البلطجة الرَّقمية

أستغرقُ هذه الأيام في نُوستالجيا لبرلمانات حقبة الطائع، كانت أقرب لكهوف المعابد، هادئة نائمة، تغشاها المودة والرحمة، جنَّة سياسية عذراء، يتحاورُ نوابها وشيوخها وكأنهم يمارسون اليُوغَا، لا يقولان لاَ إلاَّ في تشهُّدٍ، لا يرفعون الصَّوت، فقط الأصبع.

التَّشاتُم البرلماني حالة شائعة، وسبق وناولنا النائب محمد غلام من نفس طبق مُشادَّات التَّنابز حين كذَّب الشَّائب إبراهيم ولد داداه، وتنابز النائب بيرام والوزير ولد إجاي بسيِّئ الألفاظ، ولجأ غيرهم لبعض "الآكشِن والقفشات" لزوم الأصوات، وظل الأمر في حدود حلبة الملاكمة البرلمانية.

ارتقى الغضب مرتقًى عاليًّا هذه المرة بالنائب القاسم وبرئيس الجمعية الوطنية، لدرجة "شِ ماهُ برلماني"، القاسم مشهور بعصبيَّة مُزمنة، ورئيس الجمعية صاحب نعمة "محسود"، فقد قيَّض الله له كرامة وليٍّ ماليَّة لا تنبغي لأحد من بعده،.. جديد احتكاك النائب والرئيس قديم قدم أسبابه،.. وتحاورهما من عُمْرِ تجاورهما في انواذيبُ.

الجديد أن حربًا أهلية رقمية تندلع بالوكالة عن الرجلين، ومُعدَّات الهجوم يتقدَّمها "الواتس آب"، يتمسَّح به مدد من العَتَّالين لساقط الكلام.. والكارثة المؤصَّلة أنَّ مثل هذه الحرب أصبحت فرض عين بعد كلّ خلاف أو انعطاف سياسي أو اجتماعي أو عرقي في هذا البلد.. والسَّكينة منتهية المدة بحكم مقتضيات الأسلحة الجديد.

من غريب أيَّامنا أن العين تستيقظ بحثا عن "الواتس آب"، مُتشوِّفة في تَعطّش لآخر اصدار وطني من غِسْلين الشّجار وزئير العورات، لقد حَمَلَنَا الفاسق الإلكتروني إلى عصر التَّوحش الأخلاقي،.. كان العامة في عافية من ركوب خُصومات السَّادة والسَّاسة حتى خَلَّفَ لهم ابليس وسائطه، ومكنهم من الاستنساخ والتوزيع بشهوانية. 

نسختنا من الواتس آب، عمل غير صالح من الدرك الآسن، عظَّم من رزيتنا الأخلاقية، أتاح لأي سفيه ساهر، يُسامِرُ البعوض مع النَّت، لا يُمثل حتَّى نفسه، أن يُسجِّل إعلان حرب في شكل صوتية باسم قبيلة أو شريحة، ينفثه في هاتفه، وقبل أن يجف مداد الصوتية يتلقفها على الطرف المقابل سفيه آخر من ورثة الشيطان المُستأمنين على الوقيعة بالوقائع والخدائع، فيسجل ردًّا من مقامات البذاءة الملحَّنة والمعزوفة حارقًا أعراض الأبرياء،.. وإنِّي لآتٍ بما لم تستطعه من سفاهةٍ،.. ومن فاحش القول المُهين لفاحش القول المُسيء، تكبر كُرة الثلج المقيتة وتتدحرج بين الهواتف، تتنافس الوقاحة، ويَرْكب بعضها بعضًا في تصاعد مُحتَمِلٍ لكلِّ شيء..، فَمَا نَفر من فُجور معلوم إلاَّ وأُوتيَّ في "الواتس آب" الموريتاني. 

هذا التطبيق العَمَليّ الجميل، حَوَّلناهُ لمسخ فضائحيّ الأفق والمَسْعَى، وحَوَّلَنَا هُوَّ لأمَّة مُنقادة إلى الهذيان، انصرفت الآذان في نَهمٍ إلى الصوتيات، تُتَداول كالمخدِّرات، لا شيء يَسُدُّ الجوع للفضائح، تتأذَّى الناس وتحرج وتجرح بالكذب.. نَعَمْ!، تُسوَّقُ الكراهية.. عادي!، تُشحن الأنفس وتتصرَّم العلاقات التليدة.. مسموح!،.. المهم يُملأ فراغ الموريتاني الفارغ... أصبح بأسنا بيننا شديدا منذ أُلقيَّ بنا في تَهلُكة الرَّقميات، وأُركِبنا مَركبًا عسيرا لم نتهيَّأ له.. 

وإنّ من بيننا لفتَّانون باللسان وبالصّورة،.. يندلقُ يوميا عصير مُتطرِّف من حصائد الألسن، يتطاول على الأبرياء تعريضا وتمريغا في جهل تمتطيه جاهلية،.. فكم يطالعنا من لسان نسوي استحرَّ ذكورية، يُطلق رصاصًا عشوائيا، يُوغل الصدور، يُنْكِئُ جراح الظلم ويُجدِّف للوراء في الظلام الاجتماعي، ويُحرِّض،.. كم يُطالعنا يوميًّا من "دحسات" البث المباشر المختال، فكل املود طريّ التستسترون، بضّ الملامح من الباعة المتجوّلين للعداوات، يعيش طورًا فيروسيًّا منَ النرجسية المنقرضة، يَصلُح أن يكون مُتسيِّدًا من أهل الفكر والذِّكر ومن أصحاب الجاه الإلكتروني، يترضَّى بالبذاءة من يُقرِّهُ على ما يُفرز من خواءٍ لم يُتوَّج بخَلاق،.. أُصبنا بتُخمة التَّشبع من انتحال التنظير والتَّفلسف المبتور الأطراف، واستسهال القذف والذَّم، والحرابة بالتَّنمر الرقمي ممن يتضرجون في وَهْمِ العِلم بمصلحتنا.. وهُمْ أنفسهم من خطايا المجتمع الرقمي.

تراجَع للصَّفِّ الأخير صوت المثقف التقليدي الناقد الناصح، وتصدرت الأضواء شريحة من مُناوشي المعرفة، توكَّأت على السَّب والتنقيص للتشويق، ومن تحتهم زوبعة شعبوية من المتابعين الافتراضيين، وكلّما ارتفع عددهم زادت الجُرأة على تجاوز المحاذير لإرضائهم، فَتَهتَّك الحاجز الأخلاقي اللَّفظي، واستبيح كل محظور باسم النِّضال الرقمي. 

الطريف أنَّ تواتر السَّقطات اللَّفظية المهينة وتلاحقها، جعل نصف الشعب يُهدِّد برفع دعاوي التَّشهير والإساءة على نصفه الآخر، مُعوِّلاً على الغَادَة 306 المُسترخيَّة في مُتَّكئها، تتهكَّم على تُهم الانتقائية.. وكأنَّ القضاء فاضٍ لهم يُطقطِق أصابعه، فلو مارسوا جميعا رياضة ضبط اللسان لكان أقسط عند الله، واستراحوا. 

الغالب على هذا الاسهال الإلكتروني ودبيبه أنَّه ليس انتصارا على وَرَعٍ للحق، بقدر ما هو انتصار للحميَّة وللنفس وبَغْي بغير علم، تتقدَّم فيه آصرة الدَّم على آصرة الدِّين والفكر والمُواطَنة، نتناكر ونتناغر في مُصارمة بالباطل على حساب الأعراض، وعلى حساب ما كان يجمع الناس من ألفة وتناغم ووقار.. 

أعظم الناس رَزيَّة من زاغ ينقر وينكش حميَّة على "الواتس آب"، ويُورِّث الضَّغائن العدوانية المُوثَّقة للأطفال.. وإذَا مَا الْتَأمَ جُرحٌ جَدَّ بالتِّذكار "فُوكال"، فَتَعلَّم كيفَ تنسَى، وتَعلَّم كيفَ تَمحُو!.. تعلَّم أن لا تتكلم تهريجًا أصلاً.

ومع ذلك ستظل الثورة الرقمية من محاسن هذا العصر...أتمنَّى!.. وليست سهلة أُمنيَّة المُتَطلِّبِ في السُّفهاء جذوة حِكمةٍ، لكنه الأمل في أن يَكسب العقل نضاله ضد العبث، مع أنَّ شأن العقل لا يُبشِّر بخير، فهو مشغول بالتَّحسر على الانحسار.
......
الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها.
هلاَّ كرهتم أكل لحم إخوتكم؟.

الدهماء

أربعاء, 05/02/2020 - 17:02