نشر أخي الفاضل الكاتب والخبير المصرفي الأستاذ باب سيد احمد سيداتي تدوينة نبه فيها إلى أهمية دور الهيئة الشرعية المعينة مؤخرا من قبل البنك المركزي الموريتاني مذكرا بما يتعين عليها القيام به في إطار مهامها بصفتها لجنة للمالية الإسلامية.
ونظرا لأهمية الموضوع سأحاول من خلا هذا الفقرات استعراض مفهوم الحوكمة الشرعية في البنوك الإسلامية مع عرض لمحة مختصرة عن تجارب بعض الدول في هذا المجال بعد تقديم نبذة مختصرة عن تجربة التمويل الإسلامي في موريتانيا مع اعترافي بأني لست مطلعا على تلك التجربة بشكل كبير نظرا لبعدي عن الساحة وفي ثنايا وختام هذه الفقرات نبهت إلى أهمية دور البنك المركزي والهيئة الشرعية في تطبيق الحوكمة والحاجة الي الاستفادة من تجارب الدول الأخرى والتعاون مع المنظمات المتخصصة.
تمهيد
بدأت تجربة المصرفية الإسلامية في موريتانيا في وقت مبكر نسبيا بتأسيس بنك البركة الموريتاني الإسلامي (باميس) سنة 1985،وكانت تلك الفترة تشهد توسعا ملحوظا لمجموعة البركة المصرفية في عدد من الدول.
كان انتشار وتوسع مجموعة البركة يمثل فرصة ذهبية لنجاح باميس في موريتانيا ويعزز إسهامه في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في بلد يتلمس خطواته الأولى نحو النمو والبناء.
لكن تجربة بنك البركة تآكلت بسرعة وهوى البنك بعيد إطلاق نشاطه بفترة قصيرة ليفلس وتدفع البلاد تبعات ذلك الإفلاس.
كانت النتيجة أن حزم الشيخ صالح كامل رحمه الله حقائبه واوقف مشاريعه الاستثمارية في موريتانيا التي لم تقتصر على القطاع المصرفي.
لكن النتيجة الأصعب أن هذه التجربة مثلت فضيحة مكتملة الأر كان دفع البلد ثمنها غاليا من رصيد شيده الآباء والأجداد علما وصلاحا وورعا لنحصده نحن بأيدي بعضنا تحايلا وتشويها لسمعة بلدنا وانقلابا غير أبيض على إرث الشناقطة الذي طالما تغنينا به وفاخرنا به الشعوب والأمم.
لخص الشيخ صالح كامل هذه التحربة بعبارتين مؤلمتين:
- الموريتانيون أكلوني
- توقعت أن أفشل في كل بلد إلا في موريتانيا
واستخلص الشيخ من هذه التجربة أمرا محددا وهو تحذير المستثمرين من الاستثمار في موريتانيا.
بعد هذه التجربة خلت الساحة المحلية من تجربة مصرفية إسلامية تذكر حتى مطلع الألفية حيث بدأت بعض البنوك بفتح نوافذ وفروع "إسلامية" لننتقل بعد ذلك إلى ما يشبه الطفرة النسبية في تأسيس البنوك الإسلامية.
لكن هذه الطفرة لم تعمر طويلا حيث أعلن عن إفلاس عدد من البنوك المحسوبة على التمويل الإسلامي.
إن أول درس يمكن استخلاصه من تجربة بنك البركة وإفلاس بعض البنوك "الإسلامية" في موريتانيا هو ضعف، حتى لا نقول غياب، الحوكمة الشرعية في إدارة المؤسسات المصرفية الإسلامية، وللبنك المركزي الموريتاني مسؤولية كبيرة في هذا الصدد بصفته جهة الإشراف المسؤولة عن إلزام البنوك الإسلامية بتطبيق حوكمة شرعية متكاملة.
تعريف الحوكمة
يعرﻑ بنك ﺍﻟﺘﺴﻭيات ﺍﻟﺩﻭﻟﻴﺔ ﺍﻟﺤﻭكمة ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺼﺎﺭﻑ بأنها " ﺍﻷﺴﺎﻟيب ﺍﻟﺘﻲ تدﺍﺭ بها ﺍﻟﻤﺼﺎﺭﻑ ﻤﻥ ﺨﻼل ﻤﺠﻠﺱ ﺍﻹﺩﺍﺭﺓ ﻭﺍﻹﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ ﻭﺍﻟﺘﻲ تحدﺩ ﻜﻴﻔﻴﺔ ﻭﻀﻊ ﺃﻫﺩﺍﻑ ﺍﻟﺒنك ﻭﺍﻟﺘﺸﻐﻴل ﻭحماية ﻤﺼﺎﻟﺢ حملة ﺍﻷﺴﻬﻡ ﻭﺃﺼﺤﺎﺏ ﺍﻟﻤﺼﺎﻟﺢ ﻤﻊ ﺍﻻﻟﺘﺯﺍﻡ بالعمل ﻭﻓﻘﺎ للقوانين ﻭﺍﻟﻨﻅﻡ ﺍﻟﺴﺎئدة ﻭبما يحقق حماية ﻤﺼﺎﻟﺢ ﺍﻟﻤﻭﺩﻋﻴﻥ " .
الحوكمة الشرعية
أما الحوكمة الشرعية فقد عرفها المهدي الصالحي بأنها “النظام الذي يُطَمئِن أصحاب المصلحة، ويضمن لهم عدم مخالفة المؤسسة لأحكام الشريعة الإسلامية، من خلال اتباعها للتعاليم الشرعية الصحيحة، والتأكد من صحة تطبيقها، مع الإفصاح الشرعي عن ذلك”..
وعرفها مجلس الخدمات المالية الإسلامية كما ورد في المعيار رقم 10 الخاص بالمبادئ الإرشادية لنظم الضوابط الشرعية للمؤسسات التي تقدم خدمات مالية إسلامية الصادر في ديسمبر 2009 بأنها: “النظام الذي يشير إلى مجموعة من الترتيبات المؤسساتية والتنظيمية التي تتأكد من خلالها مؤسسات الخدمات المالية الإسلامية أن هنالك إشرافاً شرعياً فاعلاً مستقلاً”.
من مبادئ الحوكمة
أما مبادئ الحوكمة فمنها الإطار العام للحوكمة الشرعية، والكفاءة، والاستقلالية، والسرية، والتناسق. المسؤولية، والشفافية.
وقد نوقشت هذه المبادئ في معايير مجلس الخدمات المالية الإسلامية ومعايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية.
والحوكمة لها أساسها الواضح من النصوص الشرعية التي توجب الصدق وأداء الأمانة وأداء الحقوق والعدل والبعد عن الغش والكذب والتحايل.
دور البنك المركزي في حوكمة المصارف الإسلامية
لا يمكن تنفيذ حوكمة متكاملة دون تدخل ورعاية من البنك المركزي الذي يتعين عليه القيام ضمن أمور أخرى بما يلي:
- تهيئة البيئة الملائمة لتسهيل تطبيق البنوك الإسلامية لقواعد الحوكمة.
- إصدار التوجيهات الإرشادية للمصارف الإسلامية لتوضيح مبادئ الحوكمة وكيفية تطبيقها
- وضع دليل مكتوب يتضمن قواعد الحوكمة والتأكد من تطبيق المصارف الإسلامية لها.
- إصدار التعليمات والتعميمات الموضحة لكافة القوانين ذات الصلة بعمل المصارف الإسلامية بما في ذلك إعداد نماذج للقوائم والبيانات المالية لتعبئتها بشكل منتظم من قبل البنوك الإسلامية
- تحديد نوعية التدقيق ووظائف الرقابة الدورية
- تأسيس وحدة أو إدارة خاصة بالدقيق للتأكد من التزام البنوك الإسلامية بأحكام الشريعة في جميع أعمالها وخدماتها.
- تقييم مدى التزام البنوك الإسلامية بالحوكمة
- لفت نظر الإدارة التنفيذية ومجلس الإدارة في البنوك الإسلامية إلى المخالفات التي يكتشفها مفتشو البنك المركزي في سياق أعمالهم الرقابية الدورية.
أهمية وجود هيئة شرعية مستقلة
يحتاج البنك المركزي للتمكن من أداء مهامه في التأكد من تطبيق البنوك الإسلامية لحوكمة شرعية متكاملة إلى هيئة شرعية مستقلة تتمتع بكامل الصلاحيات لتأدية مهامها.
ونورد هنا باختصار لمحة عن تجارب بعض الدول في هذا المجال
تجربة السودان فيما يتعلق بأهداف ومهام وصلاحيات الهيئة الشرعية
يهدف إنشاء الهيئة الشرعية العليا إلى :
- مراقبة ومتابعة مدى التزام بنك السودان والمصارف والمؤسسات المالية التى تمارس أعمالاً مصرفية بتطبيق الصيغ الشرعية الاسلامية.
- تنقية النظام المصرفى من الشوائب الربوية فى المعاملات المالية والاقتصادية فى إطار احكام الشريعة الاسلامية .
سلطات الهيئة
للهيئة الاختصاصات والسلطات التالية:
- الاشتراك مع المسئولين فى البنك فى وضع نماذج العقود والاتفاقيات لجميع معاملات البنك والمصارف والمؤسسات المالية التى تمارس أعمالاً مصرفية للتأكد من خلوها من المحظورات الشرعية .
- ابداء الرأى والمشورة فيما يعهد اليها من البنك أو المحافظ من معاملات البنك أو المصارف والمؤسسات التى تمارس أعمالاً مصرفية .
- مراقبة عمليات البنك والمؤسسات المالية وتقديم ما تراه مناسباً من المشورة الشرعية الى محافظ بنك السودان فى أى من الأمور الخاصة بمعاملات البنك أو المصارف والمؤسسات المالية التى تمارس أعمالاً مصرفية .
- دراسة المشاكل الشرعية التى تواجه البنك أو المصارف أو المؤسسات المالية وابداء الرأى فيها .
- اصدار الفتاورى الشرعية فى الموضوعات التى يطلب فى شأنها فتوى شرعية .
مراجعة القوانين واللوائح والمنشورات التى تنظم عمل بنك السودان والمصارف والمؤسسات المالية التى تمارس أعمالاً مصرفية بغرض إزالة ما بها من تعارض مع أحكام الشريعة الاسلامية وذلك بالتنسيق مع الجهات المختلفة
- مراقبة مراعاة التزام وتقييد البنك والمصارف والمؤسسات المالية التى تمارس اعمالاً مصرفية بالجوانب الشرعية فى جميع أعمالها المصرفية والمالية .
- معاونة أجهزة الرقابة الفنية على المصارف فى أداء مهامها وفقاً لأحكام الشريعة الاسلامية .
- مساعدة إدارة بنك السودان فى وضع برامج تدريب للعاملين بالبنك والصمارف والمؤسسات المالية التى تمارس أعمالاً مصرفية بما يؤدى الى استيعاب الصيغ الاسلامية والجوانب الفقهية والشرعية فى المعاملات .
- إعداد البحوث والدراسات التى تؤدى الى إثراء إتباع النهج الاسلامى فى الاقتصاد.
- تقديم تقرير سنوى لوزير المالية والتخطيط الاقتصادى عن السلامة الشرعية لمعاملات البنك والمصارف والمؤسسات المالية التى تمارس أعمالاً مصرفية .
- أي إختصاصات أخرى تراها الهيئة الشرعية لازمة لتحقيق أهدافها.
- اصدار لائحة لتنظيم أعمالها وتحديد اجتماعاتها .
ويكون للهيئة فى سبيل تحقيق الاختصاصات المنصوص عليها فى المادة (5) من هذا القرار السلطات الآتية :
- الاطلاع على أى مستندات أو وثائق أو سجلات أو عقود أو مكاتبات ترى أنها لازمة وضرورية لتمكينها من أداء مهامها .
- تفتيش أعمال بنك السودان والمصارف والمؤسسات المالية التى تمارس أعمالاً مصرفية بغرض التأكد من سلامة تطبيق الجوانب الشرعية فى اعمالها.
وتعد الفتاوى والقرارات التي تصدرها الهيئة فيما يتعلق بعملها ملزمة للبنك المركزي وجميع المؤسسات المصرفية والمالية. ويقع على عاتق البنك المركزي تجهيز مقر الهيئة وتوفير الميزانية اللازمة لتسيير أعمالها.
التجربة الماليزية
حدد البنك المركزي الماليزي المبادئ التالية إطارا للحوكمة الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية.
- تحديد متطلبات المصرف المركزي الماليزي فيما يخص هياكل الحوكمة الشرعية والعمليات، والترتيبات الواجب توفرها في المؤسسة المالية الإسلامية، من أجل ضمان توافق جميع عملياتها وأنشطتها المالية مع أحكام الشريعة الإسلامية.
- توفير دليل إرشادي شامل لمجلس الإدارة وهيئة الرقابة الشرعية وإدارة المؤسسة المالية الإسـلامية برمتهـا حول كيفية تأدية واجباتها المتعلقة بالقضايا الشرعية.
- توصيف الوظائف المتعلقة بالمراجعة الشرعية والتدقيق الشرعي وإدارة المخاطر الشرعية والبحث الشرعي.
التجربة المغربية
اعتمد المشرع المغربي فيما يتعلق بقواعد الحوكمة منهج الرقابة في المؤسسات التي تقدم خدمات مالية تشاركية على مستويين، أحدهما داخلي والآخر خارجي. فعلى المستوى الداخلي أوجب القانون البنكي إحداث وظيفة المطابقة للتقييد بالآراء الشرعية ذات الصلة للمجلس العلمي الأعلى، وعلى المستوى الخارجي تقوم لجنة المالية التشاركية ببحث أراء المطابقة التي يصدرها هذا المجلس. (1)
الخاتمة
ما يهمنا في استعراض لمحة مختصرة عن تجارب هذه الدول في مجال تطبيق قواعد الحوكمة الشرعية هو التنبيه على أهمية استفادة البنك المركزي الموريتاني وهيئته الشرعية من هذه التجارب لتطوير آليات تطبيق الحوكمة في البنوك الإسلامية لأن ذلك يخدم جميع أصحاب المصلحة (stakeholders) من مودعين وعملاء وجمهور ومساهمين وجمهور المراقبين والبنك المركزي نفسه وسمعة الصناعة المالية الإسلامية في موريتانيا.
وحسبما معلوماتي المحدودة فإنه ما زال أمام البنك المركزي وهيئته الشرعية الكثير مما يتعين القيام به لتعزيز حوكمة المصارف الإسلامية.
ومع أني لا أعرف أعضاء اللجنة الشرعية التي عينها البنك المركزي لكني أتوقع أن تكون من الكفاءات العلمية المتميزة في موريتانيا واتوقع انهم سيكونون أكثر حرصا من غيرهم على إقامة نظام حوكمة شرعية متينة خدمة لتجربة التمويل الإسلامي بصفتها نظاما مكملا للأنظمة المالية القائمة - ولم لا يكون بديلا- وأداة فاعلة لدعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتوزيع الثروة بصورة عادلة.
إن نظام حوكمة شرعية متكامل وقوي هو مفتاح وأداة حماية أي نظام مالي إسلامي حقيقي تحتاجه البلاد والعباد.
ولعل مما يساعد في ذلك وجود إرادة سياسة لا تمانع في تطوير التمويل الإسلامي في موريتانيا.
وأهمية نظام الحوكمة الشرعية أنه يضمن إلى حد كبير استقرار النظام المصرفي بشكل عام والنظام المصرفي الإسلامي على وجه التحديد وهو وسيلة فعالة لمواجهة حالات الإفلاس المتكررة .
ويمكن للبنك المركزي الاستفادة من تجارب دول قطعت أشواطا متقدمة في مجال الحوكمة الشرعية مثل ماليزيا والبحرين، كما يمكن التعاون مع المنظمات المتخصة مثل هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية في البحرين ومجلس الخدمات المالية الإسلامية في ماليزيا.
الهادي بن محمد المختار النحوي
اللهم عنا الوباء والبلاء
رب اغفر لي ولوالدي ولوالديهم ولجميع المسلمين
والصلاة والسلام على الحبيب الشفيع سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
————
(1) المهدي الصالحي - مستقبل المالية الإسلامية في ظل تطور نظام الحوكمة والحوكمة الشرعية