى إعدادية لعيون بحركة الإضراب، فى حين لوحظ أن بعض المضربين فى نواكشوط عادوا إلى الدراسة. وفى اليوم نفسه أصدر وزير التهذيب مذكرة توضح أن إلزام تعليم اللغة العربية لا يشمل التلاميذ الذين التحقوا بالدراسة قبل صدور القانون المذكور، وأن بعض الإجراءات ستصدر لاحقا بالنسبة للسنة الأولى. والحقيقة أن هذه التوضيحات كان ينبغى أن يتم نشرها وتعميمها خلال العطلة الصيفية أو قبل الافتتاح على كل حال.
ولا جدال فى أنه قد حصل تقصير خطير من قبل وزارة التهذيب بل ومن قبل الحكومة عموما بما فى ذلك رئيسها، كما لم يسلم الحزب من ذلك التقصير إذ عجز عن لعب دوره كأداة ربط وشرح وتعميم. وبكلمة واحدة فإن جهاز الدولة كله لم يقم بدوره المطلوب، وكان الكل مسؤولا عن ذلك الوضع الخطير الذى كان بالإمكان تلافيه لو قام كل إنسان بواجبه. لقد قصرنا جميعا فى أداء واجبنا عن غير قصد متناسين أن من يسوس بلدا عليه أن يتقن فن التوقع.
ولا شك أن بداية تعريب التعليم لن تسلم من بعض المظاهرات والعداء نظرا لما اتسمت به تلك المشكلة من تسييس ولما لها من طابع عاطفي فضلا عن كون تلك المظاهرات موجهة، ولو جزئيا، من قبل جهات غير موريتانية فرنسية وسينغالية.
وعلى كل حال فإنه لو اتخذت الحيطة لكان لهذه المظاهرات وقع أقل بكثير. ومهما يكن من أمر، فقد كان لزاما علي أن أتصرف أمام وضع اتسم بالغموض شيئا فشيئا. وكان علي أن أتدخل شخصيا وأن أتحمل مسؤولياتى لأوقف هذا المسار الذى يوشك أن ينال من أغلى ثروة حيوية نملكها ألا وهي الوحدة الوطنية. وهذا ما قمت به فى 10 يناير 1966 عندما وجهت خطابا إذاعيا إلى المواطنين هذا نصه:
"مواطني الأعزاء، عندما أعلنت فى منتصف ليل 28 نوفمبر 1960 استقلال موريتانيا، فإننى بذلك قد أنهيت تبعية رجال موريتانيا ونسائها للقوة الاستعمارية السابقة. وفور انتخابكم إياي بالإجماع رئيسا للجمهورية ثم أمينا عاما للحزب، قطعت على نفسى عهدا أمام الله وأمام العباد أن أبذل قصارى جهدى فى كل ما من شأنه أن يرفع من مستوى الأمة الموريتانية اقتصاديا واجتماعيا. ومن البديهي أن مثل هذه المهمة لا يمكن القيام بها إلا فى إطار وحدة وطنية صلبة تعتمد على أسس قويمة تمكن كافة الشعب الموريتاني من تحمل أعباء الاستقلال ومواجهة أعداء الأمة فى الداخل والخارج بفعالية.
وقد أقسمت أمام الملأ وتعهدت أن أحمي هذه الوحدة وأوطدها. فعندما كانت وحدتنا مهددة بمطالب المغرب الذى حاول تنظيم أعمال تخريبية فى بلادنا فى مسعى لجعلها مقاطعة مغربية، فإننى لم أتردد فى القضاء على كل من سولت له نفسه فى الداخل أو الخارج أن يحبط جهودنا ويثبط إرادتنا فى بناء موريتانيا قوية ومستقلة. ولم تذهب تلك الجهود سدًى.
واليوم تعلن مجموعة من مواطني جنوب البلاد كل أفرادها موظفون، بل إن من بينهم موظفين سامين فى الدولة، عزمها على التخلى ببساطة عن هذه الوحدة من خلال القيام بعمل مناف لعقيدة الحزب، حزب الدولة، ومناف للقوانين التى تجسد هذه العقيدة. ولم يتردد هؤلاء المواطنون الذين أعمتهم المواقف العاطفية، فى نشر بيان يدعم إضراب تلاميذ المؤسسات الثانوية ويشجعهم على إعاقة تطبيق القانون رقم 65.026 الصادر بتاريخ 30 يناير 1965 القاضي بإلزام تدريس اللغة العربية فى مؤسسات التعليم الثانوي.
وينبغى القول إن من وقعوا على هذا البيان قد استخدموا بطريقة جبانة مجموعة من الفتيان فى عملهم الضار، مستغلين سهولة تحريك عواطفهم واندفاعهم وراء تصرفات غير عقلانية. ولم يتردد هؤلاء فى تحقيق مراميهم باستخدام فتيان وفتيات موريتانيين كان من المفروض أن يكرسوا كل اهتمامهم لمتابعة دراستهم فى اطمئنان ليعدوا أنفسهم غدا لتحمل دورهم فى مسئوليات السلطة وقيادة مستقبل الأمة. وأخيرا فإن موقعى هذا البيان لم يفوضهم أي أحد لا فى أجهزة الدولة ولا فى هيئات الحزب. وقد اختاروا التهديد والابتزاز والتخويف بدلا من الحوار فى إطار الحزب والدولة. أما أنا فكنت على الدوام من أنصار الحوار كلما دعت المصلحة العامة إلى ذلك.
وأؤكد أن الطريق الذى اختاره موقعو البيان من تهديد وابتزاز واستغلال إجرامي للشباب المدرسي، قد حتم علي أن أعاقب أولئك الذين جاهروا بالعمل ضد الدستور وقوانين الدولة وسعوا إلى المساس بوحدة الأمة بوصفى حامي الدستور والوحدة الوطنية. وعليه، فقد قررت تعليق الموظفين التسعة عشر الموقعين على البيان اعتبارا من يوم الأربعاء الخامس من يناير ومتابعتهم قضائيا. وأنتهز هذه الفرصة لأحذر علنا كل فرد أو مجموعة مهما كانت من أن أي عمل يرمى إلى المساس بأسس الوحدة الوطنية سيعاقب مرتكبه دون رأفة. وغني عن القول إن جميع القضايا الوطنية يلزم أن تخضع لنقاش معمق فى الإطار الشرعي لمؤسسات الحزب والدولة من أجل إيجاد حلول ترضى الجميع".
وفى مساء ذلك اليوم قدم إلى رئيس الجمعية الوطنية وأعضاء الحكومة المنحدرون من منطقة النهر استقالاتهم، ولكننى رفضتها. ودعوت فى اليوم التالي إلى اجتماع موسع للمكتب السياسي الوطني ضم كتلة الحزب البرلمانية، أي النواب والوزراء. واقتصر جدول الأعمال على العقوبات التى ينبغى إنزالها بالتسعة عشر.
وقد دارت نقاشات حامية الوطيس فى ذلك الاجتماع الصاخب الذى شهد مشادات كلامية بين فريقين أحدهما يعارض اتخاذ عقوبات غير رمزية ضد هؤلاء، ويتألف بالأساس من مسؤولين زنوج تؤازرهم قلة من البيضان، وفريق آخر يدعو إلى اتخاذ عقوبات رادعة، ويكاد يقتصر على البيضان. ولا أتذكر على وجه التحديد عدد كل فريق. وقد استمرت النقاشات الصاخبة جزءًا كبيرا من الليل. وعلى الرغم من حدة النقاشات، فإنها لم تؤد فى أي لحظة إلى سباب رغم ما اعترى معظم المتدخلين من توتر عصبي. ولم يتخذ أي قرار نهائي فى ذلك الاجتماع، إلا أن جو التوتر قد خف فى نهاية الجلسة مقارنة ببدايتها، جراء ما اعترى الناس من نصب ونعاس.
وينبغى التنويه هنا بوطنية الفقيد يوسف كويتا وحكمته إذ استطاع بثبات أن يسمو بنفسه عن الانغماس فى ذلك الجو المشحون بالغليان الذى أوشكت النقاشات فيه أحيانا أن تصل حد المجابهة العرقية، إن لم نقل العنصرية. فقد ظل خلال تدخلاته المتكررة يذكر جميع المشاركين بانتمائهم الموريتاني ودلالة ذلك الانتماء. وقد ذكر "جميع المسؤولين الوطنيين أن الشعب الموريتاني، الذى لا ناقة له ولا جمل فى خصومات المثقفين التى بدأت تهزنا منذ بعض الوقت، يسمع ويرى وينتظر منا قرارات تعزز الوئام الوطني وتوطد وحدة الوطن الموريتاني. وعلينا أن لا نخيب أمله".
وفى 13 يناير صادق مجلس الوزراء على مرسوم يحدد إجراءات تطبيق قانون 30 يناير 1965. كما أقر تعليق التسعة عشر والشروع فى متابعتهم قضائيا. وفى 19 يناير أغلقت جميع المدارس الثانوية أبوابها إلى غاية 4 فبراير. وفى 31 يناير درس المكتب السياسي الوطني الوضع السياسي العام والإجراءات التى ينبغى اتخاذها لتعزيز مكانة الحزب. وعين لجنة وطنية عهد إليها بدراسة مختلف جوانب العلاقات بين المكونتين الاجتماعيتين فى البلد. وتوليت شخصيا رئاسة هذه اللجنة التى عقدت اجتماعها الأول فى 2 فبراير.
وفى اليوم نفسه وزع "منشور البيضان" ردا على "بيان التسعة عشر". وحمل هذا المنشور غير الموقع عنوان "صوت التلاميذ الموريتانيين أو صوت الشعب". وقد أعلن المنشور أن "مرسوم 13 يناير 1966 يخرق قانون 30 يناير 1965"، وأدان "السياسة الرامية إلى إنشاء عرق أسود من العدم لجعل موريتانيا دولة زنجية". واعتبر أن " القطيعة التامة والنهائية بين العرقين هي المرهم الوحيد لضمان مستقبلنا".
وقد حدث كل هذا الغليان الملحوظ بوجه خاص فى نواكشوط، فى وقت كنت أتهيأ فيه للقيام بزيارة رسمية إلى مالي مقررة منذ عدة أشهر. ويالها من مصادفة غير موفقة. فالتمسك بموعد الزيارة يقتضى الغياب عن البلد وترك الساحة شاغرة لمثيرى القلاقل، وهو أمر أقل ما يقال عنه إنه مجازفة. كما أن تأجيلها سيترك لا محالة آثارا نفسية على السلطات المالية التى أكدت رسميا تلك الزيارة وأعدت لها. وسيفسر ذلك التأجيل فى الداخل وفى الخارج بأنه دليل ساطع على خطورة الوضع فى الجمهورية الإسلامية الموريتانية، ولن تتردد حينها إذاعة المغرب فى ملء الدنيا صراخا لما عرف عنها من استعداد لبث الأخبار السيئة عن موريتانيا، إن لم تختلقها خدمة لأهدافها.
وبعد نقاش مطول لمختلف جوانب الموضوع مع المقربين من أعوانى، ودراسة مختلف الاحتمالات مع أحمد ولد محمد صالح الذى سيتولى تسيير الشؤون الجارية فى حالة غيابى، قررت الإبقاء على موعد الزيارة المحدد سلفا أي من 3 إلى 9 فبراير 1966. ومن بين من رافقنى زوجى وممادو صمب بولى با، رئيس الجمعية الوطنية، والوزيران محمد ولد الشيخ وألمان كان. واستقبلنا الرئيس موديبو كيتا وزوجه وأعضاء حكومته والشعب المالي بحفاوة، وزرنا مع مضيفنا عدة مناطق من مالي.
واستؤنفت الدراسة فى المؤسسات الثانوية بنواكشوط يوم 4 فبراير فى جو يسوده الهدوء، ولكن ما إن حل مساء 8 من ذلك الشهر حتى اندلعت مشاجرات بالثانوية الوطنية بين بعض التلاميذ من العنصرين خلفت جروحا خفيفة. وبما أن سلطات الأمن قد أخذت علما مسبقا بما سيحدث، فقد تدخلت فرقة من الحرس الوطني كانت على أهبة الاستعداد، ففصلت بين المتشاجرين واحتلت الثانوية وعزلتها عن المدينة. ووزع فى تلك الليلة منشور يدعو تلاميذ البيضان إلى الإضراب. وبما أن خلفى لا يريد أن يكدر صفو ما تبقى من زيارتى لباماكو، فلم يعلمنى بشئ.
وفى صبيحة 9 من فبراير حدثت صدامات عنيفة فى عدة أحياء من العاصمة بين العنصرين كانت حصيلة ثقيلة مع الأسف إذ بلغت 6 قتلى و70 جريحا. وقد تم إشعارى بهذه الأحداث المؤلمة وأنا فى طريق العودة من باماكو إلى نواكشوط على متن طائرة د.س.4 التى تقل الوفد الموريتاني. وفى اتصال من برج المراقبة بنواكشوط، اقترح علي مدير ديواني المساعد أحمد بزيد ولد أحمد مسكه أن تهبط بنا الطائرة فى مكان آخر غير نواكشوط. ورفضت ذلك الاقتراح آمرا محدثى بإعداد مراسيم الاستقبال المألوفة بالمطار قدر المستطاع دون مشاركة جماهيرية. وبعد هذا الاتصال مباشرة، أطلعت ممادو صمبا بولى با ومحمد ولد الشيخ وألمان كان على هذا النبأ السيئ فى ركن منزو من الطائرة.
وقد هبطت طائرتنا فى مطار نواكشوط عند الساعة الثانية عشرة والنصف زوالا، وكان التوتر باديا فى المطار الذى حضر إليه كالعادة أهم المسؤولين الوطنيين والمحليين وفرقة من الجيش لتأدية تحية الشرف.
ورغم تلك الأوضاع فإننى لم أغير أي شئ من مراسيم الاستقبال المألوفة ولم أشأ ذلك. وكان علي أكثر من أي وقت مضى أن أتحلى بالهدوء وأن تعلو وجهى البشاشة والابتسامة. كما كان علي أن لا أبدى أي مظهر من مظاهر الغضب لطمأنة الحاضرين وطمأنة المواطنين فى الداخل بصورة خاصة نظرا إلى أنهم يتابعون عبر الإذاعة مباشرة النقل الحي لمراسيم حفل الاستقبال لدى عوتى إلى نواكشوط، لا سيما وأنهم عرضة لصنوف الشائعات المسممة التى تروج فى مثل هذه الظروف. وكان الفرنسيون يطلقون على تلك الشائعات فى العهد الاستعماري "وسيلة الاتصال اللاسلكي عند البيضاني". وفور انتهاء تلك المراسيم التى شملت تحية العلم، والاستماع إلى النشيد الوطني، واستعراض فرقة من الجيش، ومصافحة بعض الشخصيات؛ بادرني السفير الفرنسي جان فرانسوا دنيو بالقول على انفراد إن حكومته مستعدة لمدنا بعناصر من الجيش انطلاقا من قاعدة دكار لإعادة النظام بمجرد أن أطلب ذلك. وقد شكرته قائلا إننى سأشعره عند الضرورة، وعليه أن يلزم مكانه فى انتظار ذلك.
وكان علينا، ونحن نواجه أخطر أزمة داخلية تهدد أساس وجود دولتنا-الأمة الفتية الهشة، أن نجتاز بأي ثمن ذلك الامتحان العسير اعتمادا على وسائلنا الخاصة مهما كان تواضعها. فتلكم هي وسيلتنا الوحيدة لإقناع أنفسنا أولا وإقناع الآخرين بقدرتنا على مواجهة وحل مشاكل الأمن الداخلي على الأقل. فأمننا الخارجي سبق وأن تكفلت به فرنسا التى تحمينا من التهديدات المغربية. وإذا كنا مجبرين كذلك على اللجوء إليها لضمان أمننا الداخلي، فمعنى ذلك أننا لا نملك أي وسيلة للبقاء بوصفنا دولة مستقلة ذات سيادة. صحيح أن فرنسا قد تدخلت لاستتباب الأمن فى الكامرون، والسينغال، والغابون؛ وأن بريطانيا قد قامت بالشيء نفسه فى تانزانيا وكينيا وغيرهما. أما بالنسبة لنا فإننا لا نرغب فى اللجوء إلى فرنسا فى مضمار أمننا الداخلي. وسنحاول التصرف على هذا الأساس.
وعندما وصلت إلى مكتبى فى حدود الساعة الواحدة ظهرا، بادرت بتأكيد الإجراءات التى اتخذها نائبى أحمد ولد محمد صالح والمتمثلة فى تطويق المدينة بعناصر من الجيش وقوات الأمن وتسيير دوريات دائمة لحفظ النظام. واجتمعت بعد الظهيرة بأعضاء المكتب السياسي والحكومة ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس الكتلة البرلمانية وقررنا ما يلى:
الشروع فى عدد من الإجراءات الخاصة لضمان حفظ الأمن،
إغلاق جميع المؤسسات الثانوية فى نواكشوط وإرسال التلاميذ إلى ذويهم،
الإسراع بإيفاد بعثات للشرح إلى سائر التجمعات المهمة فى البلاد تضم كل واحدة منها مسؤولين ساميين أحدهما بيضاني والآخر سوداني،
إرسال مدد من القوات بالطائرة إلى العيون وكيهيدي،
حراسة السفارات الأجنبية فى نواكشوط،
الإشراف على برامج إذاعة موريتانيا،
حظر التجوال فى نواكشوط من الساعة السادسة والنصف مساء حتى السابعة صباحا.
وقد وقعت فى صبيحة يوم 10 من فبراير 1966 ثلاثة مراسيم متعلقة بالأمن. أولها يعين النقيب المصطفى ولد محمد السالك قائد أركان القوات المسلحة وكالة مسؤولا عن حفظ الأمن فى نواكشوط حتى إشعار جديد. ويساعده فى تلك المهمة الملازمان الأولان تيام واسويدات وآخرون. أما المرسوم الثاني فيحدد الإجراءات الكفيلة بحفظ النظام فى نواكشوط، فى حين يتعلق الثالث بإجراءات حفظ الأمن فى كيهيدي. وقد سيطرت قوات الأمن تماما على الوضع فى العاصمة رغم استمرار بعض الأعمال الثأرية الفردية، وعرفت بقية مناطق البلاد هدوء تاما. وفى يوم 11 تم توقيف 40 شخصا من العنصرين ممن يحرضون على الإخلال بالنظام. ومن بين هؤلاء مجموعة التسعة عشر الموقعة على بيان 6 يناير. وفى اليوم التالي، أعرب 19 طالبا بيضانيا فى باريس عن تعلقهم بمؤسسات الجمهورية التى لا انفصام لها، ومعارضتهم لكل أشكال الفدرالية، ولأي تمييز بين العنصرين.
وفى يوم 13 فبراير أصدر اتحاد العمال الموريتانيين بيانا جاء فيه أنه "يؤكد دعمه الثابت للرئيس المختار ولد داداه رمز الوحدة، ويؤكد له وللحكومة دعمه المطلق فى إيجاد حل وطني يضمن التعايش فى انسجام بين العنصرين". واعتبر البعض أن هذا الموقف قد شكل منعطفا فى مسار الأزمة. وفى اليوم نفسه حدثت صدامات خفيفة فى امبود ومقامه، وهي الصدامات الوحيدة التى سجلت بهذه المناسبة فى داخل البلاد.
وفى 15 فبراير أوضحت فى مهرجان حاشد فى حي القصر بالعاصمة "أن الحقد العنصري هو شعور لم تعرفه بلادنا قط فيما مضى، وأن جيشنا الفتي وشرطتنا الناشئة قد برهنا على إخلاص لا يتزعزع، وصرامة فائقة، وانضباط متميز، وأن موريتانيا واحدة لا تتجزأ". وأعلنت أمام الملأ أن "كل من يقوم من الآن فصاعدا بأي نشاط هدام عنصري أو مضاد للحزب ستتم معاقبته بقسوة مهما كان سمو مكانته، وأنه ما دام لا يوجد حزب معارض، فإن على الجميع التحلى بروح نضالية نشطة لأننا جميعا مسؤولون عن مستقبل وطننا".
وفى 19 فبراير، قدمت مجموعة العمل المؤلفة من موظفين سامين تقريرها عن أحداث 9 و10 فبراير، وهو التقرير الذى كانت الحكومة قد كلفتها بإعداده. وتتكون هذه المجموعة من محمد ولد داداه، وكونى عالي بري، وأحمد بزيد ولد أحمد مسكة، وأحمدو ولد اميشين. وأوصى هذا التقرير بما يلى:
"- فى المجال القضائي: تشكيل محاكم استثنائية لمقاضاة من سببوا التفرقة بما كتبوا، ومحاكم عادية لمقاضاة من قاموا بأعمال عنف.
على الصعيد السياسي: ينبغى وضع تعريف دقيق لدور الحزب ومحتواه لتدعيمه من خلال العودة إلى الديمقراطية داخل صفوفه، وتحديد المعطيات الأساسية التى ينبنى عليها الحوار…".
وفى 21 فبراير، استقبلت على غير عادتى الوزراء الخمسة الذين سيبعدون من التعديل الوزاري الجديد، وشرحت لكل واحد منهم أمام الآخرين الأسباب التى جعلتنى أعفيه من منصبه. فلم تصرفت على هذا النحو؟ لقد سعيت من وراء ذلك إلى تحقيق غايتين، أولاهما أن آخذ الناس على حين غفلة وأثبت لهم أننى قادر على اتخاذ القرارات التى تمليها الظروف وفقا لما أعتبره المصلحة العليا لوطنى رغم سلوكي الاعتيادي الذى يعتبره البعض ضعفا، ويعتبره البعض الآخر حلما. أما الغاية الثانية، فهي أننى أردت أن استبق التعاليق الغريبة أو المغرضة التى سيطلقها رجل الشارع حول الأسباب التى جعلتنى أتخلى عن هؤلاء المعاونين. فشرحى هذه الأسباب بحضرة الشهود سيحد على الأقل من هامش التأويلات الخاطئة التى لا منجى منها فى مثل هذه الظروف.
فقد تخليت عن ثلاثة وزراء لأسباب سياسية صرف وهم: أحمد ولد محمد صالح، وكان آلمان، ومحمد ولد الشيخ. أما بالنسبة ليحيى ولد منكوس وبنبه ولد اليزيد فإن الأسباب كانت فنية فى المقام الأول وسياسية بدرجة ثانية.
لقد كان محمد ولد الشيخ وأحمد ولد محمد صالح صديقين حسب ما يصرح لى به كل منهما، ولكنهما كانا طرفي نقيض من حيث السجايا ووجهات النظر والإيديولوجية. غير أن عاملا مشتركا أساسيا يربطهما جعلنى أقدرهما حق قدرهما وهو وطنيتهما، تلك الوطنية التى هي مصدر إرادتهما المشتركة الصادقة فى بناء الوطن الموريتاني كما أتصوره.
ورغم اتفاقهما التام على هذا الهدف، فقد كانا مختلفين تماما فيما يتعلق بالسبل والوسائل الكفيلة ببلوغه. فقد كانا يمثلان تيارين متباينين أحدهما تيار الجيل الصاعد الذى تتبناه قلة قليلة، وثانيهما تيار الأغلبية الساحقة من الموريتانيين الذي يمكن أن نصفه بالتقليدي أو المحافظ.
وإذا كان محمد ولد الشيخ تقدميا جدا إن لم نقل ثوريا يحمل أفكارا سابقة على زمانه يصعب فهمها فى سياقنا آنذاك وتستعصى على بنياتنا الذهنية القروسطية، فإن أحمد ولد محمد صالح على خلاف ذلك. فقد كان محافظا ولكنه لم يكن رجعيا كما كان يوصف على الدوام. إنه حذر يؤمن بحتمية وضرورة تطور مجتمعنا، ولكنه يفضل أن يتم ذلك التطور وتلك التحولات المترتبة عنه بطريقة بطيئة وأكيدة. ولم يكن "عدو السود الذى يريد أن تكون موريتانيا خالصة للبيضان فقط…" كما كان يصفه منافسوه السياسيون، إذ لو كان كذلك لما اتخذته يوما وزيرا ثم أمينا دائما للحزب. وبكلمة واحدة لم أكن لأجعله أحد أقرب أعوانى على مدى سبع عشرة سنة.
أما بالنسبة لى فقد كنت أفهم كلا الرجلين وأجد نفسى من خلال كل منهما: فقد كانا يجسدان اهتماماتى فيما يتعلق بالمسار التطوري الذى ينبغى أن يؤول إلى بناء موريتانيا كما أحلم بها فى قرارة نفسي.
ولكم كان تصادم فكريهما المتنافرين أمرا ثمينا بالنسبة لى، فهما جناحا طائر يحملان تياري الرأي السابقين ويمثلان الشعب الموريتاني بأسره.
فقد كنت أكوِّن رأيا موضوعيا ما أمكن عن مسألة بعينها وأتخذ بشأنها قرارا متبصرا اعتمادا على نقاشاتى مع أحد هذين الرجلين أو كليهما وأستوفى معلوماتى بأخذ آراء معاونين آخرين معنيين. وبكلمة واحدة فقد جسدا المثال الذى كنت أسوقه أحيانا لتهدئة تلهف الشباب وأحرك به ما أمكن جمود القدماء. إنه مثال حركة السيارة التى أشبه بها تطور بلادنا. فإذا زاد السائق السرعة كثيرا يخشى من وقوع حادث خطير إن لم يكن قاتلا، وإذا ضغط على المكبح كثيرا يوشك أن لا تتحرك السيارة من مكانها وهو أمر غير ممكن إذ أن الحياة حركة، ومن لا يتحرك يضمر ثم يندثر. ولذا كان خير الأمور أوسطها، وإن كانت الوسطية لا ترضى أحدًا فى بلادنا. فالشباب يعتبرون أننا "نراوح فى مكاننا" رغم أننا نسير بسرعة متوسطة، والقدماء يرون أننا نسير بسرعة جنونية قاتلة…!
وعودة إلى الحديث عن محمد ولد الشيخ وأحمد ولد محمد صالح، ينبغى التذكير بأنهما رغم ما كان بينهما من تباين موضوعي وخلافات حقيقية، كان لهما أشياعهما الذين شكلوا من حولهما حاشيتين متنافستين أججتا الخلاف بينهما دون أن يرغبا فى ذلك صراحة. ورغم الجهود العفوية لكل منهما وتوجيهاتى الصريحة، فلم يستطيعا أن يتحررا من قبضة أشياعهما إن لم نقل المتزلفين لهما الذين كان بعضهم يتصرف بطريقة ماكرة خفية للغاية. وفى هذا السياق لم يتمكنا من إقناع الرأي العام ببراءتهما مما حيك حول شخصيهما من شائعات خطيرة. فلم يعد الناس ينظرون إليهما باعتبارهما مسؤولين وطنيين عضوين فى أسمى هيئات الدولة (المكتب السياسي والحكومة)، ولا إلى أنشطتهما فى الدولة كمسؤولين حكوميين عاديين وإنما ينظر إليهما كفرسي رهان يريد كل منهما القضاء على الآخر. ومما يزيد من خطورة هذا التنافس أن البلاد كانت على شفى الكارثة وأن كلا المتنافسين يتقلد مسؤوليات سامية بالغة الأهمية. فقد كان محمد ولد الشيخ وزير الشؤون الخارجية والدفاع، وأحمد ولد محمد صالح وزير الداخلية والإعلام.
ولم يعد أحمد ولد محمد صالح يمثل فى أذهان البعض سوى "وزير البيضان"، فى حين يمثل محمد ولد الشيخ فى نظر البعض الآخر "وزير السود". وبذلك لم تعد الدولة مرجعا لهؤلاء، وغابت عن أذهان المواطنين. وفى وضع كهذا، لا يسعنى إلا أن أستغني عن خدمات الرجلين. وقد أقدمت على ذلك القرار دون أن ينشرح له صدرى. فلم أتخلص قط من أحد معاوني دون أن يضيق صدرى بذلك. ومع ذلك فقد تخلصت من معاوني، إذ كان علينا أن نحمي أمتنا الناشئة الهشة من خطر الانقسامات.
ويبدو لى أن هذين النقيضين ومعهما ممدو صمب بولى با الذى سأتحدث عنه لاحقا، ممن ينبغى أن يبقوا فى القيادة معى أو بدونى. وأستطيع القول وأنا أتحدث عن الرجلين أن محمد ولد الشيخ قد أصبح مع تقدمه فى العمر وممارسته الطويلة للسلطة وما حظي به من تجربة، قد أصبح أكثر نضجا وواقعية وإن ظل على الدوام متمسكا بطبعه التقدمي، المتحمس والمعطاء.
وللأسباب نفسها، أصبح أحمد ولد محمد صالح أكثر انفتاحا على الحداثة واقتناعا بضرورة حث خطى التطور نحو تلك الحداثة مع احترام ديننا الحنيف وتقاليدنا المفيدة. لقد كان ذلك بالضبط هو واقعه الذهني إبان انقلاب يوليو 1978.
وعلى الرغم مما قلت بشأن محمد ولد الشيخ وأحمد ولد محمد صالح وما سأقوله عن ممادو صمب بولي، فإن هؤلاء المعاونين القدماء الثلاثة كانوا أبرز شخصيات المسؤولين السامين من الرعيل الأول، ذلك الرعيل الذى أسس موريتانيا المستقلة التى شكك الرئيس سينغور فى بقائها.
أما الوزير الثالث الذى تخليت عنه لأسباب سياسية فهو ألمان ممدو كان. وكان بحق متميزا من الناحية الفنية، وأكن له الكثير من العطف. ولكنه مع الأسف تبنى موقفا متحزبا حينما ساند فكرا وعملا أبناء جلدته بدل التحلى بسلوك المسؤول الوطني الذى يتعين عليه بالدوام أن يترفع عن مستوى الدهماء خاصة فى اللحظات الصعبة. وهكذا فقد ثقة بنى وطنه من البيضان ولم يستطع أو لم يشأ السمو إلى مستوى المسؤولية الوطنية كما كنت أتصورها خصوصا فى أوقات الأزمات الخطيرة. ولذا أعفيته من منصبه مبينا له دوافع ذلك القرار.
أما الوزيران الآخران اللذان تمت إقالتهما، فهما بنبه ولد اليزيد وزير المالية والتخطيط والوظيفة العمومية، ويحيى ولد منكوس وزير العمران والأشغال العمومية والنقل والبريد والمواصلات، وكانت أسباب إعفائهما فنية وسياسية معا. فهي فنية لأنهما لم يستطيعا تسيير وزارتيهما الضخمتين ولا التغلب على مشكلاتهما. وهي سياسية لأنهما كاناعلى الدوام يصنفان من شيعة محمد ولد الشيخ المتحمسة.
وقد شرحت لكل فرد من هؤلاء الرفاق الخمسة مسوغات إقالته من الحكومة، وأطلعتهم فى الحال على أن بالإمكان تعيينهم فى وظائف إدارية أو ديبلوماسية إذا كانوا يرغبون فى ذلك، وعليهم أن يعبروا عن ما يريدون بهذا الخصوص.
وقد طلب محمد ولد الشيخ وبنبه ولد اليزيد الالتحاق بالإدارة الإقليمية، فتم تعيين كل منهما واليا. أما كان آلمان فاختار العودة إلى التعليم، وحول إلى ثانوية نواكشوط أستاذا للتاريخ والجغرافيا. وأبدى يحيى ولد المنكوس رغبة فى العمل الديبلوماسي، فتم تعيينه سفيرا فى باريس. أما أحمد ولد محمد صالح فلم يبد رغبة فى شغل وظيفة بعينها ولكنه عبر عن استعداده لشغل أي وظيفة أسندها إليه، فعين مفتشا للشؤون الإدارية.
واستمر محمد ولد الشيخ، بحكم عضويته فى المكتب السياسي الوطني، فى حضور جلسات تلك الهيئة، لكنه التزم الصمت فيما حضر من جلسات خلافا لما ألفنا من إسهاماته الإيجابية فى المناقشات. ثم انقطع عن حضور تلك الاجتماعات، وقاطع المؤتمر العادي الثاني للحزب الذى عقد فى عيون العتروس رغم عضويته الاستحقاقية فيه. ولذا لم ينتخب فى أي وظيفة من وظائف الحزب الذى أقصى نفسه منه قبل انعقاد المؤتمر.
ويعتبر محمد ولد الشيخ الوحيد من بين الوزراء الخمسة المعفيين من مناصبهم الذى انسحب بمحض إرادته واعتزل الحياة السياسية وانزوى تحت الخيمة فى مسقط رأسه. إنها خسارة بالنسبة للبلد، إذ أننى على يقين من أنه كان يستطيع أن يلعب دورا حاسما فى مستقبل هذه البلاد. أما أحمد ولد محمد صالح فقد شارك فى المؤتمر وكأن شيئا لم يكن مما مكن الناشطين من أصدقائه من إعادة انتخابه عضوا فى المكتب السياسي الوطني. وهكذا استعاد مكانته بسرعة فى قمة الحزب.
وفى 21 فبراير كذلك، اجتمع المكتب السياسي الوطني، وكان من ضمن القرارات التى أصدرها تأريخ استقالة ممادو صنبا بولي با الموقعة على بياض بحيث لم يعد نائبا فى البرلمان فمن باب أولى أن يكون رئيس الجمعية الوطنية. وقد عين بعد ذلك مباشرة حاكم مقاطعة شنقيطي.
ورغم أن ممادو صنبا بولي با كان الشخصية الثانية فى الدولة وقت الأحداث، فإنه لم يتصرف بما يناسب مقامه. وقد كنت أقدره منذ أن تعرفت عليه بمناسبة التحاقه بثانى حكومة بعد صدور القانون الإطاري فى يناير 1958، لما يتحلى به من أخلاق وكفاءة وحسن تربية. وشيئا فشيئا تحولت علاقاتى به من مجرد معاون جيد، ثم زميل إلى رفيق ثم خليل يتصدر رسميا قائمة من ينوبون عنى. ونظرا لما له من مكانة اجتماعية فى منطقة فوته الموريتانية ومن شعبية فى كوركول، فقد رغبت فى أن أجعل منه الشخصية الأولى فى تلك المنطقة وأن اتخذ التدابير اللازمة لذلك. فقد كان سكان الجنوب منقسمين سياسيا، شأنهم فى ذلك شأن سكان الشمال. وما يقال عن هذا الانقسام غيض من فيض!
وإذا كانت تسمية القبيلة غير متداولة فى منطقة النهر، فإن الانقسامات على مستوى الأسر، والشيع، والقرى، والكانتونات كانت بالغة العمق أحيانا ومن الصعب إدراك كنهها. ولا بد من معرفة حقيقية بتاريخ الأسر والشيع والفئات للتمكن، ولو جزئيا، من إدراك مدى تجذر التنافس بين هؤلاء وأولئك. ورغم كل هذه الصعوبات، فقد كنت أعتقد أن بوسعى أن أجعل من ممادو صنبا بولى با الشخصية الثانية فى الدولة، وأن يتقبله الموريتانيون بكل أعراقهم دون أن يفرض عليهم، لأن المسؤول السياسي لا يمكن أن يفرض ولا ينبغى له ذلك. فقد كان بوسعه أن يصبح نائب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء تبعا للاختيار الذى سيتبناه حزب الشعب الموريتاني عندما تخبو جذوة نار الصراعات السياسية فى ضفة النهر، وحدة التوتر العرقي فى عموم البلاد وتتم مراجعة الدستور التى كنت أتطلع إليها. وبذا يكون من الناحية الدستورية مهيئا لخلافتى فى حالة العجز التام أو الاختفاء المفاجئ. وفى هذه الحال يصبح رئيس الدولة فيما تبقى من فترتي الرئاسية، ويكون فى موقع يمكنه من كسب أصوات مواطنيه ليصبح رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
وينبغى أن نوضح ماهية التغييرات الدستورية التى أومأت إليها قبل قليل ما دام من يسوس عليه أن يتقن فن التوقع. فقد كان علي أن أهتم بمستقبل بلادى بغض النظر عن وجودي العابر، إذ أن كل شيء ما خلا الله باطل. ولذا كنت مقتنعا منذ وصولى إلى السلطة بأن ثنائية تركيبة الشعب الموريتاني، وحاجة سكان البلد المطلقة إلى الشعور بالمساواة فى الحقوق والواجبات والاتحاد والتضامن فى السراء والضراء بغض النظر عن لونهم وأصلهم الاجتماعي، تقتضى مراجعة الدستور حين تستقر أوضاعنا الداخلية والخارجية للاعتراف صراحة بثنائية تركيبة شعبنا العرقية ما دامت معطاة لا مراء فيها.
وبناء عليه، ينبغى أن تكون قمة هرم السلطة ثنائية تتكون من رئيس جمهورية ونائبه أو رئيس جمهورية ووزير أول لا ينتميان إلى مكونة عرقية واحدة. وهذا الحل قدمته لجنة الحزب المكلفة بدراسة هذه القضية فى السنوات الثلاث الأولى من الاستقلال (60،61،62)، ولكن المكتب السياسي الوطني لم يقره. فلماذا؟ يعود السبب فى ذلك إلى أن معظم منتخبى منطقة النهر كانوا على يقين أن هذه الوظيفة لو استحدثت لكان ممادو صمبا بولى با أول من يتبوأها بدعم منى. وبما أن غالبيتهم ترفضه رفضا مطلقا، فقد اختاروا التنازل عن تلك الضمانة التى طالما ألحوا فى طلبها كما ذكرت فيما سبق. وقد كان هذا هو تصورى فيما يتعلق بحل "المسألة العرقية والثقافية فى موريتانيا" حلا دستوريا، وفيما يتعلق بقضية ممادو صمبا بولى با كذلك، وهو مشروع لم أتحدث عنه لكائن من كان. لكن "وما تشاءون إلا أن يشاء الله".
وللأسف الشديد، فإن ممادو صمبا بولى با لم يتصرف تصرف الحكم والمسؤول الوطني الذى يتسامى، أو يحاول التسامي على الأقل، عن مسلكيات عامة الناس بمناسبة أحداث فبراير 1966 المؤلمة، بل إنه على العكس من ذلك اتخذ موقف المناصر المتحزب قلبا وقالبا لمكونة عرقية واحدة. ورغم ما يمكن أن يلتمس له من ظروف تخفيفية، فإن تصرفه قد خيب أملي وآلمنى كثيرا. ولذا لم أكن مضطرا للتخلص منه فقط، وإنما لمعاقبته سياسيا وإداريا كذلك. وفى هذا المضمار لا أعرف ما إذا كنت قد أشرت إلى مدى المعاناة النفسية التى أتحملها عند فراق أحد أعواني أيا كان، فبالأحرى إذا كان صديقا!
ولا أعرف كذلك ما إذا كنت قد تحدثت عن الجانب غير الإنساني فى مسؤولية رئيس الدولة الذى يتعين عليه فى الغالب، إن لم يكن على الدوام، كبت مشاعره والتجرد منها عندما تكون مصلحة الوطن العامة مهددة؟ ولذا فإن من يتقلد هذه الوظيفة يجد نفسه دائما فى وضع نفسي وعاطفي بالغ الصعوبة لا سيما وأن الآخرين لا يتفهمون مواقفه. وأدهى ما فى الأمر أن مواطنينا، كغيرهم من الشعوب، يضفون طابعا شخصيا على تصرفات قادتهم بدءًا برئيس الجمهورية. فالعقوبة التى ينزلها مسؤول بمواطن مذنب لا يمكن أن تجرد من صبغتها الشخصية فى نظرهم، بل يعتبرونها فعل زيد ضد عمر. وعلى الرغم من أن إحدى مسؤوليات رئيس الجمهورية هي الدفاع بأي ثمن عن المصلحة العامة ضد المصالح الشخصية، فإنه لا يمكن أن يسلم من هذا النوع من الأحكام. فالأمر فى نظرهم يتعلق بـ "دفاع المختار عن منصبه بكل غال ونفيس"، و "طرده أي وزير يرى فيه منافسا محتملا". و "لا يريد بروز شخصيات قد تحجب عنه الأضواء"، و "يقوم دوريا بخلق الفراغ من حوله حفاظا على منصبه"، و "يصفى حساباته…" وإلى ما هنالك من اتهامات. وفى جو كهذا ظل شعارى على الدوام: الكلاب تنبح، والقافلة تسير!
وبخصوص توزيع المسؤوليات بين الأعراق فى موريتانيا، أشير عرضا إلى أننى قد حرصت طيلة بقائى فى السلطة على التناوب فى مختلف القطاعات الوزارية. وهكذا فإن جميع الوزارات التى توصف بأنها مهمة قد تعاقب عليها مسؤولون من مختلف الأعراق، شأنها فى ذلك شأن رئاسة الجمعية الوطنية. أما المنصب العمومي الوحيد الذى لم يعرف التناوب "العرقي" فهو رئاسة الدولة التى كنت أتصور أنها ستعرفه بدورها وفق الشروط المبينة أعلاه.
وكثيرا ما فكرت خلال سنة 1978 فى آفاق مراجعة دستورنا الصادر فى 20 مايو 1961 وما أدخل عليه من تعديلات لاحقة، تبعا لسرعة تطور عقليات مواطنينا. ويتعين على النص الجديد أن يقدم فى شكل مشروع للمصادقة عليه من قبل الشعب الموريتاني فى استفتاء عام. وتتناول الخطوط العريضة لتلك المراجعة إقامة نظام ثنائي الرأس فى قمة السلطة التنفيذية سبقت منا إليه إيماءة. كما تشمل التعددية الحزبية والنقابية. ولم يوضع من قيود على تلك التعددية سوى الاحترام المطلق للطابع الإسلامي للدولة الموريتانية، وصون الوحدة الوطنية التام، والاحترام المطلق للطابع الجمهورية للحكومة، والحظر التام لتبنى المرجعيات العنصرية والعرقية والقبلية والفئة الاجتماعية. وينبغى أن تكون كل هذه المفاهيم قد تم تحديدها بوضوح. ومن جهة أخرى تضمن الدولة عن طريق هذه التعديلات حرية المعتقد وحق ممارسة الشعائر الدينية لمن يعيش على أرضها شريطة التقيد بما تمليه الأخلاق والأمن العام من قواعد. وأخيرا، فإن هذه المراجعة ستمنح عناية خاصة واحتراما مطلقا لحقوق الإنسان.
أما بالنسبة للبرلمان، فإن الدستور الجديد كان سيحتفظ بنظام البرلمان ذى الغرفة الواحدة، ويبعث المجلس الاقتصادي والاجتماعي من مرقده ويجعله أكثر لحمة تنظيمية من سابقه الذى آل إلى الزوال. وكان على أعضاء هذا المجلس أن يمثلوا مصالح البلاد الاقتصادية والاجتماعية بأكثر الطرق ديمقراطية.
لقد كنت أتصور الخطوط العريضة لإصلاح الدستور الذى حكم البلاد حتى يوليو 1978 على هذا النحو. ولكن الظروف لم تسمح لى بتحقيق ذلك التصور.
من مذكرات الرئيس الراحل المختار ولد داداه